تتويج منتخب "الأشبال" بالمونديال .. حين يلتقي اللعب بالجد والوطن بالحلم - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

Il n’y a pas d’endroit dans le monde où l’homme est plus heureux que dans un stade de football

Albert CAMUS

أنْ نلعبَ كيْ نفكر، وأن نفرحَ كيْ نكونَ

ما الفرح حين يتجاوز لحظته ليغدو فكرًا؟ أهوَ انفعال عابر أم وعيٌ جديد بالجماعة وهي تكتشف نفسها في صورة فريق يلعب باسمها؟ وما اللعب حين يصير شكلاً من أشكال الفلسفة، ينحت من الحركة معنى، ومن التنافس دربًا إلى الحكمة؟ أيمكن لتمريرة كرة أن تكون استعارةً للمُستقبل؟ وهل يمكن لصرخة انتصار أن تفتح في الرُّوح بابًا للفكْر؟ ماذا يحدثُ حين يلتقي اللّعب بالجدّ، والفرح بالمعرفة، والوطن بالحلم؟ أليس في تلك اللحظة التي يرفع فيها الشباب الكأس ما يرفعنا جميعًا من مستوى الواقع إلى مستوى الإمكان؟.

فلسفة الهدف: حين تتحول اللعبة إلى فكر

لقد فاز المغرب بكأس العالم للشباب؛ فوز تجاوبت أصداؤه في الوجدان الجمْعي كما لو أن الوطن نفسه استعاد طفولته في صورة فريق من الصبية الحالمين. لم تكن المباراة النهائية مجرد تنافس بين فريقين ومرمى، كانت لحظة تجلٍّ لوطن يتعلم من أبنائه الصغار كيف يكون كبيرًا، وكيف يمكن للّعب أن يصبح درسًا في المعنى، وكيف يمكن للفرح أن يتحول إلى فكر.

في تلك اللحظة التي رفع فيها القائد الشاب الكأس بدا وكأنه يرفع زمنًا جديدًا من أعماق العشب الأخضر، زمنًا تتصالح فيه الحركة مع الفكرة، واللعب مع الحلم، والوطن مع شبابه.

لم يكن الانتصار حدثًا رياضيًا فحسب، كان بيانًا فلسفيًا عن الإمكان. فكلّ تمريرة، كل لمسة، كانت إعلانًا صغيرًا عن انتصار الإرادة، والجماعة على الفردانية، والإتقان على الصدفة. هذه اللعبة التي نظنها لهوًا تنقلب فجأة إلى حكمة جماعية، وإلى تدريب رمزي على معنى الفرح المشترك. من المدرجات كان المشهد أشبه بدرس في الفرح المنظم. لم تكن الجماهير تتابع فريقًا فحسب، بقدر ما كانت ترى نفسها وهي تُعيد ابتكار ذاتها في صورة جسد جماعي يؤمن بأن النشيد الوطني ليس فقط لحنًا، بقدر ما هو شحنة من الذاكرة والاعتراف. هكذا استعادتْ كرة القدم، تلك اللعبة التي تسكنها العفوية، على يد الشباب معناها الفلسفي الأعمق: أن نلعب كي نثبت أننا مازلنا نعرف قيمة اللحظة، وأن الحياة الحقيقية تبدأ حين نصنع الفرح بالمثابرة والإصرار الجميل.

كيفَ يُصنع الحُلْم من العَرق والانْضباط

في كل ملاعب العالم هناك فريق يفوز، لكن هذه المرة كان الفوز نفسه من نوع آخر، كان أشبه ببرهان وجودي على أن اللعب يمكن أن يكون عملًا من أعمال الحلم، حين يجد من يحمله بصدق، ويغدو مشروعًا وطنيًا. من المستطيل الأخضر سطعتْ أسئلة جديدة: ماذا يعني أن نفرح؟ كيف يمكن لوطن أن يتعلم الفلسفة من أقدام أبنائه؟ كيف يتحول العرق والجهد والانضباط إلى شعور جماعي ينبض بالصدق؟ لقد بدا أن الشباب المغربي لم يفز بالكأس فقط، وإنما فاز بمعنى جديد للمستقبل، معنى يُبنى من الصبر والخيال والحركة في آنٍ واحد.

حين عانق اللاعبون بعضهم بعضا كان المشهد أكبر من صورة احتفالية. لم يكن الانتصار وليد صدفة رياضية، بقدر ما كان ثمرة رؤية وانضباط، وإيمان بأن اللعب لا يُختزل في المهارة وإنما في الحماسة المعنوية.

لقد بدَت اللعبة كأنها استعارة كبرى للوطن نفسه: مساحة مشعّة، قانون صارم، حركة حرة، وخيال لا نهائي. وكما يحتاج الفريق إلى التكتيك والإبداع يحتاج الوطن إلى التوازن بين النظام والحلم. وكما تُصنع الأهداف من تمريرات مُتقنة بين لاعبين يؤمنون ببعضهم تُصنع النهضة من حوارات صادقة بين أبناء الوطن الواحد. في الملعب كما في الحياة ليست النتيجة هي الغاية القصوى، وإنما الطريقة التي نصل بها إليها، والروح التي نحملها في طريق الوصول.

لقد أيقظ فوز الشباب بالمونديال فكرة قديمة في وجدان الأمة: أن الأمل ليس شعارًا، بقدر ما هو خبرة جماعية تُصاغ بالحركة، وأن الوطن لا يُبنى بالخُطب، وإنما باللعب النزيه، بالجهد الصادق، بالقدرة على تحويل العادي إلى استثنائي.

كان الفرح الذي عمّ البلاد بعد الفوز لحظة وعي بالقدرة على الفرح. حين يفرح الناس معًا فإنهم يعيدون بناء علاقتهم بالزمن: لحظة الفوز تصبح مساحةً يتصالح فيها الماضي مع الحاضر، وتتحول الذاكرة إلى طاقة مستقبلية. إن الفرح بهذا المعنى تدريب على الأمل، فلسفة للحياة لا تقل شأنًا عن كل المذاهب التي حاولت أن تُعرّف الإنسان من خلال العقل وحده. في لحظات الفرح يتكلم الجسد بلغة لم تتعلمها الكتب، ويصبح الوطن نفسه كائنًا حيًّا يبتسم، يستعيد نبضه، ويؤمن بأن المعنى يمكن أن يُصنع من أبسط الأشياء: من تمريرة، من هدف، من عناق صادق بين غرباء توحّدهم نشوة جماعية.

نُؤمنُ بالمستقبل لأننا نلعبُ بصدق

ليس اللعب نقيض الجدّ، كما يتوهم البعض، إنه جوهر الحكمة حين تتحرر من عبء التكلّف، إنه فنّ التعامل مع الحدود بوصفها فضاء للخيال، ومع القواعد باعتبارها إيقاعا للحريّة. في فلسفة اللعب يكمن سرّ الإنسانيّة: أن تكون جادًّا بما يكفي لتُبدع، وخفيفًا بما يكفي لتفرح. هكذا يصبح اللعب مختبرًا للفكر، لأنّه يعيدنا إلى الأصل، إلى تلك الحالة التي يتوحّد فيها الإنسان مع فعله دون مسافة أو تصنّع.

ولأن اللعب صنوُ الفرح فإن ثقافتنا في حاجة إلى أن تفهمه من جديد بوصفه قيمة تربوية وفكرية؛ فحين يلعب الشباب فإنهم يختبرون طريقة أخرى من أجل فهم الواقع وتغييره، يضعون داخل الحركة ما عجزت الخطابات عن قوله، ويحملون في أجسادهم خريطة الوطن الممكن. إن كرة القدم بهذا المنظور درسٌ في الكينونة: أن نكون معًا، أن نثق في بعضنا، أن نحترم القواعد من دون أن نفقد الخيال، وأن نُحوّل الفوز من غاية إلى وسيلة للفهم.

لا تنبع الثقة في المستقبل من الوعود أو الخطب، بقدر ما تتجلّى في لحظات من هذا النوع، حين يبرهن الشباب أن اللعب يمكن أن يكون ممارسة جادّة، وأن الجديّة يمكن أن تتجسّد في أسمى صور الفرح. ففي كل خطوة يخطوها هؤلاء الشباب تتشكل فلسفة جديدة للوطن، فلسفة تؤمن بأن المستقبل هو قفزة نوعية في مستوى الوعي، تصنعها طاقة جماعية قادرة على تحويل اللعب إلى تجربة شعورية مشتركة، تحمل في طياتها دلالات الانتماء والمسؤولية والإبداع.

حين يكتب الشباب مستقبل الفرح

أن نؤمن بالمستقبل لأننا لعبنا بصدق يعني إعادة تعريف الإيمان ذاته بوصفه ثقة في ما أنجزناه أثناء تحركنا بشغف ووضوح في الحاضر. فاللعب الصادق لا يقتصر على كونه تسلية، إنه نوع من النبوءة الجسدية؛ حدس يعمل من خلال الحركة لا بالكلام، وجهد يُبذل بعرق يتلألأ تحت ضوء الإيمان، محققاً بذلك وحدة بين الجسد والروح، وبين الحاضر والمستقبل. لذلك ليس من المستغرب أن يُنظر إلى اللعب في جوهره على أنه فعل نبيل من أفعال الأمل، تمرين على الصدق مع الفعل قبل انتظار النتيجة، وإيمان بأن ما يُبنى بالحب والدقة والمثابرة لا يمكن إلا أن يؤتي ثماره. فالوطن الذي يعرف كيف يلعب بصدق يعرف كيف يحلم بصدق أيضًا، وكيف يحول كل لحظة لعب إلى وعدٍ متجدد بأن المستقبل يبدأ من تلك اللحظة التي نركض فيها خلف المعنى دون أن نفقد البراءة ولا الإيمان.

اللعب الصادق هو أعمق أشكال الحرية، لأنه يمنح الإنسان إمكانية أن يختبر نفسه دون أقنعة، وأن يقيس طاقته بما يقدر على تخيّله. في اللعب يتجسد الإيمان بالفعل الإنساني في أنقى أشكاله: حركة بلا ادّعاء، سعي بلا غرور، انتصارٌ يليق بالذين تعبوا من أجل معنى لا من أجل شهرة.

ولأن اللعب الصادق هو شكل من أشكال الحقيقة فإنه يعلّمنا أن المستقبل يُنتزع بالنزاهة. لا يمكن لوطن أن يثق في غده ما لم يتعلم أن يبذل كل جهده اليوم بصفاء نية ووضوح هدف. حين نلعب بصدق نحن في الواقع نؤسس لثقافة أخلاقية جديدة، تؤمن بأن الطريق إلى النجاح يمر عبر الشغف، وبأن التفوق الحقيقي لا يحتاج إلى تزيين، وإنما إلى إخلاصٍ في الأداء، وإيمانٍ بأن الجمال يمكن أن يسكن في البساطة والانضباط.

ثمّة ما هو أعمق من الفوز في اللعب: ثقتنا في المستقبل، والإيمان بأننا لم نخدع أنفسنا في الطريق، وبأن ما تحقق لم يكن صدفة وإنما ثمرة صدقٍ جماعيٍّ يزرع في كل روحٍ حافزًا على الاستمرار. وحين يصل وطن إلى هذه الدرجة من الوعي يتحول اللعب إلى فلسفة حياة، ويصبح الفرح ذاته وسيلة للتفكير في المستقبل بثقة راسخة لا تزول. ففي هذا المعنى يعكس الفعل الصادق للّعب وعيًا جماعيًا يربط بين الحاضر والمستقبل، ويجعل من المتعة مكوّنًا جوهريًا في بناء مجتمع يؤمن بإمكاناته ويصنع مستقبله بوعي ومسؤولية.

اللعب والفرح بوصفهما معرفة ومستقبل

فهل كان الفوز سوى ذريعة ليُعيد الوطن اكتشاف ذاته في مرآة أبنائه؟ أليس اللعب في جوهره تمرينًا على الحلم، والحلم في عمقه وعدًا بالمستقبل؟ ألسنا، ونحن نحتفل، نعيد صياغة علاقتنا بالفرح بوصفه معرفةً لا انفعالًا؟ ما الذي يبقى بعد صافرة النهاية سوى الفكرة التي تحيا فينا: أن اللعب حين يُمارس بصدقٍ يتحول إلى فكر، وأن الفرح حين يُعاش بوعيٍ يصير فلسفةً للمستقبل؟ أليس هذا هو المعنى الأسمى للكأس: أن نحملها جميعًا في قلوبنا، رمزًا لزمنٍ يؤمن بأن الوطن يمكن أن ينتصر، ما دام يعرف كيف يلعب بحكمةٍ ويفرح بعمق؟.

لنتأمل، وإلى حديث آخر.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق