مقدمة
لا شك أن استمرار القصف الإسرائيلي على قطاع غزة وتدمير القطاع بالكامل تقريبا وشن حرب إبادة وتجويع على الشعب الفلسطيني ومحاولة ضم الضفة الغربية أمور سرعت من وتيرة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وجعلت العديد من الدول تطالب بتسريع حل الدولتين. ويمثل هذا التحرك المُنسّق جزءًا من محاولة للحفاظ على هذه الرؤية، التي تقتضي تعايش دولة فلسطين جنبًا إلى جنب مع إسرائيل، كما يمثل ردا وانتقادا لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية على هجومهما المتواصل على غزة، واعتراضًا على ضم الضفة الغربية من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
وقد ارتبطت القضية الفلسطينية بصيغة حل الدولتين لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي منذ القرارات الأممية ذات الصلة، التي نصت على العودة إلى حدود 1967. كما نصت القرارات العربية على جدوى وضرورة هذا الحل بعد تجاوز مرحلة الرفض العربي والاعتراف بالكيان الإسرائيلي، منذ القمة العربية سنة 1982، وكذلك مخرجات قمة الدول العربية في بيروت 2002 المعروفة بالمبادرة العربية لاسترجاع الحقوق الفلسطينية، بعدما تم توقيع اتفاق أوسلو الذي يؤكد على الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وترسيخ القدس الشرقية عاصمة أبدية لفلسطين.
في الحقيقة هناك مخاوف من أن إسرائيل على وشك ضم الضفة الغربية أو جعل غزة غير صالحة للسكن إلى درجة تُجبر الفلسطينيين على عبور الحدود إلى الأردن أو مصر، ما يُدمر إمكانية قيام وطن فلسطيني. إن الاعتراف بفلسطين دولة ذات حق في تقرير مصيرها هو محاولة لإظهار أن إسرائيل لا يمكنها ببساطة ضم أراضٍ أعلنت محكمة العدل الدولية أنها محتلة بشكل غير قانوني.
هذا الأمر يطرح العديد من التساؤلات عن مدى إمكانية تطبيق “حل الدولتين” في ظل التعنت والرفض الإسرائيلي وما آلت إليه الأوضاع في الشرق الأوسط، بعد أن تمكنت إسرائيل من تدمير وإبادة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، مع رغبة تل أبيب في تحويل القطاع إلى منطقة عسكرية واستمرار الضغط على الضفة الغربية والتحكم في السلطة الفلسطينية. فهل تستطيع دول العالم والدول العربية والإسلامية فرض حل الدولتين؟ وماذا يعني تزايد الاعترافات بالدولة الفلسطينية مؤخرا؟ وما هي أوراق الضغط الممكن استخدامها لتحقيق هذا الهدف المتساوق مع الشرعية الدولية؟.
أولا: الاعتراف بالدولة الفلسطينية: الخروج من النفق
يستند الاعتراف بوجود دولة ما إلى أربعة معايير أساسية حددتها اتفاقية مونتيفيديو لعام 1933: وجود شعب أو ساكنة، إقليم جغرافي، وسلطة سياسية (حكومة) والقدرة على إقامة علاقات دبلوماسية مع دول أخرى. وحتى لو كانت بعض هذه المعايير مهددة أو محل نزاع – كما هو الحال في فلسطين، حيث أجزاء كبيرة من الأراضي الفلسطينية مازالت محتلة، والحكومة المعترف بها من عدة دول لا تملك سلطة حقيقية في غزة – فالاعتراف بالدولة الفلسطينية يُعدّ خيارًا سياسيًا للدول وإن كان صعبا من الناحية القانونية والعملية.
وقد اعترفت بدولة فلسطين أكثر من 150 دولة من أصل 193 دولة عضوا في الأمم المتحدة، ليصل العدد الإجمالي الآن إلى 160 دولة. ولا تعترف بفلسطين 39 دولة على الأقل، بما فيها إسرائيل والولايات المتحدة وحلفاء لهما. وترفض حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو -المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية لارتكابه جرائم حرب في غزة- فكرة قيام دولة فلسطينية رفضا قاطعا، وعام 2024 صوت الكنيست الإسرائيلي على قرار ضد قيامها.
وفي آسيا فاليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة من بين الدول التي لا تعترف بفلسطين، وكذلك الكاميرون في إفريقيا وبنما في أمريكا اللاتينية، ومعظم بلدان أوقيانوسيا. أما أوروبا فهي القارة الأكثر انقساما بشأن إقامة دولة فلسطينية. وحتى منتصف العقد الثاني من القرن الـ21 كانت البلدان التي تعترف فقط بدولة فلسطين -إلى جانب تركيا- هي دول الكتلة السوفياتية السابقة، لكن بعضا من هذه الدول، كالمجر والتشيك، لا تعترف بدولة فلسطينية على المستوى العلاقات الثنائية. كما أن دول غرب أوروبا وشمالها كانت متحدة في عدم الاعتراف، باستثناء السويد التي أعلنت اعترافها بفلسطين العام 2014.
لكن الحرب على غزة قلبت الأمور رأسا على عقب، حيث سارت النرويج وإسبانيا وإيرلندا وسلوفينيا على خطى السويد واعترفت بدولة فلسطين عام 2024، قبل أن تقوم المملكة المتحدة والبرتغال بالأمر نفسه، فيما لا تخطط إيطاليا وألمانيا للاعتراف بدولة فلسطين في الوقت الراهن.
ويقود الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الجهود الحالية للاعتراف بدولة فلسطين، وستعترف بها أربع دول من أصل الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وتستطيع الولايات المتحدة الأمريكية، بصفتها العضو الخامس في مجلس الأمن، الاستمرار في استخدام حق النقض (الفيتو) ضد حصول فلسطين على حق التصويت في الأمم المتحدة. وتتمتع فلسطين حاليًا بحق المشاركة في اجتماعات الأمم المتحدة، إذ إنها دولة غير عضو لها صفة مراقب. وقد وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على الاعتراف الفعلي بفلسطين دولة ذات سيادة في نوفمبر/تشرين الثاني 2012 من خلال رفع وضعها بصفة مراقب في المنظمة الدولية من “كيان” إلى “دولة غير عضو”.
وتتمتع فلسطين باعتراف دولي واسع، وبعثات دبلوماسية في الخارج، وفرق رياضية تُشارك في مسابقات دولية وإقليمية، بما في ذلك الألعاب الأولمبية، لكن بسبب النزاع الفلسطيني الإسرائيلي طويل الأمد فهي مازالت لا تتمتع بسيادة وطنية وحدود متفق عليها دوليًا، ولا عاصمة، ولا جيش نظامي. وبسبب الاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية فإن السلطة الفلسطينية، التي شُكّلت في أعقاب اتفاقيات السلام في التسعينيات، لا تُسيطر سيطرة كاملة على أرضها أو شعبها. أما قطاع غزة، حيث تُعتبر إسرائيل أيضًا قوة احتلال، فيشهد حربًا مدمرة لم غير مسبوقة في التاريخ.
ثانيا: حل الدولتين وأزمة الشرعية الدولية
اكتسب حل الدولتين زخما كبيرا على المستوى الدولي تأسيسا على الشرعية الدولية، لكن بعد مرور ما يزيد على 30 عامًا على توقيع اتفاقية أوسل أخفق المجتمع الدولي في دعم تأسيس دولة فلسطينية مستقلة بعد أن استولت إسرائيل على ما يقرب من 78 % من أراضي فلسطين التاريخية، في ظل استمرار بناء المستوطنات التي اعتبرتها الأمم المتحدة غير مشروعة.
وأصبحت الشرعية الدولية أمام اختبار حقيقي، خاصة أن إسرائيل ترفض مطلقا الاعتراف بالدولة الفلسطينية وتستمر في اعتماد القوة والآلة العسكرية، حيث ظهر استناد الدول الكبرى إلى منطق القوة وليس منطق الحق والقانون في إقامة دولة الاحتلال والاعتراف بها والدفاع عنها، في تناقض تام مع القوانين والمعاهدات الثنائية ومتعددة الأطراف في مختلف مراحل الصراع، باستثناء ما يوافق مصلحة هذه الدول ودولة الاحتلال.
ويبدو أن تلك الخطة هدفت إلى استمرار مراوغة الإسرائيليين والهروب إلى الأمام بدلًا من تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في أوسلو بإقامة الدولة الفلسطينية. ومع التصعيد الفلسطيني الإسرائيلي منذ أكتوبر 2023، والعدوان الغاشم على غزة، تزايدت التصريحات الصادرة عن معظم مسؤولي دول العالم المعنية بتطورات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لتطالب بإقامة الدولة الفلسطينية كحل جذري محتمل لتسوية الصراع.
ثالثا: ماذا يعني الاعتراف بالدولة الفلسطينية؟
يعتبر الاعتراف بدولة فلسطين أحد أكثر المسائل تعقيدا في القانون الدولي، ذلك أن الدول حرة في اختيار توقيت وشكل الاعتراف، مع وجود اختلافات كبيرة صريحة كانت أو ضمنية. ولا يوجد مكتب أو سلطة عليا تشرف وتلزم الدول بهذه الاعترافات. وتدرج السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية من وجهة نظر ذاتية بحتة كل ما تعتبره اعترافا في قائمتها الخاصة، وفي المقابل ستعلن دول أخرى اعترافها أو عدمه من دون الحاجة إلى تبرير قرارها.
لكن هناك نقطة واحدة يكون فيها القانون الدولي واضحا تماما في هذا الشأن، وهو أن الاعتراف لا يعني أن الدولة أنشئت واكتسبت الشرعية القانونية، مثلما أن عدم الاعتراف لا يمنع الدولة من أن تكون موجودة. وفي حالة فلسطين فإن الاعتراف يحمل ثقلا رمزيا وسياسيا إلى حد كبير، ذلك أن ثلاثة أرباع الدول تقر بأن “فلسطين لديها كل المتطلبات اللازمة لكي تكون دولة”. ورغم ما يبدو ما لهذا الاعتراف من أهمية من الناحية الرمزية فهو قد يكون بمثابة تغيير منهجي لقواعد اللعبة، فبمجرد الاعتراف بدولة فلسطينية فالمجتمع الدولي سوف يضع فلسطين وإسرائيل على قدم المساواة من حيث معاملتهما بموجب القانون الدولي.
إن اعتراف دول مثل فرنسا، بريطانيا، كندا، أستراليا والبرتغال يمثل خطوة محورية في تثبيت حل الدولتين، فهو يضع حداً للادعاءات الإسرائيلية التي تصف الضفة الغربية بأنها “أراضٍ متنازع عليها”، ويدحض المزاعم القائمة على تفسيرات دينية محضة. ويكتسب اعتراف بريطانيا بوجه خاص أهمية تاريخية لأنها الدولة التي ساهم وزير خارجيتها آرثر بلفور في إشعال صراع مستمر منذ أكثر من قرن بوعده المثير للجدل عام 1917. إن تصحيح هذا الخطأ، ولو بعد عقود، سيكون بمثابة وفاء بالوعود التي قطعتها لندن للعرب كما جاء في مراسلات ماكماهون–الحسين إبّان الحرب العالمية الأولى.
لكن من الناحية السياسية والواقعية لا يعني الاعتراف بدولة فلسطين أن الاحتلال الإسرائيلي سينتهي، أو أن العدوان الجاري في غزة سيتوقف فوراً، لكنه يرسخ حقيقة أساسية مفادها أن الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة، أراضٍ فلسطينية، وأن للشعب الفلسطيني حقاً أصيلاً في تقرير مصيره على أرضه. كما يساعد الاعتراف على تحويل النقاش من التركيز على أحقية الشعب الفلسطيني بدولة إلى إقامة علاقات سلمية بين دولتين مستقلتين: فلسطين وإسرائيل، بما يشمل التفاوض حول الحدود، اللاجئين، المستوطنات، المياه وسائر القضايا الجوهرية.
كما يتعين على الدول التي تعترف بفلسطين تقديم دعم سياسي ومالي للمؤسسات الفلسطينية، خاصة في ظل الحملة الإسرائيلية والأمريكية لتهميش القيادة الفلسطينية الشرعية برئاسة محمود عباس، الذي يتبنى نهجاً سلمياً ويستمر في رفض ما تقوم به حركة حماس، لكن مع تفكك هذه الحركة، وتفتت الضفة الغربية وغمرها بالمستوطنات، من الواضح أن فلسطين تفتقر إلى نخبة سياسية موحدة قادرة على إدارة مرحلة ما بعد الحرب، كنتيجة طبيعية للانقسام الفلسطيني. غير أن هذا لا يعني أنه لا طائل من الاعتراف الدولي بدولة فلسطينية ولا مجال لاستصغار هذه الخطوة، وخاصة أنها تحوز على إجماع دولي لا يستهان به.
وأقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة على هامش دورتها 79 يوم 23 أكتوبر 2025 بأغلبية ساحقة “إعلان نيويورك” الذي يحدد “خطوات ملموسة ومحددة زمنيا ولا رجعة فيها” نحو حل الدولتين بين إسرائيل والفلسطينيين. وحصل مشروع القرار الذي يؤيد الإعلان على 142 صوتا مؤيدا و10 أصوات معارضة، من بينها الولايات المتحدة وإسرائيل والأرجنتين، وامتناع 12 دولة عن التصويت، منها ألبانيا وإثيوبيا والإكوادور.
خاتمة
قد يكون الاعتراف بالدولة الفلسطينية من قبل جل دول العالم أمرا لافتا واختيارا حرا للعديد من الدول ذات السيادة والقرار السيادي، إذ ترى أن استمرار إسرائيل في الحرب على غزة ورفض وقف إطلاق النار ورفض الوساطة لإيجاد تسوية سياسية يجب أن يقابله إجماع دولي حول إنشاء الدولة الفلسطينية وحل الدولتين، رغم ما يكتنف هذا الحل من صعوبات وتعقيدات بسبب سيطرة الاحتلال على قطاع غزة ورغبته في تحويله إلى منطقة عسكرية ومحاولته أيضا ضم الضفة الغربية، وهي الأراضي التي احتلتها إسرائيل خلال حرب الأيام الستة عام 1967 وجزأتها إلى خليط من المناطق والجيوب، واليوم تقسمها إلى 3 مناطق، ستكون جوهر الدولة الفلسطينية.
إن خيار إنشاء الدولة الفلسطينية الوحيد المطروح والمقبول على الساحة الدولية لا يقتصر على شروط وكيفية إنهاء حرب غزة التي تدخل قريباً عامها الثالث، بل يتناول مجمل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لا بل الإسرائيلي -العربي، إذ يستهدف التوصل إلى إطار هندسة أمنية إقليمية شرق-أوسطية يمكن أن توفر الأمن والاستقرار في المنطقة.
0 تعليق