بعد عامين من الحرب المدمّرة في غزة، جاء اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس، برعاية مباشرة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، كنافذة أمل تُفتح للمرة الأولى منذ اندلاع العنف في أكتوبر 2023. ورغم أن الاتفاق لا يُمثّل سلامًا دائمًا كما وصفه ترامب، ولا يحقق “انتصارًا كاملًا” كما يدعي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإنه أعاد إحياء إمكانية رسم مسار سياسي جديد في الشرق الأوسط، ولو في حدّه الأدنى. اذ تضمّن الاتفاق ، ضمن جمله أمور ، الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين مقابل عدد من المحتجزين الفلسطينيين في السجون الاسرائيليه ، وانسحابًا جزئيًا للقوات الإسرائيلية من القطاع، وفتح الممرات الإنسانية تحت إشراف دولي، في خطوة أولى في مسار صراع طال لعقود.
يشير آرون ديفيد ميلر، الباحث البارز في معهد كارنيجي للسلام الدولي، إلى هشاشة الاتفاق، مؤكدًا أنه لا يمكن لأي تسوية أن تنجح ما دامت إسرائيل ماضية في سياساتها التوسعية في الضفة الغربية، وذلك علي الرغم من ان الإفراج عن الرهائن يشكّل فرصة نادرة لكسر دائرة الدم. فيما يرى فريد زكريا، المحلل السياسي وكاتب الأعمدة في صحيفة واشنطن بوست، أن الشرق الأوسط اليوم يختلف جذريًا عن ماضيه؛ فإسرائيل باتت القوة العسكرية المهيمنة ميدانيًا، بينما تحوّلت الدول الخليجية الصغيرة، وعلى رأسها قطر، إلى لاعبين أساسيين في الوساطة وصنع التسويات، في ظل تراجع النفوذ الإيراني بفعل الضربات الإسرائيلية والأزمات الداخلية المتلاحقة. ويرى زكريا أنه لا بديل مستدام عن حل الدولتين، وأن نجاحه مرهون بقدرة ترامب على تحويل الاتفاق من صفقة ظرفية إلى رؤية سياسية دائمة.
أما باتريك وينتور، محرر الشؤون الدبلوماسية في صحيفة الغارديان البريطانية، فيكشف في تقريره كواليس المفاوضات التي مهّدت للاتفاق، مشيرًا إلى أن نقطة التحول جاءت خلال اجتماع جانبي في ألأمم المتحدة في نيويورك، حضره ترامب وعدد من القادة العرب والمسلمين. في ذلك الاجتماع، عرض ترامب خطته المؤلفة من عشرين نقطة لتحقيق السلام، متراجعًا عن فكرة تهجير الفلسطينيين أو تحويل غزة إلى مشروع استثماري، ومقتنعًا بأن “غزة يجب أن تكون لأهلها” وفقاً للرؤية التي طرحتها مصر ومختلف الدول العربيه والاسلاميه التي شاركت في هذا الاجتماع . كما لعب توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، وصهر ترامب جاريد كوشنر دورًا محوريًا في إقناع الرئيس الأميركي بأن نجاح هذا الاتفاق مرهون بخطة واضحة لليوم التالي للحرب، تحدد من سيحكم غزة بعد انسحاب إسرائيل، ومن سيضمن الأمن والإعمار.
وكانت مصر حاضرة بقوة في استضافة الجولة النهائية من المفاوضات في القاهرة، حيث اجتمع كافه الأطراف وكبار الوسطاء بحضور وفد حماس، وتمكنت القاهرة من تقريب وجهات النظر وضمان التزامات الأطراف المختلفة، مستندة إلى خبرتها الطويلة في إدارة ملفات التهدئة والتفاوض، فضلًا عن سيطرتها على معبر رفح الحيوي الذي يُعد شريان المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
وفي خضم هذه العملية، مارس ترامب ضغطًا غير مسبوق على نتنياهو، إذ حمّله علنًا مسؤولية استمرار الحرب، وأمره — بحسب ما كشفه مسؤولون أميركيون — بتقديم اعتذار رسمي لقطر بعد القصف الذي استهدف الدوحة، مؤكدًا أن أي اعتداء مستقبلي على قطر سيُعد اعتداءً على الولايات المتحدة. كما وجّه تحذيرات مباشرة إلى الحكومة الإسرائيلية من المضي في خططها لضم الضفة الغربية، وأبلغه صراحة بأن “إسرائيل لا تستطيع أن تحارب العالم بأسره”. هذه الضغوط، التي لم يجرؤ رؤساء أميركيون سابقون على ممارستها بهذا الشكل، كانت كفيلة بتليين موقف نتنياهو ودفعه إلى القبول بالخطة الامريكيه، رغم معارضة جناح اليمين المتطرف داخل حكومته.
كما حافظ ترامب بعد ذلك على وتيرة ضغط متواصلة على كل من حماس وإسرائيل، مهددًا الحركة بتدميرها إن لم تُفرج عن الرهائن، ومطالبًا إسرائيل بالتنفيذ الفوري لبنود الصفقة، بما في ذلك الانسحاب الجزئي من غزة. وبفضل هذا الضغط المنسّق والمشاركة الرفيعة من ممثلي الدول العربية والاسلاميه، تم التوصل إلى الاتفاق، الذي يقضي بالإفراج عن جميع الرهائن، والسماح بتدفق المساعدات الإنسانية للفلسطينيين في غزه والتمهيد لتشكيل قوة دولية لحفظ السلام، والشروع في إعادة إعمار شاملة لغزة تحت إشراف دولي.
ومن أكثر القضايا تعقيدًا التي لم تُحسم بعد في المفاوضات الجارية في القاهرة مسألة توقيت تسليم حركة حماس لأسلحتها. فالحركة قد تُبدي استعدادًا لتسليم سلاحها إلى سلطة عربية تتولى الإشراف، أو إلى قوة شرطة مدنية فلسطينية، لكنها ترفض تمامًا أن يتم التسليم إلى إسرائيل. ويرى بعض الدبلوماسيين أن حماس ربما باتت تدرك الحاجة إلى مسار سياسي جديد، وهو خيار كانت تقترب منه في مراحل سابقة من تاريخها. وقال أحد الدبلوماسيين المشاركين في المفاوضات: “سيتساءل أهالي غزة قريبًا: لماذا استمرت هذه الحرب لعامين؟ وما الذي تحقق فعلاً؟” وأضاف دبلوماسي آخر: “إن ما يبعث على الأسى حقًا هو أن التوصل إلى هذا الاتفاق كان ممكنًا قبل عشرين شهرًا، إذ كانت جميع مقوماته متوافرة منذ ذلك الحين. فالهدف الأساسي لإسرائيل — وهو إبعاد حركة حماس عن حكم غزة مستقبلاً — كان قابلاً للتحقيق منذ وقت مبكر، ما يجعل استمرار الحرب طوال هذه المدة مأساة بلا مبرر.”
ورغم أن الطريق إلى السلام الدائم لا يزال طويلًا، فإن الاتفاق فتح أمام الفلسطينيين في غزة بصيص أمل حقيقي في مستقبل أفضل، وربما بداية جديدة لمسار كان يبدو مستحيلًا. وقد أثبتت مصر أنها ركيزه لا غنى عنها في أي تسوية مقبلة، وأن ما تحقق يُعد إنجازًا دبلوماسيًا نادرًا في نزاع طال لعقود. إنه تذكير بأن حتى أكثر الحروب تعقيدًا يمكن أن تُفتح فيها نوافذ الأمل متى توافرت الإرادة السياسية والقدرة على تجاوز الحسابات الضيقة نحو رؤية أوسع للسلام.
السفير عمرو حلمي
0 تعليق