المهرجان الوطني للفيلم بطنجة يعالج الاغتراب والحب والبحث عن الخلاص - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في اليوم الثامن من فعاليات الدورة الخامسة والعشرين للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة، المقام ما بين 18 و25 أكتوبر الجاري، تتجلى ملامح نضج السينما المغربية من خلال عروض تنوعت بين الطويل والقصير، وبين الواقعي والرمزي. وتبرز هذه الدورة حضور جيل من المخرجين الذين لا يكتفون بسرد الحكايات، وإنما يحولون الصورة إلى لغة للتفكير في الإنسان والوجود. ومن بين الأعمال التي شدت انتباه النقاد والجمهور أفلام “أمريكا بلانكا” للمخرج عز العرب العلوي، و”البحر البعيد” للمخرج سعيد حميش بن العربي، والفيلم القصير “أخ في الدم” لمحسن الناضفي، و”مرآة للبيع” لهشام أمال، وهي أفلام تلتقي في سؤال الهوية، والاغتراب، والحب، والبحث عن الخلاص.

“أمريكا بلانكا”

يأتي فيلم “أمريكا بلانكا” للمخرج المغربي عز العرب العلوي، إنتاج 2025، كعمل سينمائي إنساني يندرج ضمن ما تُعرف بـ”سينما الطريق”، حيث تتحول الرحلة الطويلة من السنغال إلى المغرب، وصولًا إلى البحر الأبيض المتوسط، إلى تجربة وجودية تتقاطع فيها الأسئلة عن الهوية، الإيمان، والبحث عن الخلاص. ويمتد الفيلم على مدى سبع وتسعين دقيقة، من بطولة ناكي سي سافاتي وعبد العزيز سال وزهرة هواوي، ويرسم خريطة للتيه الإنساني في زمن الهجرة السرية، حين يصبح البحر الأبيض المتوسط بوابة للأمل والموت في آن واحد.

تبدأ الحكاية من الجنوب العميق (السنغال)، حيث تقرر عائشة، وهي أم سنغالية قوية ومثقلة بالحياة، أن تحمل ابنها أوصمان الموسوم بالنحس نحو الشمال، في رحلة محفوفة بالمخاطر. أوصمان ليس كغيره من الشباب، فهو مصاب بمرض نادر يجعله غير قادر على التعرّض لأشعة الشمس بسبب جلده الأبيض الناعم، وكأن بياضه هذا يضعه في مواجهة قاسية مع سواد العالم حوله. والمفارقة الجمالية والرمزية هنا تخلق توترًا بصريًا وإنسانيًا عميقًا: شاب أبيض في أرض إفريقية سوداء، يُطارد ضوءًا قد يقتله. والأب الذي نسمع عنه أكثر مما نراه هو رجل صوفي ذو مكانة روحية بفاس والسنغال معا، يشكّل ظلًا رمزيًا للغائب الحاضر، كأن المخرج يجعل من إرث الأب نوعًا من الحماية الروحية التي ترافق الرحلة دون أن تنقذها فعليًا.

وتتغير ملامح الرحلة حين تلتقي عائشة وابنها في جنوب الصحراء بفتاة غامضة تُعرف أولًا باسم زوبير، (زهرة هواوي)، قبل أن تكشف مع تطور الأحداث عن حقيقتها كشابة مفعمة بالحياة تُدعى زبيدة. وهنا تبدأ علاقة معقدة بين الهرب والبحث عن الذات، بين الحب والخوف بين زوبيدة وأصمان، وبين ما يخفيه الجسد وما تبوح به النظرات. وزبيدة، التي تعيش على الهامش، تحاول مساعدة عائشة وأوصمان بكل الوسائل الممكنة، وتصبح رمزًا للتضامن الأنثوي في وجه واقع قاسٍ لا يرحم. وتتحول العلاقة الثلاثية بينهم إلى خيط إنساني دافئ في فضاء قاسٍ، حيث لا أحد يملك اليقين، ولا أحد يعرف إن كانت نهاية الطريق خلاصًا أم بداية جديدة للمأساة رغم ما يبدو من تصرفات زوبيدة.

ومن الناحية الجمالية يقدّم عز العرب العلوي فيلمًا متوازنًا بين الواقعية القاسية والرمزية الشعرية. الكاميرا تتحرك بهدوء، ترافق الشخصيات كأنها تشاركها أنفاسها، وتلتقط التفاصيل الصغيرة التي تمنح القصة عمقها الإنساني. ولا يمثل الضوء في الفيلم مجرد عنصر بصري، فهو لغة قائمة بذاتها، فهو يتغير بتغير الحالة النفسية للشخصيات والأمكنة. ففي لحظات الظلام نرى الخوف، وفي ومضات الضوء نلمس الأمل، بينما البحر، في المشهد الختامي، يبدو كمرآة عملاقة تعكس أوهام البشر ورغبتهم في الهرب من واقعهم وعودتهم إلى إفريقيا بعدما يتلاشى كل شيء.

ويشكل الأداء التمثيلي في فيلم “أمريكا بلانكا” ركيزة أساسية في قوة الفيلم، والممثلة ناكي سي سافاتي في دور عائشة تمنح الشخصية حضورًا صادقًا، يجمع بين الصبر والألم، بين الحنان والأمل المكسور. أما الشاب عبد العزيز سال أوصمان فيجسد البراءة التي تصمد رغم القسوة، وتتحول إلى مرآة يرى المشاهد من خلالها هشاشة العالم. وبدورها زهرة هواوي قدّمت شخصية زبير/ زبيدة بذكاء كبير، وبرشاقة وخفة للجسد والروح وحساسية كبيرة، مستندة إلى طاقة داخلية تجمع الغموض والعطف والحب، ما يجعل منها رمزًا للتحول، وللحرية التي تولد من قلب الخوف.

ومن الناحية النقدية يمكن القول إن الفيلم يطرح أسئلة أكثر مما يقدم أجوبة، وهذا ما يمنحه عمقه الفني. فيلم “أمريكا بلانكا” لا يتحدث فقط عن الهجرة السرية كظاهرة اجتماعية، بقدر ما يتحدث عن الهجرة كحالة إنسانية، كرحلة أبدية بين الظل والنور، بين من نحن ومن نحلم أن نكون. إنه فيلم عن الأمهات اللواتي يحملن العالم على أكتافهن، وعن الأطفال الذين يولدون وسط العواصف ولا يفقدون قدرتهم على الحلم، وعن روعة الحب والتضحيات. حين تصل القوارب إلى البحر لا نعرف إن كانت تحمل نحو الضفة الأخرى أجسادًا أو أرواحًا، لكننا نعرف أن الحلم مازال قائمًا، وأن الطريق، مهما كانت قاسية، هي ما يجعل الإنسان إنسانًا ويجعله عاشقان وتلك حالة زبيدة في الفيلم بحساسية مفرطة.

“البحر البعيد”

يأتي فيلم “البحر البعيد” للمخرج سعيد حميش بن العربي، إنتاج 2025، كعمل درامي متكامل يبحر في أعماق تجربة الهجرة بكل ما تحمله من وجع وأمل وتيه إنساني. ويمتد الفيلم على مدى مئة وست عشرة دقيقة، ليمنح المتفرج فرصة الغوص في عوالم شاب مغربي يُدعى نور، يقرر الهجرة بطريقة غير شرعية إلى مدينة مارسيليا الفرنسية سنة 1990، بحثاً عن حياة أفضل، وعن فرصة جديدة، وربما عن نفسه. غير أن الرحلة التي تبدأ كخلاص تتحول تدريجياً إلى مرآة للاغتراب، إذ يجد نور (أيوب كريطع) نفسه غريباً في أرض جديدة، يعيش مع مجموعة من الأصدقاء حياة هامشية من مهاجرين مغاربين، تفتقد الاستقرار لكنها مليئة بالحكايات الصغيرة التي تصنع معنى الوجود.

في هذا السياق يلتقي نور بعميد شرطة فرنسي (كريكوار كولار) يعيش مع زوجته نويمي (آنا موكلاليس)، وهي امرأة تحمل في ملامحها مزيجاً من الرقة والوحدة. وبعد وفاة العميد تتقاطع مصائر الشخصيات في علاقة عاطفية غير متوقعة، إذ يتزوج نور من نويمي، لا فقط بدافع المصلحة أو الرغبة في تسوية وضعه القانوني، بل بفعل مشاعر حقيقية تتولد بينهما، تتجاوز الفوارق الثقافية والعمرية. ومن خلال هذا الزواج يطرح المخرج سؤالاً مؤلماً عن الحدود بين الحب والمصلحة، بين الصدق والضرورة، وكيف يمكن للغربة أن تُعيد ترتيب الأولويات، فيصبح البقاء نفسه نوعاً من العشق.

ولا تختفي ظلال الماضي بسهولة، فهناك في المغرب ترك نور حبيبته التي تنجب منه طفلة تبلغ إحدى عشرة سنة. وهذه الطفلة، التي تكبر في غيابه، تمثل الجسر الرمزي بين عالمين، بين الوطن الذي تركه وراءه والوطن الجديد الذي يحاول أن يصنعه في المنفى. وعندما يعود نور بعد سنوات طويلة إلى وجدة، ليزور والدته العجوز ويلتقي بحبيبته السابقة، يدرك أن البحر الذي عبره ذات خريف لم يكن مجرد مسافة، بل فصلاً فاصلاً بين هويتين، بين ما كان وما أصبح عليه.

ومن الناحية الاجتماعية يعالج فيلم “البحر البعيد” بعمق ظاهرة الهجرة غير الشرعية باعتبارها جرحاً مفتوحاً في الذاكرة الجماعية المغاربية. ولا تعتبر الهجرة هنا حدثاً عرضياً، وإنما قدر أجيال تبحث عن الخلاص في أرض بعيدة، أرض تتحول بمرور الوقت إلى وطن بديل، وإن كان هشاً. ولا يُدين الفيلم ولا يُبرّر، بل يكتفي بالمراقبة الهادئة، كأنه يضع المتفرج أمام مرآة يرى فيها وجوه المهاجرين الذين يعيشون بين الظل والنور، بين الحلم والخذلان. والشخصيات التي ترافق نور الدين في مارسيليا تتعايش مع أحزانها ومصائرها بطريقتها الخاصة، فمنهم من يتزوج ليجد اعترافاً اجتماعياً، ومنهم من يستسلم للعزلة، ومنهم من يتنكر لجذوره لينجو، لكن الجميع يحمل في داخله البحر، كذاكرة لا يمكن محوها.

ومن الجانب النفسي في الفيلم تتجلى في التحولات التي يعيشها نور بين الحب والذنب، بين الانتماء والفقدان. فالغربة ليست فقط جغرافيا، فهي حالة داخلية، تُعيد تعريف الإنسان من جديد. ويعيش نور تمزقاً بين امرأتين: نويمي التي تمثّل الاستقرار والاحتمال الجديد، وحبيبته السابقة (نسرين الراضي) التي تجسد الأصل والذاكرة والحنين. ومن خلال هذا الصراع العاطفي يسلط المخرج الضوء على هشاشة الهوية حين تتعرض للاقتلاع، وعلى كيف يمكن للحب أن يصبح وسيلة للنجاة من العدم.

ورمزياً يحمل البحر في فيلم “البحر البعيد” ثنائية قوية: هو الفاصل بين المغرب وفرنسا، بين الفقر والأمل، لكنه أيضاً المعبر بين الموت والحياة، فكل من يعبره يحمل في قلبه رهبة الغرق واحتمال الوصول. ولا يمثل البحر مجرد خلفية للمشاهد الأولى، فهو كائن حي، شاهد على الأحلام المكسورة والولادات الجديدة. ومع حلول الخريف يكتسي الفيلم جمالاً بصرياً آسراً، بألوانه الدافئة وأوراقه المتساقطة التي تعكس روح الحنين والانتهاء. وتنتقل الكاميرا برهافة بين مشاهد الطبيعة في فصل الخريف ومدينة مارسيليا بحاناتها وصخب الموسيقى وأغاني الراي على امتد عشر سنوات (من 1990 إلى 2000)، لتخلق لغة بصرية شاعرية توازي عمق القصة.

وينتصر الفيلم للحب، لا كحالة رومانسية عابرة، وإنما كقوة قادرة على منح الإنسان معنى في مواجهة العدم. فمهما كانت الغربة قاسية يظل الحب هو الوطن الوحيد الممكن. و”البحر البعيد” فيلم عن أولئك الذين يبحرون بعيداً بحثاً عن الضوء، ليكتشفوا في النهاية أن البحر الحقيقي ليس بين القارات، ولكنه يكمن في داخلهم. إنه عمل يكتب بالصور ما تعجز الكلمات عن قوله، فيلم عن الإنسان حين يصبح طريقه ذاته، وعن البحر الذي لا ينتهي أبداً، لأنه يسكن القلب قبل أن يسكن الأفق.

“أخ في الدم”

يأتي الفيلم القصير “أخ في الدم” للمخرج محسن الناضفي، إنتاج 2025، كعمل يعرّي التمزق الإنساني داخل الفرد حين تتقاطع القناعة العقائدية مع الالتزام المهني. وينجح الفيلم في خمس عشرة دقيقة فقط في تكثيف مأساة إنسان وجد نفسه حارسًا لوزيرة مناضلة تجسدها منى فتو، امرأة تؤمن بالحرية والانفتاح، يجد نفسه في مواجهة أخ له يحمل بذور فكر متشدد زرعته فيه ظروف اجتماعية ودينية متراكمة. وتتطور الأحداث في فضاء مشحون بالتوتر، حيث تتحول مهمة الحماية إلى مواجهة صامتة بين الإيمان والضمير، بين ما يفرضه الواجب وما يمليه الاعتقاد. ويعتمد المخرج الناضفي على إيقاع بصري حاد، وكادرات قريبة تخترق العاطفة وتفضح الصراع الداخلي للشخصية، فيما تترك الموسيقى مساحة للتأمل والارتباك الأخلاقي. ويمنح أداء منى فتو الشخصية النسائية عمقًا إنسانيًا يجعلها رمزًا للثبات في وجه التطرف، بينما يقدّم الممثل المقابل صورة مأساوية لإنسان فقد بوصلته بين الولاء والهوية. فيلم “أخ في الدم” ليس مجرد فيلم عن الإرهاب، وإنما عن هشاشة الإنسان حين يضيع بين ما يؤمن به وما يُطلب منه في مواجهة أعز الناس إليه ليطرح سؤالًا مؤلمًا: من يحمي من؟ …

“مرآة للبيع”

يأتي الفيلم القصير “مرآة للبيع”، إخراج هشام أمال، إنتاج 2025، كرحلة بصرية وإنسانية في أعماق فنان مكسور، ممثل عاطل عن العمل يجد نفسه محاصرًا بالفقر والعجز، فيقرر بيع مرآته، تلك التي رافقته في كل تجاربه الفنية والإنسانية. ومن هذا القرار البسيط يفتح المخرج نافذة على مأزق اجتماعي يعيشه جيل كامل من المبدعين المهمشين الذين خذلتهم المؤسسات والظروف. ولا تمثل المرآة هنا مجرد غرض مادي، فهي كيان رمزي يعكس الهوية، ويواجه البطل بضعفه وحنينه وذاته المتآكلة. ومع كل مشهد تتحول عملية البيع إلى فعل مقاومة، إلى محاولة لاستعادة الكرامة ولو بثمن الانكسار.

في ثمان وعشرين دقيقة فقط ينجح الفيلم في المزج بين الواقعية القاسية والرمزية الشعرية، بلغة سينمائية دقيقة تعتمد على الضوء والظلال أكثر من الحوار، ما يمنح المتفرج فرصة للتأمل في صمت الشخصية أكثر من كلماتها. ويكشف الأداء الهادئ للبطل هشاشة الداخل الإنساني أمام قسوة الواقع، بينما تمنح الموسيقى مساحة للوجع دون ابتذال. و”مرآة للبيع” فيلم عن الحلم المكسور، وعن إنسان يبيع مرآته ليبقى صادقًا مع نفسه، وليقول للعالم إن الفقر قد يسلب الجسد، لكنه لا يشتري الروح.

يؤكد اختتام اليوم الثامن من المهرجان الوطني للفيلم بطنجة أن السينما المغربية تسير بثبات نحو النضج والتنوع، محتفية بالإنسان في هشاشته وحلمه؛ فكل فيلم من هذه العروض كان مرآة لواقع متحوّل، وأفقًا مفتوحًا للتأمل في قضايا الهجرة، الحرية، والفن. ولقد نجحت أفلام “أمريكا بلانكا” و”البحر البعيد” و”أخ في الدم” و”مرآة للبيع” في تحويل معاناة الفرد إلى سؤال جماعي يمس جوهر الوجود المغربي والمغاربي. وفي أجواء طنجة، حيث يلتقي البحر بالصورة، منح المهرجان هذا العام مساحة للتفكير بقدر ما هو احتفال بالفن، وبالسينما كأصدق أشكال الحلم الممكن.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق