انطلاقًا من إدراك عميق أن مرحلة إعادة الإعمار في سوريَة تحتاج إلى أدوات العصر، انعقد، حديثًا، في رحاب جامعة دمشق (ملتقى محللي البيانات)، برعاية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وبالتعاون مع منظمة “قدرة” ومركز التمكين والريادة الطلابي.
والملتقى الذي جاء بالتزامن مع اليوم العالمي للإحصاء، لم يكن مجرد فعالية أكاديمية، بل كان إعلانًا صريحًا عن توجه إستراتيجي في إدارة الدولة، يجعل من البيانات المادة الخام لصناعة القرار، ومن التحليل العلمي خريطة طريق للمرحلة المقبلة.
وفي كلمته الافتتاحية، رسم معالي وزير التعليم العالي والبحث العلمي السوري، الدكتور مروان الحلبي، ملامح هذه الرؤية الجديدة بوضوح، قائلًا:”نلتقي في رحابِ العِلمِ والرَّقمِ والمعرفَةِ، لنفتتحَ مَعاً هذا الملتقى الوطنيَّ لمحلّلي البيانات، في زمنٍ أصبحت فيه البياناتُ لغةَ العَصرِ ومادَّةَ القرارِ وأداةَ التَّحوّلِ في كُلِّ مَجالٍ”.
وأكد الحلبي أن الدولة السورية، وهي تعيد بناء مؤسساتها بعد سنوات الحرب الطويلة، قد أدركت أن صُنْعَ القرارِ الرَّشيدِ لا يقومُ على الحدسِ، بل على البياناتِ الدقيقةِ والتحليلِ العِلميِّ الرَّصينِ، ووصف المعلومة بأنها لم تعد تَرفًا، بل”أصبحت طاقةً وطنيةً جديدةً لا تقلُّ أهميةً عن النفطِ أو الكهرباءِ أو الماءِ، إذ منها يُشتقُّ التَّخطيط، وبها تُدارُ المواردُ، وعليها يُبنى المستقبل”.
ركائز ثلاث للتحول الرقمي:
حدد وزير التعليم العالي الأسس التي يقوم عليها هذا التحول الرقمي، مشيرًا إلى أنها”ثلاثُ ركائزَ مترابطةٍ: البياناتُ الموحّدةُ، والمنصّاتُ الذكيّةُ، والعقولُ المُحلِّلة، وأوضح أن أهمية الملتقى تنبع من كونه يجسد هذا الفكر الإستراتيجي الذي”يُعيدُ قراءةَ الواقعِ ليُسهمَ في صياغةِ القرارِ الوطني”.
ولم يفت الوزير التطرق إلى الدور المحوري للذكاء الاصطناعي، موضحًا أن توظيفه في تحليلِ البياناتِ الوطنيةِ”يفتحُ أمامَنا آفاقًا جديدةً في التخطيطِ الصِّناعيِّ والاقتصاديِّ والزِّراعيِّ والتنمويِّ، ويمنحُنا القدرةَ على تحويلِ الأرقامِ إلى رؤى، والرؤى إلى قراراتٍ، والقراراتِ إلى إنجازات”.
واختتم كلمته بالتشديد على أن الملتقى يمثل”نقطةَ انطلاقٍ لِشبكةٍ وطنيّةٍ للبياناتِ الذكيّةِ، تتكاملُ فيها الجهودُ الأكاديميّةُ مع الرؤى الحكوميةِ والقطاعِ الخاصِّ، ولتكنْ البياناتُ عنوانَ المرحلةِ القادمةِ في سوريَة الجديدةِ.”
من النظرية إلى التطبيق:
من جهته، سلط رئيس جامعة دمشق، الدكتور مصطفى صائم الدهر، الضوء على الجسر الذي تبنيه الجامعة بين النظرية والتطبيق، مؤكدًا أن الهدف من الملتقى هو تسليط الضوء على أهمية الإحصاء والتحليل في مختلف القطاعات، ومشيرًا إلى الدور المتنامي للذكاء الاصطناعي في دعم القرار.
وعرض الدكتور صائم الدهر في كلمته الجهود السباقة لجامعة دمشق العريقة في هذا المجال، من خلال “تأسيس مركز التمكين وبناء القدرات الذي قدم أكثر من 40 دورة متخصصة، شارك فيها أكثر من 1100 متدرب من مختلف التخصصات”.
كما كشف عن إطلاق جامعة دمشق هذا العام لمجموعة جديدة من الدورات، بالتعاون مع هيئة التخطيط والإحصاء، لتعزيز دور الخريجين في المجتمع، مشددًا على أن الجامعة تواصل دعم بحوث الدراسات العليا، بالتعاون مع باحثين من داخل وخارج سوريَة، لتبقى مركزًا فاعلًا في تطوير المعرفة الوطنية.
ردم الفجوة وبناء الوعي:
قدم عماد الدين المصري، المستشار الإحصائي ومنظم الملتقى، صورة عن الحجم المتعاظم للاهتمام بهذا الحقل الحيوي، إذ أوضح أن هذه المبادرة تنفذ للعام الثاني على التوالي، حيث تم التواصل مع خبراء من أكثر من 15 دولة، منها اليابان والصين وروسيا وتركيا وبريطانيا، بهدف تبادل الخبرات.
ولفت المصري إلى أن الملتقى يسعى إلى “ردم الفجوة التي يعاني منها طلاب الإحصاء، سواء في فرص العمل أو في فهم تخصصهم الحقيقي”، مؤكدًا أن الهدف هو”رفع الوعي ونشر ثقافة الإحصاء بوصفه علمًا حيويًا لا هامشيًا”.
وأشار إلى مؤشر واضح على نجاح هذه الجهود، حيث قفز عدد المستفيدين من الملتقى من حوالي 750 مشاركًا في السنة الماضية، إلى 7500 مستفيد هذا العام، علمًا أن فعاليات الملتقى تضمنت أربع جلسات حوارية شارك فيها خبراء من القطاع الأكاديمي والخاص والدولي، للخروج بتقرير تحليلي يعكس واقع علوم البيانات في سوريَة.
تحليل البيانات في سياق الأزمات:
في هذا الإطار، قدم الخبير التقني طلال هاشم، عبر حديثه إلى موقع “البوابة التقنية” رؤية واقعية لأهمية تحليل البيانات لسوريَة على وجه التحديد، موضحًا:”لا يمكن المبالغة في تقدير دور البيانات في بلد خرج لتوه من دوامة طويلة من الصراع، فالعقوبات والدمار أحدثا تشوّهًا هائلًا في البنية الاقتصادية والاجتماعية، وهنا، يصبح تحليل البيانات بمثابة جهاز التصوير المقطعي الذي يحدد بدقة مواقع الخلل، ليساعد في توجيه الموارد الشحيحة بأكبر قدر ممكن من الكفاءة”.
وأضاف: “التحدي ليس في نقص البيانات فقط، بل في تشتتها وعدم موثوقية بعضها، وكما أرى فإن المهمة الأولى هي بناء أنظمة لجمع وتنقية البيانات من مصادرها المتناثرة – من الوزارات، والمنظمات الإغاثية، ودراسات السوق – لخلق صورة متماسكة. على سبيل المثال، تحليل بيانات أسعار المواد الغذائية الأساسية عبر المحافظات يمكن أن يساعد في توقع الأزمات، ومكافحة الاحتكار، وتوجيه الدعم بشكل عادل وفعّال”.
واختتم الخبير هاشم حديثه قائلًا: “البيانات في ظل هذه الظروف ليست رفاهية. إنها أداة للبقاء وإعادة البناء. إنها تمكننا من قياس تأثير برامج إعادة الإعمار، وتتبع مؤشرات الفقر، وتحسين توزيع الخدمات الصحية في المناطق الأكثر تضررًا، ناهيك عن أن الاستثمار في بناء القدرات التحليلية اليوم هو استثمار في مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا، حيث تُبنى القرارات على أساس من المعرفة وليس التخمين، وهو ما تحتاجه سوريَة أكثر من أي وقت مضى”.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط










0 تعليق