"لا يفتي قاعد لمجاهد".. بوشيخي يبحر في تحولات منظومة "السلفية المسلحة" - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تناولت دراسة حديثة لمحمد بوشيخي، باحث مغربي مختص في الإسلام السياسي وقضايا التطرف والإرهاب، نشرت بـ”مجلة المستقبل العربي”، التحولات العميقة التي شهدتها منظومة السلفية الجهادية في العقود الأخيرة، مركّزة على أثر اجتهادات سيد قطب وفكرة “أسبقية الجهاد على الفقه”.

توضح الدراسة المعنونة بـ”لا يفتي قاعد لمجاهد.. جدل العلم والعمل في مرجعية السلفية الجهادية”، أن هذا المنحى الفكري لم يَبْدُ مفردا بل جاء منسجما مع مناخات سياسية وعسكرية (حروب، غزوات، اجتياحات) أعادت ترتيب أولويات الفاعلين: العمل الميداني على حساب البنية الفقهية التقليدية. النتيجة كانت ولادة مرجعيات جديدة داخل البيئة الجهادية تقوّض دور المؤسَّسة العلمية التقليدية.

جذور المقولة وتقنية البرهنة

تُرجع الدراسة نشأة مقولة “لا يفتي قاعد لمجاهد” إلى الانزياحات المرجعية التي أهداها قطب عبر منهجه الذي يربط بين نموّ الحركة والنموّ النظري؛ فاعتبار قطب أن أسبقية الحركة على النظرية جعلت الفقه “تبعية” للتجربة الحركية.

ومن هذا المنظور يُعتبر اشتغال الفقه المستقل في مرحلة الانخراط الميداني عملا غير ذي معنى، بل خطرا؛ إذ أنه يفصم الفعل عن الروح الحركية المطلوبة لدى الطائفة المؤمنة.

بعد انتشار مقولات قطبية، وفق المصدر، في معسكرات التدريب والملتقيات الحركية (من بيشاور إلى شبكات الجهاد العالمية)، تقول الدراسة إن الفكرة لم تبقَ نظرية، بل تحولت إلى مبدأ تنظيمي في العديد من أجهزة السلفية الجهادية.

هذا المبدأ أنتج رفضا تدريجيا للوصاية الفقهية التقليدية وإضعافا لشرعية العلماء؛ فصار الجهاديون يعتبرون أن الفتوى التقليدية لا تواكب متطلبات “الميدان”، وبالتالي فقدت مرجعيات العلماء نفوذها أو صارت مستهدفة بالاستبعاد.

وتوضح الدراسة أن مقولة “لا يفتي قاعد لمجاهد” صارت أساسا فكريا لمشروع “داعش” بعد إعلان “دولة العراق الإسلامية” عام 2006. فقد اعتُمدت شرعية الدولة على الواقع الميداني، حيث تصرّ القيادة على أن أي قرار أو فتوى يجب أن يخدم مصلحة الجهاد واستمراره، بغضّ النظر عن الفقه التقليدي. وتبرر القيادة الميدانية سلطتها بظروف المعركة القاسية التي تتطلب حسما سريعا في اتخاذ القرارات.

وحسب المصدر ذاته، “أصبح واضحا أن القيادة الميدانية لها الأولوية على القيادة الشرعية في وضع الخطط وتنفيذ العمليات”، مشيرة إلى أن الأجوبة على التساؤلات الشرعية تتشكل وفق ما يخدم مصالح المشروع الجهادي أولا، وهو ما يعني إمكانية مخالفة الاجتهادات التقليدية للعلماء. وقد اعتبرت هذه الممارسة ضرورة ظرفية مرتبطة بقسوة المعارك.

وأثار هذا المنطق، وفق الدراسة، موجة من النقد داخل الصفوف الجهادية. فقد انتقد أبو الفضل العراقي التفريق بين العلم والعمل، معتبرا أن الفصل بين الجهاد والفقه سبب “فصاما” ونزاعا وهميا بين التوحيد والقتال. كما أشار أبو الحسن غريب إلى أن القادة الميدانيين أصبحوا يحكمون في كل شيء بما في ذلك الأحكام الشرعية، مستغنين عن دور العلماء ومرجعياتهم التقليدية.

وشاركت قيادات تاريخية مثل أبو قتادة والمقدسي في الجدل، معربين عن رفضهم لفكرة أسبقية الجهاد على الفقه. فقد حذر المقدسي من الفصل بين جهود الدعاة والمجاهدين، مؤكدا أن الجهاد لا يمكن أن يكون بمعزل عن التوجيه العلمي الشرعي، وأن أي إقصاء للعلماء يهدد شرعية القرارات والممارسة العملية.

وقبل إعلان انفصالها عن القاعدة في 2016، راجعت جبهة النصرة مواقفها، واعتبرت مقولة “لا يفتي قاعد لمجاهد” بدعة وليست قاعدة فقهية. وأكدت على أن الفتوى ليست مرتبطة بالمجاهد فقط، بل بالاستدلال والمرجعية العلمية، وأن العلماء يظلون المرجع الرئيسي في فقه الجهاد عبر كل العصور، مهما بلغت مساهمة المجاهد في العمليات القتالية، حسب الدراسة.

توصلت الدراسة إلى أن تطبيق هذا المنطق أفرز توتّرا داخليا بين القيادة الميدانية والشرعية، وهدّد التوازن بين الفقه والعمل الميداني. وتؤكد الحاجة إلى إعادة وصل بين المرجعيات العلمية والميدان، وتنظيم الفضاءات التعليمية للجهاديين، للحفاظ على الضوابط الشرعية والأخلاقية، وضمان شرعية القرارات في سياق العمليات الجهادية.

التكنولوجيا الرقمية و”الذئاب المنفردة”

الدراسة تبرز دور الفضاء الرقمي في تسريع تفكك البنية المرجعية؛ فالمنابر الرقمية صارت تُنشئ “مقاتلا” متعلما دينيا بشكل رقمي كامل، من التربية العقدية إلى التخطيط العملي. هذا ما أنتج ظاهرة “الذئاب المنفردة” التي تمثل تتويجا عمليا لمقولة “لا يفتي قاعد لمجاهد”: فردٌ ينتقل من التعلم الافتراضي إلى الفعل القتالي مستندا إلى اجتهاده الخاص، من دون مساءلة فقهية أو إيديولوجية.

بحسب الدراسة، أدى التماهي مع منطق “الفعل الميداني أسمى من الفقه” إلى طمس مرجعيات السلفية التقليدية وتهشيم هوية الجماعات الجهادية نفسها، وزادت: “الجهادي المنفرد لا يلتزم حتى بمنطق الخطاب السلفي الأصيل، بل يمارس إنتاجا شرعيا فرديا واجتهادا عاطفيا غيْر مقيد، ما أدّى إلى تشظٍّ أيديولوجي وافتراق بين ‘أطروحة’ الجماعة و’سلوك’ عناصرها على الأرض”.

وتؤكد الدراسة أن مقولة “لا يفتي قاعد لمجاهد” لم تقتصر على مسائل تنظيمية أو فقهية فحسب، بل أمّنت أيضا مبررات تخلّ بالقواعد الأخلاقية والإنسانية.

وتابعت: “إذ إن تحييد المرجعية العلمية عن الميدان حرّر بعض العناصر من أي ضوابط أخلاقية معتبرة وترك مساحة لهيمنة النزعات الفردانية والهلوسات الشخصية في تبرير العنف، ما عمّق أزمة الشرعية داخل الساحة الإسلامية وعزل المجاهد عن مسؤولية المجتمع والعلماء”.

وتستخلص الدراسة أن هذا التحول المركّب (مرجعي، تنظيمي، تقني، أخلاقي) أنتج أزمة بنيوية في منظومة السلفية الجهادية؛ أزمة تتمثل في فقدان التوازن بين العلم والعمل وتشظي الهوية الحركية.

وتخلص الدراسة إلى أن مواجهة هذا الانحراف تتطلب إعادة وصل بين المرجعيات العلمية والميدان، وضبط الدور الرقمي في إنتاج وتعليم المجاهدين، إضافة إلى فتح نقاش فقهي وآنيّ قادر على استيعاب تحديات الحركات المسلحة من دون التخلي عن ضوابط شرعية وإنسانية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق