في الأزمنة السابقة، كانت الجغرافيا تحكم السياسة، والموقع يحدّد المصير؛ لكننا اليوم نعيش في عصرٍ جديد، تتراجع فيه الحدود المادية لصالح الفضاءات الرقمية، ويعلو فيه شأن الكود على الخرائط، والخوارزميات على البنادق، ولقد دخلنا إلى طور جديد من التنافس الدولي؛ حيث لم تعد السيطرة على الأرض أو البحر أو الجو هي الغاية، بل أصبح السعي للهيمنة على العالم الافتراضي وقواعده، وبُناه التحتية، ونُظمه الخفية هو محور كل صراع.
في هذا السياق، يأتي كتاب “بناة العوالم: التكنولوجيا والجغرافيا السياسية الجديدة” للكاتب والدبلوماسي البرتغالي السابق برونو ماسيس كمحاولة طموحة لإعادة تفسير طبيعة السياسة الدولية في عصر التكنولوجيا المتقدمة؛ مؤكداً أن الثورات التكنولوجية في القرن الحادي والعشرين تعيد تشكيل المنطق العميق للسياسة العالمية، مقدماً نظرية جديدة حول كيفية تفاعل القوى العظمى في عالم تهيمن عليه التطورات التكنولوجية المتسارعة في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية والاتصالات، ويؤكد الكاتب أن الجيوسياسية لم تعد مجرد منافسة للسيطرة على الأراضي، بل أصبحت في عصر التكنولوجيا المتقدمة منافسة لإنشاء الأراضي نفسها؛ مما يتطلب إعادة النظر جذرياً في فهمنا للقوة والسيادة والهيمنة في النظام الدولي.
من الأرضي إلى الرقمي:
لم تعد الجغرافيا المادية وحدها هي المحدد الأوحد للنفوذ، بدلاً من ذلك يرى المؤلف بأن الثورات التكنولوجية في القرن الحادي والعشرين قد أحدثت تحولاً عميقاً في “المنطق الجيوسياسي”، دافعةً بالسيطرة على التقنيات المتقدمة إلى واجهة التنافس بين الدول الكبرى، فلم تعد القوة تُقاس فقط بمساحة الأراضي أو حجم الجيوش التقليدية، بل بقدرة الدولة على الابتكار، والتحكم في تدفقات البيانات، وتطوير البنى التحتية الرقمية، وحتى صياغة قواعد الفضاء الافتراضي.
ولا يقتصر هذا التحول على مجرد إضافة بُعد جديد للمنافسة للدولية، بل يُعيد تعريف طبيعة القوة نفسها، ويُغير ديناميكيات التحالفات والصراعات، ويُجبر الدول على إعادة التفكير في استراتيجياتها الأمنية والاقتصادية والدبلوماسية لتتناسب مع واقع جديد تُهيمن عليه التقنية.
ويوضح الكتاب كيف باتت شركات مثل: جوجل، وميتا، وأمازون تحدد قواعد اللعبة في مجالات حيوية كالذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني والفضاء السيبراني، وذلك من خلال حالات ملموسة لتورطها في رسم سياسات الهجرة، والمشاركة في مشاريع عسكرية مع البنتاغون، والتأثير في نتائج الانتخابات عبر خوارزميات التوجيه؛ مما يعكس أن مراكز الثقل لم تعد مقتصرة على الجغرافيا السياسية التقليدية، بل باتت موزعة بين وادي السيليكون وشنغهاي ومراكز البيانات العملاقة حول العالم.
ويقدم الكتاب تحليلاً لما يعرف بـ”السيادة الرقمية” وكيف تسعى الدول لاستعادة السيطرة على فضاءاتها السيبرانية عبر التشفير وبناء شبكات إنترنت وطنية وفرض ضرائب وقوانين على الشركات التكنولوجية العابرة للحدود، متسائلاً عما إذا كانت الدول تستطيع حقاً احتواء قوى خرجت من قمقمها التقني، وهل نحن أمام عودة الدولة أم نهاية عصر السيادة التقليدية؟
وسلط الكاتب أيضاً الضوء على أن الأساس الجغرافي التقليدي للسياسة الدولية قد تحول جذرياً، وأن القوى العظمى تسعى لبناء عالم تسكنه الدول الأخرى مع الاحتفاظ بالقدرة على تغيير القواعد أو حالة العالم؛ مما يمثل نقلة نوعية في طبيعة القوة الجيوسياسية.
ويؤكد أن التطورات التكنولوجية المتسارعة تخلق “أراضي اصطناعية” جديدة تتنافس عليها الدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة والصين، في منافسة عالية المخاطر؛ مما يعني أن مفهوم السيادة يتجاوز الحدود الجغرافية التقليدية ليشمل السيطرة على البنى التحتية الرقمية والمعلوماتية التي تشكل الأسس الجديدة للقوة في القرن الحادي والعشرين.
عسكرة الخوارزميات:
يُشير الكاتب إلى تفكيك البعد الأمني لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، مؤكداً أن ما نشهده اليوم هو “عسكرة غير معلنة للخوارزميات”، فالصراع لم يعد يدور حول من يمتلك القنابل التقليدية، بل حول من يملك البيانات، ومن يطوّر أسرع وأكثر نماذج الذكاء الاصطناعي تقدماً، ومن يستطيع استخدامه لاختراق شبكات الخصوم أو التأثير في وعيهم الجمعي.
ويناقش هذا التحول بشكلٍ موسّع ما يسمى بـ”سباق الذكاء الاصطناعي بين واشنطن وبكين”، مُظهراً كيف باتت النماذج اللغوية الضخمة (LLMs) وأدوات التعلم العميق جزءاً لا يتجزأ من الاستراتيجية العسكرية، والدبلوماسية، بل وحتى أدوات السيطرة الناعمة، فمثلاً لا يُعبّر تطوير الصين لنظام مراقبة جماعي مدعوم بالذكاء الاصطناعي عن تطور تقني فحسب، بل عن نموذج حوكمة شمولي يهدد النموذج الليبرالي الغربي.
وفي المقابل، تسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على تفوقها عبر تحالفات تكنولوجية مثل “مجموعة الرباعية التكنولوجية” (Tech Quad) التي تضم إلى جانبها: اليابان، وأستراليا، والهند؛ هذه التحالفات لا تهدف فقط إلى احتواء الصين، بل إلى إنتاج “نظام دولي تقني بديل” يعكس القيم الغربية، لكن الأخطر، هو ما يُعرف بـ”اللايقين الأخلاقي” الذي يكتنف استخدام الذكاء الاصطناعي في قرارات الحرب والسلم.
ومن خلال مفهوم “بناء العوالم”، يوضِّح الكاتب كيف أن القوى العظمى تسعى لإنشاء أنظمة تكنولوجية شاملة تحدد القواعد التي تحكم التفاعلات الدولية، هذه الأنظمة تتراوح من منصات الذكاء الاصطناعي إلى شبكات الاتصالات الكمية، ومن البنى التحتية الرقمية إلى أنظمة الدفع الإلكترونية؛ حيث تصبح القدرة على بناء هذه العوالم التكنولوجية والسيطرة عليها مؤشراً حقيقياً للقوة في النظام الدولي الجديد، ويخلق هذا التحول نوعاً جديداً من التبعية؛ حيث تصبح الدول الأصغر مجبرة على العمل داخل الأطر التكنولوجية التي تحددها القوى العظمى، مما يُعيد تشكيل مفهوم السيادة والاستقلال في العلاقات الدولية.
تحديات الهيمنة:
سلّط الكتاب الضوء على حقيقة مركزية مفادها أن “عصر الجغرافيا السياسية المُركزة على التكنولوجيا قد بدأ فعلياً”، وهي عبارة تختزل ببلاغة التحول الجوهري الذي يحاجج به المؤلف عبر فصول الكتاب؛ حيث لم تعد التكنولوجيا مجرّد أداة ثانوية أو عاملاً مساعداً على فهم السياسات الدولية، بل غدت في صميم كل نقاش يتعلق بمفاهيم القوة، والأمن، والازدهار.
وعليه، فإن الدول التي تُهمل هذا التحول أو تفشل في التكيف معه تُخاطر بأن تجد نفسها على هامش النظام العالمي، بينما تلك التي تُجيد توظيف الابتكار، وتستثمر في البحث والتطوير، وتبني استراتيجيات تكنولوجية متكاملة؛ هي التي ستتحول إلى القوى الأكثر تأثيراً وفعالية في القرن الحادي والعشرين.
ويؤكد المؤلف أن هذه المنافسة التكنولوجية لا تقتصر على صراع النفوذ بين الولايات المتحدة والصين، بل تشمل كل دولة ومجتمع يسعى إلى تثبيت موقعه في النظام الرقمي المتنامي؛ حيث تُصبح الحاجة إلى وضع استراتيجيات وطنية واضحة في مجالات مثل: الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، والحوسبة الكمومية، ضرورة وجودية لا مجرد ترفٍ اختياري.
وفي هذا السياق، يُعاد تشكيل بنية التحالفات الدولية، لتأخذ الطابع التكنولوجي بدلاً من الطابع العسكري التقليدي، فالشراكات التي تتمحور حول أمن سلاسل التوريد للرقائق أو تطوير معايير الذكاء الاصطناعي أصبحت بمثابة أدوات جديدة لتحديد النفوذ، وتعزيز المصالح الجيوسياسية؛ ومن ثمّ يدعو الكتاب إلى إعادة التفكير جذرياً في مفاهيم الأمن القومي، والسيادة، والعلاقات الدولية؛ انطلاقاً من أن التكنولوجيا لم تعد مجرد ساحة للتنافس، بل أصبحت هي ساحة المعركة نفسها، ومجال الفرص الجيوسياسية الجديدة.
ورغم الطموحات الواضحة لبعض القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين، في فرض سيطرة شبه مُطلقة على النظام التكنولوجي العالمي؛ يُقر المؤلف بأن هذا الطموح يصطدم بعقبات بنيوية عميقة، أبرزها: الطبيعة اللامركزية للفضاء السيبراني، والتطور السريع للتقنيات، والقدرة المتزايدة للجهات الفاعلة غير الحكومية، بل وللدول الصغيرة، على المشاركة المؤثرة في مشهد الابتكار العالمي، فقد باتت شركات ناشئة من دول غير كبرى قادرة على إحداث تحولات واسعة، كما يُسهم مطورو البرمجيات المفتوحة المصدر، والحركات الاجتماعية العابرة للحدود، والقراصنة، في كسر الاحتكارات وبناء بدائل مستقلة.
ويؤدي هذا التشابك المتعدد المستويات إلى بروز نظام تكنولوجي متعدد الأقطاب، تتحرك فيه الدول عبر تحالفات ديناميكية ومجالات نفوذ جزئية؛ ما يُعقد إمكانية تحقيق هيمنة شاملة، ويُسهم في خلق حالة من “الانقسام السيبراني” الذي قد يُنتج فضاءات رقمية متباينة من حيث القيم والمعايير والهياكل التنظيمية، ويفرض على المجتمع الدولي تحديات جديدة تتطلب أطر حوكمة عالمية مرنة وفعَّالة.
ويؤكد الكاتب أن عصر التكنولوجيا المتقدمة قد أحدث تغييراً في السياسة العالمية؛ مما يتطلب إعادة النظر في المفاهيم الأساسية للعلاقات الدولية، هذا التحول يؤثِّر في طبيعة السيادة والحكم والشرعية في النظام الدولي؛ حيث تصبح القدرة على بناء العوالم التكنولوجية والسيطرة عليها مصدراً أساسياً للقوة والنفوذ، ويُشير الكاتب إلى كيفية أن هذا التحول يُعيد تشكيل مفهوم التوازن الدولي؛ حيث لا تعود القوة مجرد قدرة على التأثير في الأحداث، بل قدرة على تحديد الإطار الذي تحدث فيه هذه الأحداث؛ فالدول التي تملك القدرة على بناء العوالم التكنولوجية تحصل على ميزة استراتيجية هائلة؛ حيث يمكنها تحديد قواعد اللعبة وتغييرها حسب مصالحها.
ويخلق هذا الوضع الجديد نوعاً جديداً من اللامساواة في النظام الدولي؛ حيث تنقسم الدول إلى بناة العوالم والساكنين فيها، كما يؤثِّر هذا التحول في مفهوم الأمن الدولي، حيث تصبح الهجمات السيبرانية والتلاعب بالمعلومات والسيطرة على البنى التحتية الرقمية أدوات رئيسية في الصراع الدولي، ومثل هذا التحول يتطلب إعادة النظر في القانون الدولي والمعاهدات والاتفاقيات الدولية لتواكب هذه التطورات التكنولوجية الجذرية.
ختاماً، يرى الكاتب أننا نعيش في عصر التكنولوجيا الجيوسياسية، الذي باتت فيه الخوارزميات لا تحل المعادلات فقط، بل ترسم الحدود، وتحدد الحقوق، وتوزّع السلطات؛ ولذلك، فإن تحدي القرن الحادي والعشرين لن يكون فقط كيف نطور التكنولوجيا، بل كيف نحكمها، وقد أوصى بضرورة بناء نظام دولي جديد لحوكمة التكنولوجيا، يضمن الشفافية، ويمنع الاحتكار، ويحمي حقوق الإنسان في العالم الرقمي، كما يدعو إلى إدماج المجتمع المدني والأكاديميين والفاعلين غير الحكوميين في صياغة مستقبل التكنولوجيا.
ويؤكد أن الدول التي تسعى للنجاة في هذا العصر الجديد لا يمكنها أن تبقى على هوامش الثورة الرقمية، بل يجب أن تمتلك رؤية استراتيجية، واستثمارات كبرى في البحث والتطوير، وقدرة على التأثير في القواعد الدولية، لكن الأهم، كما يخلص الكتاب، هو إدراك أن التكنولوجيا ليست مجرد وسيلة، بل فضاءً سياسياً جديداً بالكامل؛ وأن من يبنيه اليوم، هو من سيحدد شكل العالم غداً.
-
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة


















0 تعليق