خامس أيام المهرجان الوطني للفيلم بطنجة .. بوح سينمائي وتجارب جريئة - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في اليوم الخامس من فعاليات الدورة الخامسة والعشرين للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة، التي تنعقد خلال الفترة الممتدة بين 17 إلى 25 أكتوبر الجاري، كانت السينما المغربية على موعد مع لحظات استثنائية من التأمل والانكشاف الفني. ولم يكن يوما عاديا؛ بل لحظة مكثفة للتفكير في معنى الصورة والسينما والإنسان والمكان، حيث اجتمع المخرجون والنقاد والمهتمون بالشأن البصري لمرافقة تجارب جريئة ومختلفة.

وشكّل ماستر المخرج حكيم بلعباس قلب اليوم بنقاش امتدّ لساعات طويلة حول ما سماه بـ”سوق المحبة” وجمالية القبح وسينما الحميمية؛ بينما تميّزت العروض بتنوّعها واختلاف رؤاها، من خلال أفلام مثل “حب في الداخلة” و”راضية” و”ولادة جديدة”. يوم تحوّل فيه المهرجان إلى ورشة أسئلة كبرى حول الذات والمجتمع، وحول السينما باعتبارها مرآة للتشظي والبحث والمصالحة مع الذات.

جمالية القبح

ناقش المخرج حكيم بلعباس مجموعة من الأسئلة ومن القضايا المتنوعة والتجارب الفنية والحياتية التي طبعت حياته الشخصية والفنية في نقاش مفتوح مع الجمهور والنقاد وعشاق السينما امتد لأكثر من ثلاث ساعات.

وتُعدّ سينما حكيم بلعباس، سينما الحميم أو السينما الحميمية (Cinéma Intime) تيارا فنيا وسرديا اتخذ من القرب الجسدي والعاطفي وسيلة للتعبير عن التجربة الإنسانية في أدق تجلياتها للقبض على اللحظة. والاشتغال على التفاصيل في مرحلة ثانية وصولا إلى خط الحكاية، ليتحول إلى ما سماه المخرج بـ”سوق المحبة” و”جمالية القبح”. وتتجاوز هذه السينما الطرح الكلاسيكي للسرد البصري الذي يعوّل على الحدث أو التحول الدرامي لتنغمس بدلا من ذلك في العالم الداخلي للشخصيات، حيث تُصبح الكاميرا عينا متطفلة ورفيقة في آن واحد تنقل الهشاشة والقلق والرغبة والصمت أكثر مما تنقل الحركة أو الفعل.

وتعتمد سينما حكيم بلعباس، حسب ما أفاد به وتدخلات النقاد، على تقنيات جمالية تعكس منظورا ذاتيا وشخصيا؛ فتسود فيها اللقطات القريبة وكادرات الوجه والعين والجسد بأجزائه الدالة. كما تتكرّر فيها الأصوات الداخلية والهمسات واستخدام الضوء الطبيعي والمواقع المغلقة. ولا تمثل هذه الخصائص مجرد أدوات بصرية وإنما أدوات فكرية تسعى إلى فهم الذات من الداخل لا من خلال العوائق الخارجية فحسب وإنما من خلال التمزقات الوجودية والعلاقات الملتبسة والحميمية المربكة التي يعيشها الفرد في سياقات اجتماعية متغيرة.

وحسب حكيم بلعباس، تكمن الإشكالية الكبرى لهذه السينما في علاقتها بالجسد؛ فبينما تحتفي بعض التجارب بجسد حر ومتعدد تعود أخرى لتكرّس خطابا يلامس الحرج أو يتحوّل إلى استعراض voyeurism ويقترب من استغلال المعاناة دون تفكيكها الحقيقي. كما تثير هذه السينما تساؤلات أخلاقية حول تمثل العنف الرمزي والجسدي وخاصة في الأفلام التي تتناول العلاقات الجنسية أو الأسرية المعقدة؛ مما يجعل من المتفرج شريكا في التجربة لا مجرد شاهد صامت ومتلق سلبي.

وتتبنى هذه السينما وهو يقدم مقاطع منها في اللقاء المفتوح سينما الحميمية، تقوم على تفكيك السلطة بمختلف تجلياتها سواء كانت اجتماعية أو نفسية أو جندرية؛ ذلك أن هذه السينما لا تثير أسئلة كبرى بقدر ما تُصرّ على تفكيك التفاصيل اليومية لتكشف عن هشاشة السلطة ذاتها عبر لحظات الصمت والضعف والبوح والتشظي. ويصر المخرج على “لحظات الأفلام التي تبقى راسخة في الذاكرة”، وعلى “الكتابة بالإحساس لا بالعقل بكثير من العفة”. وفي هذا الصدد، قال بلعباس: “لدي الكثير من البدايات ومن العقد ودون نهايات”. وفي هذه السينما يتشكل شخصية البطل / البطلة، غالبا ما تكون لا بطلا كلاسيكيا ولا مضادا للبطولة وإنما كائنا متورطا في ذاته وغارقا في شبكة من العلاقات المتصدعة. ويظهر كبطل (ة) حين ينهار، لا حين يواجه وتصبح نجاته أو انهياره انعكاسا لتوترات داخلية لا حلول خارجية. وهو ما يسميها بالإمساك/ القبض على اللحظة الفنية التي ينتظرها طويلا، حيث ” الأفلام هي التي تملي عليك متى تنتهي”.

وفي ماستر حكيم بلعباس درس أخلاقي في “سينما المحبة” وسوق المحبة “وسينما العفة”.. درس غني بالدلالات وقدرة كبيرة على الالتقاط والجمع والصبر والتركيب. فهي سينما تركيبية بإحساس وصدق مصاحبين. في هذه سينما “ليس هناك سيناريو محبوك”، وبقدر ما هي سينما بصرية، بأبعاد فلسفية أيضا. وسينما بلعباس تطرح أسئلة من قبيل كيف نحب؟ وكيف ننجو أو لا ننجو في علاقتنا بذواتنا وبالآخرين؟ ولهذا فإنها تظل واحدة من أكثر أشكال التعبير السينمائي قدرة على الغوص في العمق الإنساني دون الحاجة إلى بطولات أو مؤثرات أو خلاصات نهائية. إنها بعبارة بسيطة “جمالية القبح”.

“حب في الداخلة”

يشكل فيلم “حب في الداخلة” (إنتاج 2025/ المدة100 دقيقة) للمخرج خالد براهيمي، تجربة سينمائية واختيار سينمائي بما يسمى بـ”سينما المدينة” أو “سينما الصحراء” والمزج بهما بوعي مسبق من قبل السيناريست والمخرج والمنتج. ويستعيد المكان دوره المركزي كعنصر أساسي في بناء المعنى وفي سردية الفيلم، لا بوصفه خلفية صامتة للأحداث وإنما ككيان حي وشخصية فاعلة في السرد؛ فمنذ اللقطة الأولى تنجح الكاميرا في تحويل الداخلة إلى معبر بصري وجمالي لرحلة العاطفة والانتماء، حيث لا يمكن فصل الحب عن المكان الذي يحتضنه.

الداخلة في هذا الفيلم ليست مجرد مدينة في أقصى الجنوب المغربي، بقدر ما هي فضاء تتنفس فيه الشابتين الهاربتين من “غول” الدار لبيضاء بغية اكتشاف ذواتهما. وتتحول الأزقة والرمال والمرافئ ومزيج الأزرق والأصفر إلى مكونات عضوية في الحكاية، ويتناغم فيها البحر بالصحراء ليشكّلا خلفية شاعرية لا تخلو من قوة الدلالة. ولا يمثل البحر هنا فقط رمزا للحرية والانفتاح، وإنما أيضا للقلق الوجودي؛ في حين تكتسب الصحراء بعدها الرمزي كفضاء للتأمل والانكشاف الداخلي.

واستثمار المخرج والسيناريست الذي كان مبهورا بمدينة الداخلة أثناء زيارته لها وبجماليات الطبيعة في الداخلة يتجاوز البعد السياحي البصري نحو بناء خطاب بصري دافئ يوازن بين الواقعي والرمزي. فكل مشهد يكاد ينطق بجمال الطبيعة التي توظف لخدمة القصة، وكل زاوية تصوير تلتقط حميمية اللحظة بقدر ما تبوح بعشق المكان. وتبدو الشخصيات وكأنها تعيش تواطؤا خفيا مع الطبيعة، لا تنفصل عنها بقدر ما تندمج معها في إيقاع شاعري يوحي بأن الحب نفسه لا يمكن أن يولد إلا في حضن هذا الجمال الآسر. قال المخرج: “قدمت قصة بسيطة لشابتين تبحثان عن الحب، الأولى شابة مطلقة والثانية شابة تعاني من المرض والوسواس، وبالتالي خفت أن تأكل قصة حب الشابتين حب المكان”.

يقدم الفيلم قصة شابتين تقضيان رحلة من البيضاء بمدينة الداخلة بحثا عن الفرح والاستمتاع بالحياة واكتشاف المنطقة.

ويقدم فيلم “حب في الداخلة” يقدّم المكان بوصفه مرآة للعاطفة ومساحة للتجلي، ويصوغ علاقة سينمائية خاصة بين الجغرافيا والوجدان؛ فالحب هنا ليس فقط فعل إنساني وإنما هو أيضا حدث مكاني وطبيعي، يتخذ من الداخلة بطلا هادئا، عميقا، ومغريا في آن واحد. ويقدم الفيلم، سينما تحتفي بالمكان كحب آسر وممتع لا يستطيع الإنسان الابتعاد عنه.

الذات والتحرر

في فيلم “راضية” للمخرجة خولة أسباب بن عمر، الذي ينتمي إلى سينما المؤلف، وإلى السينما النفسية بامتياز، وينحاز بصريا إلى طبقة “هاي كلاس”. ونحن أمام عمل سينمائي يغامر باللون والأسلوب ليحكي قصة امرأة ترفض أن تبقى رهينة لما يُفترض أن يكون واجبا عليها بعد فقدان الزوج. ولا يمثل اللون الأسود الذي اختارته المخرجة فقط شكلا فنيا وإنما تعبير بصري في أفلامها وموقفا بصريا يعكس العمق النفسي للشخصية والظلال المتداخلة لحياتها بعد لحظة الانكسار.

ولا يعتبر فيلم “راضية” (إنتاج 2025/ المدة 82 دقيقة) بطلة نمطية وإنما شخصية متشظية تعيش في فيلا فخمة وسط مظاهر الرفاهية التي تخفي هشاشة داخلية عميقة. كما تنتمي إلى عائلة ميسورة؛ لكنها تعاني من وحدة صامتة تُخفيها خلف الأقنعة الاجتماعية التي تحيط بها. وبعد وفاة زوجها، تبدأ رحلة مختلفة لا تقتصر على الحزن والتذكر؛ فهي تتجه نحو حياة جديدة تتقاطع فيها الرغبة مع الذنب وتتداخل فيها الحاجة إلى الحب مع ثقل التقاليد.

وترتبط راضية بعلاقة غرامية بصديق زوجها السابق، وهو تمرين نفسي وذهني على استعادة الذات. إنها محاولة للتفاوض مع الفقدان والانبعاث في آن واحد. فالمخرجة لا تقدّم هذه العلاقة كفعل متهور بقدر ما تقدمها كمساحة إنسانية معقدة تنفتح فيها راضية على إمكانات أخرى للوجود وحب الحياة.

ولا يمثل الأسود في الفيلم لون الحداد بل خلفية لصراع داخلي لا يُقال؛ بل يُلمَح إليه من خلال الإضاءة والفضاءات الفارغة والحوار الصامت. وكل لقطة تبدو مشبعة بحس بصري دقيق يُظهر التوترات الخفية التي تعيشها البطلة. ومن خلال لغة سينمائية على شكل فسيفساء تقترب من البوح لا من التصريح، تتشكل ملامح شخصية راضية التي تعيد بناء عالمها على إيقاع الرغبة في الحياة لا الاستسلام لظل الغياب ولتنطلق في أفق جديد على دراجتها النارية…

ما يُميز فيلم “راضية” هو هذا التوازن بين الجماليات الصارمة والجرأة في طرح موضوع نسائي حساس؛ فالمرأة هنا ليست كائنا منهكا تحت وطأة التقاليد وإنما هي فاعلة في بناء مصيرها حتى حين تتعثر. ويتفوق الداخلي في الفيلم على الحدثي حيث تبدو كل لحظة وكأنها محكومة بالتفكير في السؤال الكبير حول كيف نحب بعد الفقد؟ وكيف نُعيد تشكيل ذواتنا وسط الألم والذاكرة والغياب؟

بهذا الفيلم الثاني تفتح خولة أسباب بن عمر مساحة للسينما النسائية الجادة التي لا تكتفي بتمثيل المرأة، وإنما تفككها وتعيد رسمها بلغة سينمائية مشحونة بالتوتر والصدق والجمال. وفي تجربة سينمائية متفردة لها خصائصها وأسلوبها، سينما خولة أسباب بن عمر يمكن التعرف عليها منذ الوهلة الأولى.

“ولادة جديدة”

يعود المخرج المغربي أيوب أيت بهي في فيلمه القصير “ولادة جديدة” ليثير أسئلة موجعة حول الهوية، والحرية، والقيود التي يفرضها المجتمع على الفرد؛ من خلال معالجة سينمائية شاعرية وعميقة تلامس التجربة الإنسانية في لحظاتها الأكثر هشاشة.

وتدور أحداث الفيلم حول تجربتين من زمن سنوات الرصاص كخلفية تاريخية وما بعدها. شخصية مناضل يخرج من السجن بعد قضاء فترة طويلة ليجد ابنه قد كبر بعد سنوات من الاعتقال ويحاول الانتحار. وشخصية شابة من الأمهات العازبات تعيش حالة من الانفصال الداخلي بين ما ترغب أن تكونه، وما يُنتظر منها أن تكونه. ومن خلال سرد بصري مكثف، وبتوظيف ذكي للإضاءة والرموز، يصوّر الفيلم لحظة مصيرية في حياة هذه الشخصية، حين تقرر كسر القوالب المفروضة والانعتاق من سجن الصمت، في ما يشبه الولادة الرمزية من جديد.

