تزامنا مع افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية الحادية عشرة اليوم الجمعة، تعود إلى الواجهة مجددا طبيعة الخطاب الملكي في المغرب، ليس فقط كأداة توجيهية عليا؛ بل كمرآة عاكسة للعلاقة بين المؤسسة الملكية وبين الفاعلين السياسيين.
وضعت هسبريس الخطابات الملكية التي ألقاها الملك محمد السادس بعد دستور 2011 تحت مجهر تحليل البيانات، في محاولة للإجابة عن سؤال: ما هي رسائل الملك إلى السياسيين عموما؟. التحليل شمل 55 من الخطب التي ألقاها الملك في مناسبات وطنية، واستثنى تلك المرتبطة بمناسبات عالمية وإقليمية.
أولى النتائج التي توصلت لها هسبريس ضمن تحليلها هي أن الملك توجه إلى السياسيين بمختلف أصنافهم: حكومة وأحزابا، أغلبية ومعارضة، ضمن حوالي 70 في المائة من الخطابات المدروسة، في دلالة على محورية الشأن السياسي في اهتمام الملك محمد السادس، وعلى حرصه على تتبع أدائهم بالنقد حينا والتوجيه أحيانا أخرى.
خلال مناسبات مختلفة كـ”عيد العرش” و”افتتاح البرلمان”، لا يكتفي الملك بالتذكير بالمسؤوليات؛ بل يعيد في كل مناسبة ضبط البوصلة السياسية عبر خطابات تجمع بين التقييم والمساءلة والتصويب، إذ يُظهر التحليل أن البعد النقدي حاضر بقوة في أزيد من ثلث هذه الخطابات، بلغت في بعض الأحيان حد التساؤل عن “جدوى المؤسسات إن كان الشعب في واد والمسؤولون في واد آخر” (خطاب العرش 2017)، أو التحذير من “الركوب على الوطن لتصفية حسابات حزبية ضيقة” (خطاب العرش 2016).
هذه اللغة النقدية التي اتسمت بها الخطب الملكية تثير أسئلة جوهرية حول مدى تفاعل الطبقة السياسية مع مضامينها، ومدى استعدادها لترجمة تلك التوجيهات إلى سياسات واقعية. كما تفتح الباب لنقاش أوسع حول حدود المسؤولية السياسية في ظل توجيه ملكي مستمر، وحول ما إذا كانت الخطب أصبحت تؤدي وظيفة تصحيحية متكررة تعكس بطئا في استيعاب الرسائل الملكية.
محورية الفاعل السياسي
يُظهر تحليل هسبريس محورية الدور الذي يضطلع به الفاعلون السياسيون في اهتمامات المؤسسة الملكية، إذ إن ما يقرب من 70 في المائة من هذه الخطابات، وتحديدا 69.09 في المائة منها، وجه فيها الملك حديثه بشكل مباشر إلى السياسيين بمختلف انتماءاتهم وأدوارهم، سواء كانوا ممثلين للأحزاب السياسية أو أعضاء في الحكومة أو منضوين تحت راية الأغلبية أو المعارضة.
هذا التركيز يؤكد أن الأداء السياسي للمؤسسات والأحزاب يظل في صلب انشغالات الخطاب الملكي، ويشكل محورا أساسيا للتوجيه والمتابعة؛ مما يبرز الدور المحوري للملك في الإشراف على مسار العمل السياسي الوطني بعد الإصلاحات الدستورية المهمة، حسب ما يؤكده المختصون.
حفيظ اليونسي، أستاذ العلوم السياسية، أكد أنه “بالاستناد إلى الدستور، فالملك هو رئيس الدولة. وحدد الفصل 42، بالخصوص، أدواره الدستورية في العلاقة مع مختلف السلط والمؤسسات”.
وأوضح اليونسي، ضمن تصريح لهسبريس، أن هذه “الأدوار تأخذ بعدا رئاسيا، بما يضمن استمرار الدولة وحماية للحقوق والحريات”.
وأضاف الأستاذ المختص في العلوم السياسية أن “الخطب والرسائل الملكية عرفت طابعا خاصا مع الملك محمد السادس من حيث الكم أساسا”.
منبران متوازيان
تتوزع رسائل الملك محمد السادس الموجهة إلى الفاعلين السياسيين على مناسبات وطنية محددة. ويكشف تحليل البيانات أن خطاب افتتاح البرلمان وخطاب عيد العرش يتقاسمان النسبة الكبرى من هذه التوجيهات، بنسبة 34 في المائة لكل منهما.
هذا التوازن يؤكد أن الملك يستغل المنبر التشريعي الأبرز في البلاد (افتتاح البرلمان) للتواصل المباشر مع ممثلي الأمة. كما يغتنم مناسبة عيد العرش، التي تحمل أبعادا تاريخية ووطنية كبرى، لتقديم رؤاه وتوجيهاته الاستراتيجية للطبقة السياسية.
إلى جانب ذلك، تستحوذ مناسبة ثورة الملك والشعب على 18 في المائة من هذه الخطابات؛ فيما تستقطب المسيرة الخضراء 13 في المائة منها.
عبد الرحيم العلام، الباحث في العلوم السياسية، أكد أن الخطب الملكية تحمل في مضمونها توجيهات للعمل الحكومي، سواء تعلق الأمر بتحديد القطاعات ذات الأولوية أو تعزيز مجالات معينة؛ كالماء، والحكامة، والاستثمار، وغيرها من القضايا التي كانت موضوعا مباشرا لتوجيهات ملكية أثرت على عمل الحكومة.
وأضاف العلام، في تصريح لهسبريس، أن “خطاب افتتاح البرلمان لا يخلو من إشارات وتوجيهات، رغم أن البرلمان مؤسسة مستقلة”، لافتا إلى أن الخطب الملكية تناولت قضايا متعددة؛ مثل تشجيع المشاركة السياسية، ومحاربة الانتهازية الحزبية، والحد من استعمال المال في الانتخابات، والدعوة إلى التوزيع العادل للثروة، وتشجيع إشراك المرأة، وتفعيل القوانين التنظيمية.
ما تحدث عنه الباحث المختص في العلوم السياسية هو ما أكده تحليل هسبريس؛ فضمن الخطابات التي تعنى بالشأن السياسي، توجه الملك ضمن 43 في المائة منها إلى السلطة التنفيذية (الحكومة). وفي المرتبة الثانية، تأتي الأحزاب السياسية (أغلبية ومعارضة) بنسبة 28 في المائة، أما السلطة التشريعية (البرلمان)، فتحتل المرتبة الثالثة بنسبة 26 في المائة. في المقابل، تأتي فئة المنتخبين والمجالس المحلية بنسبة 4 في المائة؛ مما يشير إلى أن التركيز الأساسي ينصب على المستويات السياسية والإدارية العليا.
وفي هذا الصدد، قال العلام إن “كل هذه المعطيات تؤكد أن للملك حضورا فعليا في المجال التنفيذي، سواء من خلال النصوص الدستورية أو عبر التأويلات. كما أن خطبه وتوجيهاته تظل مؤثرة في رسم السياسات العامة وتوجيه العمل الحكومي”.
التوجيه يتقدم
تظهر بيانات تحليل الخطابات الملكية الموجهة للفاعلين السياسيين تنوعا في طبيعة هذه الخطابات، حيث تتصدر الرسائل التوجيهية القائمة بنسبة 52 في المائة؛ مما يؤكد الدور الريادي للمؤسسة الملكية في الإشراف وتقديم الرؤى.
ومع ذلك، يبرز الحضور القوي للنقد، إذ جاء النقد الضمني في المرتبة الثانية بنسبة 18 في المائة، يليه النقد المباشر بنسبة 17 في المائة؛ مما يشير إلى أن الخطاب الملكي لا يتردد في تقييم الأداء السياسي بمختلف مستوياته. كما تضمنت الخطابات رسائل تشخيصية بنسبة 11 في المائة، فيما كانت نسبة الإشادة الأقل بـ2 في المائة.
ويُظهر التحليل أن البعد النقدي في الخطابات الملكية الموجهة إلى الفاعلين السياسيين حاز على حيز مهم ومؤثر؛ فعند جمع نسب النقد المباشر (17 في المائة) والنقد الضمني (18 في المائة)، يتضح أن ما مجموعه 35 في المائة من هذه الخطابات تضمنت تقييما نقديا لأداء الطبقة السياسية.
يؤكد هذا الحجم الكبير أن الخطاب الملكي لا يكتفي بالتوجيه الإيجابي؛ بل يتبنى استراتيجية صارمة في المحاسبة والتصويب.
وتُظهر خارطة النقد في الخطابات الملكية أن “العمل السياسي ككل” هو المستهدف الأكبر بنسبة 38 في المائة من الانتقادات الموجهة إلى الفاعلين السياسيين؛ مما يؤكد أن النقد يتجاوز مؤسسة أو طرفا بعينه ليطال المنظومة السياسية العامة.
ويأتي “العمل الحزبي” في المرتبة الثانية بنسبة 31 في المائة؛ ما يعكس التركيز على ضرورة إصلاح وتفعيل دور الأحزاب. كما حازت قضية “عدم تحمل المسؤولية السياسية” على حيز مهم من النقد بنسبة 22 في المائة؛ فيما كان تركيز النقد على “العمل البرلماني” و”المجالس المنتخبة” محدودا.
علق اليونسي على موضوع الانتقادات قائلا: “مع الأسف، الطبقة السياسية في عمومها لا تتعامل بالجدية الكافية مع مضامين هذه الخطب”، مضيفا أن “الأصل أن مضمون الخطب الملكية ملزم لكل المؤسسات، كما أن مؤسسات إنفاذ القانون يجب أن تحرص على تتبع مضمون هذه الخطب”.
وفي هذا الصدد، أشار العلام إلى أن الخطب الملكية تضمنت ردودا غير مباشرة على تصريحات أو مواقف صدرت عن الحكومة أو بعض الوزراء. وذكر، على سبيل المثال، الردود على تصريحات عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة الأسبق، أو البلاغ الذي صدر للديوان الملكي بعد تصريحات محمد نبيل بنعبد الله.
وتعكس مقتطفات من الخطابات الملكية حجم النقد المباشر، حيث تضمنت تحذيرات صارمة من “الركوب على الوطن لتصفية حسابات شخصية، أو لتحقيق أغراض حزبية ضيقة” (خطاب العرش 2016). كما وصلت حد التساؤل عن جدوى المؤسسات في حال كان “الشعب وهمومه في واد و[المسؤولون] في واد آخر” (خطاب العرش 2017)، مشددة على ضرورة أن تقف الهيئات السياسية الجادة إلى “جانب المواطنين، في السراء والضراء” (خطاب العرش 2018).
وفي الختام، قال اليونسي: “الجدية [التي تحدث عنها الملك] تعني أن النخب في بلادنا مؤتمنة على البلد.. وبالتالي، لا بد من تقديم المصلحة العامة على المصالح الفردية أو الحزبية أو الفئوية حرصا على الاجتماع السياسي وتقوية الجبهة الداخلية في مواجهة مختلف المخاطر”.
0 تعليق