التديّن الشكلي ببلاد المهجر - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

حين يُصبح الوعظ بديلاً عن المعرفة والعقلُ سجينَ الحلال والحرام:

سلطة الخطاب الديني بين التمثّل الشعبي والوعي النقدي

تُظهر بعض السياقات الدينية المعاصرة، ولا سيّما في فضاءات الهجرة الأوروبية، بوادرَ أزمةٍ مركّبة تتقاطع فيها العوامل الاجتماعيّة والمعرفيّة والنفسيّة. تتجلى هذه الأزمة في بروز أنماطٍ من “التمثيل الرمزي للدين” على حساب “الوعي النقدي به”، حيث يختزل بعض الفاعلين الدينيين المرجعية الروحية في مظاهر سطحية — اللحية الكثيفة، اللباس القصير، والعلامة المصطنعة على الجبهة — بينما تُغَيَّب البنيةُ الخطابيةُ العميقة التي تجعل من الإيمان تجربةً إنسانيةً وأخلاقية قبل أن يكون مظهرًا طقوسيًا.

ولا تنبثق هذه الظاهرة من فراغ، بل من فراغٍ معرفيّ أعمق تُنتجه هشاشةُ التكوين العلمي لهؤلاء “الخطباء الجدد” الذين يمارسون سلطة دينية بلا أدوات تأويلية أو لسانية أو سوسيولوجية متماسكة. هكذا يتحوّل الخطاب من فعل هداية إلى ممارسة قهر رمزي، ومن منبر للتنوير إلى منبر للتلقين.

في التكوين الرمزي للسلطة الدينية: من الشرعية المعرفية إلى الكاريزما الشكلية

تغدو الإمامة والمنبر، في عدد من البيئات الأوروبية، فضاءً للتعبير عن أزمة السلطة الرمزية داخل الجاليات الإسلامية، حيث يُعاد إنتاج ما يمكن تسميته بـ”الكاريزما الشكلية” على حساب “الشرعية المعرفية”.

فالمظهر الخارجي يتحول إلى وسيلة لاستمالة المخيال الجمعي، مُستثمرًا حاجة الأفراد إلى اليقين وسط عالمٍ متحوّل لا يرحم اضطراب الهويات. وهكذا، تُختزل المرجعية في الجسد والهيئة، ويُستبدل الاجتهاد المعرفي بسلطة الصورة والعبارة الجاهزة.

من هذا المنطلق، تتناسل أسئلةٌ مضمَرة حول حدود العلاقة بين المعرفة الدينية والخطاب الشعبوي، بين سلطة الوعظ وسلطة الفهم: هل يمكن للمنبر أن يتحول إلى أداةٍ لترويض الوعي؟ وكيف تُستبدل مرجعية النص بمرجعية المظهر، والفكر بالإشارة؟

المنبر كمرآة للاغتراب: قراءة سوسيو-أنثروبولوجيّة

في فضاءات الهجرة، يتخذ الخطاب الديني وظيفة مزدوجة: فهو من جهة وسيلةٌ للحفاظ على الهوية، ومن جهة أخرى تعبيرٌ عن القلق الوجودي للمهاجر الذي يعيش على تخوم ثقافتين.

ومع غياب البنية المؤسساتية المؤطرة علميًا، يتحوّل المنبر إلى مجال مفتوح لمن يملك الجرأة الخطابية لا لمن يمتلك الفهم التأويلي. تتولّد من هذه الازدواجية بنيةٌ من العنف الرمزي تُمارَس باسم الدين، حيث يُوجَّه الأفراد لا نحو التفكير والنقد، بل نحو الامتثال والطاعة.

هكذا يتحوّل “الإرشاد الروحي” إلى “وصاية فكرية”، و”الوعي الجمعي” إلى “استتباع جماعي”. إنها حالة من الاغتراب الديني يعيش فيها المهاجر تمزقًا بين انتمائه الإيماني ورغبته في الاندماج الاجتماعي.

والسؤال الضمني الذي يطفو هنا: هل يمكن للخطاب الديني في المهجر أن يُعيد تشكيل ذاته خارج هذا النسق المغلق؟ وهل يمكن استعادة البعد الإنساني للدين في بيئةٍ تُغرق المقدّس في الرموز وتُفرغه من المعنى؟

المغرب كنموذج للتوازن: الدولة الوطنيّة واحتضان الدين المدني

يقدّم النموذج المغربي تجربةً فريدة في بناء توازنٍ دقيق بين المرجعية الدينية والمؤسسة الوطنية، ضمن رؤيةٍ عقلانية منفتحة تدمج بين الروح والتاريخ والعقل المؤسسي.

لقد استطاعت الدولة المغربية أن تُأطر الدين ضمن مشروعٍ مدني يحفظ قدسيته دون أن يسمح بتحويله إلى أداة استقطاب أو صراع. ويكشف هذا النموذج أن الدين، متى أُعيد تأسيسه ضمن رؤية مقاصدية عقلانية، يمكن أن يتحول إلى عنصر تماسك حضاري لا إلى عامل تفكك اجتماعي.

ويغدو السؤال المركزي هنا: هل يمكن نقل هذا النموذج المتوازن إلى سياقات الهجرة الأوروبية، حيث يعيش الإسلام خارج مؤسساته التاريخية؟ وكيف يمكن تفعيل الدين كأفقٍ للتعايش، لا كمنبرٍ للانغلاق؟

خاتمة تأملية: نحو إعادة تأسيس الفهم قبل الوعظ والإرشاد الديني

إنّ ما نواجهه اليوم ليس صراعًا بين الدين والحداثة، بل بين الفهم والجهل، بين من يرى في الدين طاقةً للتنوير، ومن يحوّله إلى وسيلة هيمنة رمزية تفرض وصايتها بلغة “الحلال والحرام” دون بينة أو اجتهاد.

إنّ المعركة الحقيقية ليست على المنبر، بل في العقل الذي يُنصت إليه. لذلك، يغدو الوعي النقدي الشرطَ الأول لتحرير الخطاب الديني من أسر الشكل إلى رحابة الجوهر، ومن سلطة المظهر إلى سلطة المعنى.

فهل يمكن أن يستعيد الدين مكانته كقوةٍ للتحرر لا أداةٍ للتسلط؟ تلك هي الإشكالية التي ينبغي أن تُوجّه التفكير الأكاديمي في دراسة الدين اليوم: تفكير بارد الدم، عميق الملاحظة، لا يُدين بقدر ما يُفكّك، ولا يهاجم بقدر ما يُنصت لما وراء الظاهر.

توصيات ومقترحات لإعادة الاعتبار للمنبر والوعظ والإرشاد ببلاد المهجر

-إعادة تأهيل الأطر الدينية علميًا ومعرفيًا: ينبغي إرساء برامج تكوين مستمر للأئمة والوعّاظ في بلدان المهجر، تدمج العلوم الشرعية بالمعارف الاجتماعية والنفسية واللغوية، قصد بناء خطاب ديني قادر على التفاعل الواعي مع السياق الأوروبي متعدد الثقافات.

-إنشاء مجالس علمية منفتحة ومتعدّدة التخصصات موجهة لأفراد مغاربة العالم: تكون بمثابة هيئات استشارية تجمع بين العلماء والباحثين والفاعلين الاجتماعيين، لتوجيه الخطاب الديني نحو الرصانة، والحدّ من فوضى وتطفل الفتوى التي تصدر أحيانًا دون بيّنة أو سند معرفي.

-ترسيخ مفهوم “المنبر المدني”: أي تحويل المنبر من فضاء للمواجهة إلى فضاء للتعايش، يُعالج قضايا المسلم المهاجر في ضوء قيم المواطنة والكرامة الإنسانية، بدل الانغلاق في حدود الطائفة والمذهب.

-الرقابة الفكرية الرصينة دون مصادرة: ينبغي اعتماد آليات تربوية وقانونية لضبط الخطاب المتطرف دون المساس بحرية التعبير، عبر آليات تربوية تشجع التفكير النقدي وتُربي على فقه التعدد والاختلاف.

-تثمين النموذج المغربي في تدبير الحقل الديني: من خلال تعميم تجربة الإمامة الرشيدة والتأطير الوسطي المعتدل في المساجد الأوروبية، بما يعزز صورة الإسلام المتسامح، القائم على الوسطية والاعتدال والعمق المقاصدي.

-إعادة الاعتبار للعقل الاجتهادي: عبر تشجيع مبادرات علمية فكرية تعيد الارتباط بين الخطاب الديني والمناهج النقدية، وتفصل بين الفتوى كعمل معرفي وبين الوعظ كعمل تربوي، مع استحضار البعد الإنساني للدين كقوة للتحرر لا للتقيد.

بهذه الخطوات، يمكن إعادة الاعتبار للمنبر والوعظ والإرشاد في مجتمعات المهجر، بحيث يتحول الخطاب الديني إلى قوة بناءٍ روحي وثقافي، لا إلى أداة استقطاب مذهبي أو عاطفي، ويستعيد الدين وظيفته الأصلية كجسرٍ بين الإيمان والعقل، بين النص والواقع، وبين الإنسان والإنسان.

-كاتب صحفي مقيم في إيطاليا

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق