يعدّ الممر الشمالي -المعروف إعلاميًا باسم بديل قناة السويس- واحدًا من أكثر الممرات التجارية المثيرة للجدل في الوقت الراهن، إذ يحمل إمكانات هائلة لتغيير خريطة النقل البحري العالمية، في ظل ذوبان الجليد بالمناطق القطبية وتحولات كبرى في حركة الطاقة العالمية.
في هذا الإطار، قال مستشار تحرير منصة الطاقة المتخصصة (مقرّها واشنطن)، خبير اقتصادات الطاقة الدكتور أنس الحجي، إن هذا الطريق يمثّل الممر البحري الممتد في شمال روسيا وشمال سيبيريا، الذي يمكن للسفن العبور منه خلال الصيف بسهولة مع إمكان كسر الجليد في بعض مناطقه.
وأشار إلى أن ذوبان الجليد بشكل كامل خلال السنوات المقبلة قد يحوّل هذا الطريق إلى ممر رئيس للتجارة الدولية، مؤكدًا أن المسافة بين أوروبا والصين عبر الممر الشمالي أقصر بكثير مقارنة بالمرور عبر قناة السويس أو الدوران حول أفريقيا.
وبيّن أن طريق الشمال الروسي لا يهدد قناة السويس فحسب، بل يطرح تحولات جذرية في تجارة النفط والغاز بين الشرق والغرب، موضحًا أن الخاسر الأكبر من الممر الشمالي هو الولايات المتحدة الأميركية، في حين ستكون الصين وروسيا أبرز المستفيدين منه.
جاءت تلك التصريحات خلال حلقة جديدة من برنامج "أنسيات الطاقة"، قدّمها أنس الحجي عبر مساحات منصة التواصل الاجتماعي "إكس" بعنوان: "أثر المخزون والطاقة الإنتاجية الفائضة في أسواق الطاقة العالمية".
بديل قناة السويس
أوضح أنس الحجي أن الممر الشمالي -المعروف باسم بديل قناة السويس- يتيح اختصار المسافات بشكل غير مسبوق، إذ تقل المسافة بين أوروبا والصين عبر هذا الطريق إلى ما يقارب نصف المسافة المعتادة عبر البحر الأحمر أو قناة السويس، ما يعني توفيرًا كبيرًا في الوقت والتكاليف.
وأشار إلى أن صادرات روسيا من النفط والغاز عبر الشمال إلى الأسواق الآسيوية تعدّ أقرب بكثير من أيّ طريق آخر، خاصة أن الخرائط المسطحة لا تعكس بدقة المسافات الحقيقية بسبب كروية الأرض، ما يجعل الممر خيارًا أكثر فاعلية.
هذا الطريق سيؤدي حال تشغيله على مدار العام إلى تقليل مرور السفن والشحنات عبر قناة السويس، ولن يكون الأثر الأكبر في مصر، بل في الولايات المتحدة التي ستخسر نفوذها التجاري في طرق الملاحة.

وبيّن أنس الحجي أن الولايات المتحدة تحاول عرقلة تفعيل هذا الممر بكل السبل الممكنة، بينما تسعى الصين جاهدة لتحويله إلى محور إستراتيجي لتجارتها العالمية، ما يجعل الممر الشمالي جزءًا أساسيًا من الحرب التجارية بين واشنطن وبكين.
وأضاف أن التوترات الجيوسياسية قد تدفع واشنطن إلى ممارسة ضغوط كبيرة على أوروبا لتجنّب استعمال الطريق الشمالي، في محاولة للحدّ من تعزيز العلاقات التجارية بين روسيا والصين التي تشهد توسعًا ملحوظًا خلال الأشهر الأخيرة.
وقال، إن العديد من ناقلات النفط بدأت استعمال الطريق الجديد، مشيرًا إلى أن كل ناقلة نفط توفر نحو مليون دولار في حال عبورها الممر الشمالي مقارنة بالمرور عبر قناة السويس، وترتفع الوفورات إلى مليوني دولار عند الدوران حول أفريقيا.
ولفت إلى أن الوفورات من شحنات الغاز المسال عبر الممر الشمالي تفوق تلك التي تحققها ناقلات النفط، ما يعزز دوافع روسيا والصين للاستثمار في تطوير البنية التحتية لهذا الممر ليصبح بديلًا فعّالًا ومستدامًا لطرق التجارة التقليدية.
المكاسب الروسية والصينية من الممر الشمالي
قال أنس الحجي، إن الممر الشمالي يمنح روسيا والصين ميزة تنافسية إستراتيجية، إذ يقلل من تكاليف النقل ويعزز التعاون الاقتصادي بين البلدين في ظل العقوبات الغربية المفروضة على موسكو، وارتفاع الرسوم الأوروبية على الواردات.
وأشار إلى أن الصين أرسلت مؤخرًا شاحنة بضائع تجريبية عبر الطريق الشمالي إلى أوروبا، وهو ما أثار قلقًا واسعًا في الأوساط الأميركية، نظرًا لما يحمله هذا التطور من إمكان تقليص التكاليف التجارية بين آسيا وأوروبا بصورة كبيرة.
وأوضح أن الأوروبيين يفرضون ضرائب كربونية على الواردات، ما يزيد أسعار السلع، بينما يحاول الرئيس الأميركي دونالد ترمب الضغط للحصول على استثناءات منها، في حين تسعى الصين لتعويض ذلك بخفض التكاليف عبر الممر الشمالي.
وأكد أنس الحجي أن هذه التطورات تؤكد دخول الممر الشمالي في صميم الصراع التجاري العالمي، وأن كل ناقلة تمرّ في بديل قناة السويس اليوم تمثّل خطوة جديدة في إعادة رسم خريطة التجارة والطاقة العالمية بعيدًا عن الهيمنة الغربية.
وبيّن أن حركة ناقلات الغاز المسال الروسية إلى الصين عبر هذا الطريق شهدت نموًا كبيرًا، إذ وصلت مؤخرًا عاشر حاملة من محطة "أركتيك 2" للغاز الطبيعي المسال المحظورة من جانب أميركا، وكلّها استعملت الممر رغم العقوبات.
ولفت إلى أن هذه الناقلات، رغم القيود، تمكنت من تصدير الغاز المسال إلى آسيا، لأن الطريق يمرّ في مناطق لا وجود فيها للولايات المتحدة أو أوروبا، ما يجعلها خارج نطاق التأثير المباشر للعقوبات.
وتابع: "الممر الشمالي أصبح عاملًا مؤثرًا في السياسة الخارجية الأميركية، خصوصًا فيما يتعلق بالغاز الطبيعي المسال، وأتوقع أن يتحول إلى قضية أمن قومي لواشنطن خلال السنوات المقبلة".
الممر الشمالي وأمن الطاقة العالمي
يرى أنس الحجي أن الممر الشمالي لا يمثّل مجرد طريق بديل للشحن، بل يشكّل تحولًا في ميزان القوى الاقتصادية العالمية، خاصة مع توجُّه روسيا والصين لتوظيفه في تعزيز استقلالهما الطاقي والتجاري عن الغرب.
وأوضح أن التطورات الأخيرة في شمال روسيا أظهرت استعدادًا متسارعًا لاستغلال ذوبان الجليد، عبر بناء أساطيل من كاسحات الجليد ومحطات لتصدير الغاز المسال، ما يجعل بديل قناة السويس مشروعًا طويل الأمد لتأمين صادرات الطاقة الروسية.
هذا الممر سيمنح موسكو قدرة أكبر على تجاوز القيود الغربية المفروضة عليها منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، ويمنح بكين قناة إمداد جديدة للطاقة بعيدًا عن الممرات التي قد تتأثر بالنزاعات في الشرق الأوسط.

من شأن فتح الممر الشمالي على مدار العام أن يعزز أمن الطاقة الآسيوي، إذ يمكن لروسيا تصدير النفط والغاز مباشرة إلى الصين واليابان وكوريا الجنوبية، ما يقلل من اعتماد هذه الدول على الممرات الجنوبية.
كما أنّ توسُّع روسيا في هذا المشروع يضع الولايات المتحدة أمام تحدٍّ إستراتيجي جديد، لأن الطريق الجديد يقلل من أهمية الممرات البحرية التي تسيطر عليها واشنطن، ويحدّ من قدرتها على استعمال العقوبات أداة ضغط.
يقول أنس الحجي، إن الصين، من جهتها، تعدّ الممر الشمالي امتدادًا لمبادرة "الحزام والطريق" البحرية، ما يمنحها شبكة جديدة من النفوذ الاقتصادي تمتد من القطب الشمالي حتى أوروبا، في إطار إعادة تشكيل النظام التجاري العالمي.
وختم حديثه بتأكيد أن الممر الشمالي سيكون أحد أهم ملفات أمن الطاقة خلال العقد المقبل، مشيرًا إلى أن منصة الطاقة ستواصل متابعة تطوراته وتأثيراته في تجارة النفط والغاز العالمية بدقّة.
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..
المصدر:
0 تعليق