كشفت المداخلات الافتتاحية في ورشة علمية حول الأسماك السطحية الصغيرة عن قلق متزايد بشأن تراجع المخزون السمكي في مناطق عدة من العالم، ولا سيما في شمال غرب إفريقيا حيث تراجعت مصطادات السردين بنحو 34 في المائة خلال أربع سنوات فقط، وفق معطيات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو). وأجمع المتدخلون على أن الصيد المفرط، وتداعيات التغير المناخي، والاضطرابات البيئية المتكررة، عوامل باتت تهدد بشكل مباشر استدامة الموارد البحرية والأمن الغذائي لملايين الأشخاص الذين يعتمدون على الأسماك كمصدر رئيسي للبروتين.
الورشة العلمية الدولية حول “الأسماك السطحية الصغيرة في ظل الإكراهات المناخية والصيد المفرط: نحو تدبير مرن ومستدام”، التي انطلقت اليوم الخميس بالرباط، تنظمها كتابة الدولة المكلفة بالصيد البحري بشراكة مع المعهد الوطني للبحث في الصيد البحري، وتعرف مشاركة خبراء وباحثين من المغرب ومن دول إفريقية وأوروبية وآسيوية عدة.
خلال الجلسة الافتتاحية، أكدت زكية الدريوش، كاتبة الدولة المكلفة بالصيد البحري، أن الأسماك السطحية الصغيرة، وعلى رأسها السردين والأنشوبة، ليست مجرد أنواع بحرية، بل تمثل القلب النابض للنظم البيئية البحرية وللاقتصاد الأزرق في بلدان الواجهة الأطلسية الإفريقية.
وأوضحت أن هذه الموارد تشكل نحو 40 في المائة من المصيد العالمي للأسماك، وتعد مصدرا أساسيا للبروتين لأكثر من 2,5 مليار شخص حول العالم، كما توفر مداخيل لآلاف الصيادين وتدعم صناعة تحويلية نشطة تخلق فرص شغل وتدر عائدات مهمة.
غير أن هذه المكاسب، تضيف الدريوش، أصبحت مهددة بالصيد الجائر وأساليب التحويل غير المستدامة وتداعيات التغير المناخي، مما يعرض الثروة السمكية للخطر ويقوض مكاسبها الاقتصادية والاجتماعية، خصوصا في ما يتعلق بالتشغيل والتصدير والأمن الغذائي.
وأشارت إلى أن الأزمة الأخيرة التي عرفها السردين، والتي تجلت في تراجع مقلق للمصطادات على المستوى الجهوي، أظهرت مدى اعتماد جزء كبير من الاقتصاد الوطني على هذه الموارد، مبرزة أن الحفاظ عليها أصبح ضرورة حيوية لا تحتمل التأجيل.
وكشفت المسؤولة الحكومية أن آخر التقييمات العلمية الوطنية والإقليمية تؤكد تراجع الكتلة الحيوية لعدة أنواع، موضحة أن مصطادات السردين في شمال غرب إفريقيا انخفضت من 1,2 مليون طن سنة 2020 إلى نحو 700 ألف طن سنة 2024، أي بانخفاض يقارب 34 في المائة وفق بيانات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، كما تجاوز ضغط الصيد حدود الاستدامة في بعض المناطق.
وأضافت أن التغير المناخي زاد من هشاشة هذه الموارد، مشيرة إلى أن ظاهرة “إل نينيو” القوية أثرت على أكثر من نصف مناطق الصيد الرئيسية في العالم بين 1950 و2023، في وقت يجعل الاحترار العالمي هذه الظواهر القصوى أكثر تكرارا وشدة.
واختتمت الدريوش بالتأكيد على أن المرحلة الراهنة لا تتطلب دق ناقوس الخطر، بل التحرك الجماعي الواعي والفعّال لبناء نموذج تدبير مرن قائم على العلم والتعاون الإقليمي والدولي.
من جهته، أكد محمد ناجح، مدير المعهد الوطني للبحث في الصيد البحري، أن الورشة تأتي في “لحظة علمية دقيقة تتطلب يقظة مضاعفة”، مبرزا أن “الاضطرابات البيئية المتكررة وغير المتوقعة تجعل فهم دينامية الأنواع البحرية وتحليل العوامل المناخية والاقتصادية المؤثرة فيها أكثر إلحاحا من أي وقت مضى”.
وأوضح ناجح أن المعهد “يكثف برامجه العلمية والتقنية لتقييم حالة المصايد وإدماج المتغيرات المناخية ضمن أدوات النمذجة البيئية والاقتصادية”، مشيرا إلى أن حماية هذه الموارد “لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال مقاربة تشاركية منسقة بين الدول المطلة على النظام البيئي البحري نفسه، لا سيما في منطقة التيارات الصاعدة مثل كناريا وبنغويلا وهومبولت”.
أما ألكسندر هوين، ممثل منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، فشدد في كلمته على أن الوضع العالمي “يدعو إلى القلق”، موضحا أن 35,5 في المائة من المخزون السمكي في العالم تُعتبر اليوم مُستغلة بشكل مفرط، ما “يهدد استدامة العديد من المصايد ويقوض الأمن الغذائي لملايين البشر الذين يعتمدون على منتجات البحر كمصدر رئيسي للبروتين”.
وأبرز المتحدث أن “الفاو” ترافق المغرب منذ سنوات طويلة في جهوده الرامية إلى تعزيز استدامة قطاع الصيد البحري، من خلال شراكات تقنية وبرامج بحثية ومبادرات إقليمية، من بينها مشروع “النظام البيئي البحري الكبير لتيار الكناري”، الذي يهدف إلى إدماج البعد البيئي في سياسات تهيئة المصايد، وإرساء مقاربة إيكولوجية شاملة لتدبير الموارد البحرية.
وأضاف أن الأسماك السطحية الصغيرة “تحتل مكانة استراتيجية في الاقتصادات والثقافات الساحلية، وهي ليست فقط موردا غذائيا أساسيا، بل أيضا عنصر محوري في التنمية الاجتماعية والاقتصادية المحلية”، مشددا على أن الحفاظ عليها “يعني ضمان مستقبل غذائي مستدام للأجيال القادمة”.
0 تعليق