بعد أن أبدت حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) موافقة مبدئية على بعض بنود خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الخاصة بتسوية الوضع في غزة، انفتح المشهد الفلسطيني على أسئلة حارقة بشأن الموقع الذي ستتخذه الحركة في قادم التحولات.
فبين التهدئة المؤقتة وتبادل الأسرى، تظل القضايا الكبرى معلّقة؛ من مصير الحكم في غزة إلى مستقبل السلاح ودور المقاومة، وهي عناوين لم تُحسم بعد، لكنها تشي بمرحلة سياسية مختلفة في الأفق.
وفي هذا المنعطف، تواصلت جريدة هسبريس مع عدد من الإعلاميين والأكاديميين الفلسطينيين لاستقراء ما قد تحمله الأيام المقبلة من تحولات في تموقع الحركة وتوازناتها بين خيار المشاركة السياسية وخط الدفاع الميداني.
وأكدت الفعاليات الفلسطينية التي تواصلت معها هسبريس، من إعلاميين وباحثين في الشأن السياسي، أن مستقبل “حماس” بعد الموافقة الأولية على بعض عناصر خطة التسوية سيظل رهينا بتوازنات دقيقة بين مقتضيات العمل المقاوم واستحقاقات الانخراط في مسار سياسي أكثر تعقيدا.
وأوضحت هذه الفعاليات أن الحركة تجد نفسها اليوم أمام مفترق طرق بالغ الحساسية؛ فإما أن تواصل تموقعها كقوة مقاومة تستمد شرعيتها من خطاب الرفض والمواجهة، أو أن تنخرط تدريجيا في مشهد سياسي توافقي قد يُعيد رسم أدوارها وتفاعلاتها الداخلية والخارجية.
وعلى الرغم من أن المواقف داخل الحركة لا تزال غير موحدة تماما، فإن مراقبين يرون أن “حماس” تحاول الموازنة بين الثوابت العقائدية وبين متغيرات الواقع، دون أن تخسر قاعدتها الشعبية أو تُفرط في مكتسبات مشروعها السياسي.
ويرى هؤلاء الخبراء أن الرفض الإسرائيلي المعلن لإشراك “حماس” في أية تسوية سياسية مقبلة يضع الحركة أمام معادلة صعبة، إذ إن تجاوبها النسبي مع بعض مضامين الخطة الأمريكية – خاصة ما يتصل بالتهدئة وتبادل الأسرى – قد يُفهم كخطوة واقعية تمليها اعتبارات إنسانية وأمنية في قطاع غزة؛ لكنه في المقابل لا يضمن لها موقعا ضمن ترتيبات الحل النهائي.
ويُضيف الخبراء أن “حماس” تجد نفسها في موقف دقيق، بين الحفاظ على خطابها المقاوم وبين الانفتاح على مسارات سياسية محفوفة بالتأويلات؛ ما يجعل مستقبلها مرهونا بقدرتها على المناورة وسط توازنات إقليمية ودولية معقدة.
مأزق التوازن
وائل حمدي، الصحافي الفلسطيني المستقل، قال إن موقع “حماس” اليوم يتأرجح بدقة بين ما يُمكن اعتباره مكسبا تفاوضيا وبين ما قد يُقرأ من خصومها كتنازل سياسي؛ فقبولها ببعض عناصر خطة ترامب، لاسيما ما يرتبط بالأبعاد الإنسانية وتبادل الأسرى، قد يُقدَّم داخليا كإنجاز في سياق الأزمة المتفاقمة داخل قطاع غزة، ويُسوّق كاستجابة واقعية لضغوط شعبية خانقة؛ غير أن هذا القبول، وإن بدا عقلانيا من زاوية البراغماتية السياسية، يضع الحركة أمام تحدٍّ مزدوج: أولا، ضرورة إقناع قواعدها بأن الخطوة لا تمس ثوابت المقاومة. وثانيا، تفادي تأويلها كعلامة على الانخراط في منطق التسوية.
وأضاف حمدي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “حماس” مطالبة اليوم بصياغة خطاب سياسي يُبقي على شرعيتها النضالية، وفي الآن ذاته، لا يُغلق الباب أمام تحوّلات إقليمية قد تفرض إيقاعها على كل الفصائل الفلسطينية.
وأبرز الصحافي الفلسطيني سالف الذكر أن الرفض الإسرائيلي العلني لأي دور لـ”حماس” في الترتيبات السياسية لما بعد الحرب يمثل أحد أعقد التحديات التي تواجه الحركة في هذا الظرف الحرج.
وعلى الرغم من أن هذا الرفض ليس جديدا، فإن تكراره في سياق دولي يدفع نحو تسوية شاملة يضع حماس أمام مأزق حقيقي؛ فإما التصعيد الميداني لفرض الذات كفاعل لا يمكن تجاوزه، وهو خيار مكلف إنسانيا وسياسيا، أو الانخراط عبر قنوات غير مباشرة في مسار تفاوضي يحفظ لها الحد الأدنى من الاعتراف والوجود الرمزي.
ورجّح حمدي أن تميل “حماس” إلى خيار ثالث، يتمثل في تعزيز شرعيتها من الداخل الفلسطيني، وتوظيف الرصيد الشعبي الذي راكمته خلال الحرب، للضغط باتجاه حضور سياسي غير مباشر، يحفظ موقعها ويمنع استفراد خصومها بالقرار الوطني.
وتابع المتحدث لهسبريس أن الولايات المتحدة، كما هي عادتها في مختلف ملفات الشرق الأوسط، تُقدّم مصالحها الإستراتيجية ومصالح حليفتها إسرائيل على أي اعتبار آخر.
وأكد أن واشنطن لن تتورط في دعم أي صيغة تُعيد لحماس موقعا رسميا في المشهد، حتى وإن اضطرت إلى التعامل معها بشكل غير مباشر أو عبر وسطاء إقليميين.
ولفت إلى أن الإدارة الأمريكية ستحرص على الحفاظ على قدر من التوازن: لا إقصاء كامل لحماس يهدد الاستقرار، ولا شرعنة واضحة قد تُغضب تل أبيب أو تُضعف السلطة الفلسطينية؛ وهو ما يجعل موقفها قائما على مزيج من البراغماتية والتوجس يُدير الملف بحسابات دقيقة بين الضغط والاحتواء، دون التورط في مسارات تفرض عليها اعترافا سياسيا كاملا بالحركة.
المقاومة الفلسطينية
قال الدكتور سامر الدويك، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة إسطنبول صباح الدين زعيم، إنّ التعاطي مع خطة ترامب الجديدة لا يمكن فصله عن محاولات إعادة تشكيل الخريطة السياسية الفلسطينية بما يخدم موازين قوى إقليمية ودولية تسعى إلى إنهاء دور الفصائل المقاومة أو تطويعه.
واعتبر الدويك أن “حماس”، رغم محاولات عزلها سياسيا، لا تزال تحظى بشرعية شعبية واسعة بوصفها حركة مقاومة؛ وهو ما يضع المجتمع الدولي أمام معضلة التعامل معها: إما احتواؤها ضمن تسوية تُضعف خطّها النضالي، أو الإبقاء عليها كفاعل خارجي غير مرغوب فيه.
وشدد المتحدث على أن أية محاولة لإدماج “حماس” في صيغة سياسية تتطلب إقرارا بدورها النضالي وتاريخها في مقاومة الاحتلال، وإلا فإنها لن تقبل بموقع رمزي أو تقني داخل منظومة سياسية لا تراعي ثوابتها.
وأضاف الدويك أن الرهان على تحييد “حماس” من خلال ضغوط سياسية أو اشتراطات دولية سيفضي، في الأغلب، إلى نتائج عكسية.
فالحركة، حسب قوله، أثبتت في محطات سابقة قدرتها على المناورة والتكيّف، دون أن تتنازل عن جوهر مشروعها المقاوم، وهو ما يجعلها رقما صعبا في أي معادلة.
وسجل الأستاذ الجامعي أن بعض الجهات الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تميل إلى إعادة صياغة المشهد الفلسطيني عبر بوابة الإعمار أو الدعم الإنساني، دون الانخراط في حل جذري لقضية الاحتلال؛ وهو توجّه، وفق الدويك، لا يمكن أن يُفضي إلى استقرار حقيقي، ما دامت مقومات السيادة والعدالة غائبة عن أي اتفاق مفروض من الخارج.
وأكد أستاذ العلاقات الدولية بجامعة إسطنبول صباح الدين زعيم أن أية مقاربة دولية تتجاهل الوزن الشعبي والسياسي لـ”حماس” محكوم عليها بالفشل، مشددا على أن الحركة أصبحت، بفعل الواقع الميداني، طرفا لا يمكن القفز عليه في أي حل سياسي دائم.
وأبرز المتحدث لهسبريس أن الضغوط الغربية الرامية إلى احتوائها أو تفكيك جناحها العسكري قد تدفع بالوضع نحو مزيد من التعقيد، لا سيما إذا لم تُرفق برؤية شاملة تضع حدا للاحتلال وتُحقق العدالة للفلسطينيين.
كما أضاف الدويك أن الرهان على إعادة بناء قطاع غزة اقتصاديا، مقابل شروط سياسية تُقصي الفصائل المقاومة، لن يكون إلا تكرارا لسيناريوهات فاشلة جُرّبت في محطات سابقة.
0 تعليق