الحسين حنين، منتج الفيلم، قال، في تصريح لجريدة هسبريس، إن “أيوب أيت بيهي اعتمد أسلوبا بصريا مكثفا وشاعريا، حيث اختار أن يضع الكاميرا في مواجهة مباشرة مع مشاعر الشخصيات أكثر مما يركز على الحوار”، لافتا إلى أن “انتقاله بين أزقة الرباط القديمة وفضاءات معمارية مغلقة جعل المتفرج يشعر بعزلة الأبطال واغترابهم. ذروة الأحداث فوق سطح عمارة شاهقة أضافت بُعدا دراميا يختزل أقصى درجات التوتر والانتظار، مما منح الفيلم قوة بصرية ووجدانية واضحة”.

وأضاف حنين: “العمل جمع ثلة من الممثلين الذين أبدعوا في تجسيد أدوارهم. الفنانة لطيفة أحرار أضافت بُعدا إنسانيا عميقا بحضورها المميز، فيما قدمت أميمة بريد أداء صادقا لدور الأم الشابة التي تعيش صراعا داخليا بين غريزة الأمومة ورغبتها في التحرر. أما سعيد آمل فقدّم شخصية مؤثرة لرجل فقد كل شيء، لكنه لا يزال يبحث عن معنى للحياة. صدق الأداء جعل الفيلم أكثر قربا من المتفرج”.

وتُصوّر هذه “الولادة” ليس فقط كانتقال من حالة إلى أخرى، فهي انتفاضة داخلية على الموروث، والأدوار النمطية، والخوف المتراكم عبر الزمن. إنها لحظة مواجهة بين الذات الحقيقية والذات المُقنّعة، بكل ما تحمله من ألم، وتمزق، وأمل أيضا.

ويعالج “ولادة جديدة” إشكاليات وجودية عميقة، تبدأ من سؤال الهوية: من نكون فعلا حين نتحرر من نظرة الآخرين؟ وما الثمن الذي ندفعه في سبيل ذلك؟ كما يتطرق إلى قضية الحريات الفردية في مجتمعات تُحاصر الفرد بتوقعات جاهزة وقوانين غير مكتوبة، وتجعل من كل اختلاف جريمة.

والفكرة التي يعرضها الفيلم، بتجريد فني رفيع، هي الخوف من المجتمع، ليس باعتباره كيانا خارجيا فقط، وإنما كصوت داخلي يتسلل إلى لاوعينا، يحاكمنا ويقيّد اختياراتنا.

وحسب الحسين حنين، فإن الرسالة “التي يحملها الفيلم بسيطة وعميقة في آن واحد: الحياة قادرة على منح الإنسان فرصة ثانية. ويدعو الفيلم إلى التفكير في معنى الحرية، في ثقل الأمومة، وفي كيف يمكن للقاء عابر أن يغير مصير إنسان. نحن لا نقدّم أجوبة جاهزة، بل نفتح المجال للتأمل والمساءلة”.

ولا يمثل فيلم “ولادة جديدة” مجرد عمل سينمائي قصير، فهو دعوة للتأمل في واقعنا الاجتماعي، وفي المساحات التي نمنحها للآخر ليكون على طبيعته. إنه فيلم يفتح باب النقاش حول حقوق الفرد، وتقبل الاختلاف، وضرورة إعادة تعريف مفاهيم مثل الشرف، والنجاح، والحرية، في ظل تحوّلات اجتماعية متسارعة.

يختتم اليوم الخامس من الدورة الخامسة والعشرين للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة على إيقاع كثيف من الأسئلة والتقاطعات التي تركتها الأفلام والنقاشات العميقة التي واكبتها؛ فمن جمالية القبح في سينما حكيم بلعباس إلى دفء المكان في “حب في الداخلة”، ومن تشظي الذات في “راضية” إلى صرخة الحرية في “ولادة جديدة”، بدا واضحا أن السينما المغربية بصدد إعادة تعريف نفسها بلغة جمالية جديدة، تبتعد عن المباشر وتقترب أكثر من الإنسان في هشاشته وغموضه. لقد كشف هذا اليوم عن تحول في الذائقة، وفتح الباب أمام مقاربات جريئة تحرّك الساكن وتوقظ الأسئلة. وهي لحظة سينمائية بامتياز، مشبعة بالبوح والصدق والاحتمالات المتعددة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق