يأتي اليوم الثالث من المهرجان الوطني للفيلم بطنجة ليشكل نقطة تحوّل في المزاج السينمائي العام، إذ تميز بتركيزه على أفلام اجتماعية تتناول قضايا راهنة بلغة نقدية تمزج بين الواقعية والسخرية، وبين الألم والتحايل الفني على وجع الواقع.
وكشف هذا اليوم عن ميل متصاعد نحو سينما تمردية، تخرج عن النمطية المعتادة وتستدعي جرأة شديدة في الشكل والمضمون. ومن فيلم “الوصايا” الذي هو صرخة ضد قوانين جائرة وضد الهيمنة الذكورية، إلى فيلم “روتيني” الذي يرصد بشكل ساخر اختناق الأدوار النمطية للمرأة في العصر الرقمي، وإلى فيلم “طر بي إلى القمر” الذي يقدّم لحظة تحرر فردي من قبضة الأعراف، مرورا بفيلم “شيخة” الذي يستعيد الذاكرة الفنية الشعبية بوصفها مقاومة ناعمة ضد السلطة الذكورية، وصولا إلى المفاجأة التي حملها فيلم “أطومان” باعتباره أول تجربة مغربية في سينما الأبطال الخارقين.
وهذه البرمجة لم تكن مجرد ترف فني بقدر ما تعكس دينامية جديدة في السينما المغربية، حيث يتم التأسيس لنوعين متكاملين من السينما: سينما ذات بعد نقدي واجتماعي حاد، وسينما ذات خيال تعبيري تنفتح على إمكانيات الحلم والبطولة الرمزية.
ومع تنامي ظواهر اجتماعية مثل الفقر والبطالة والاحتجاجات، تصبح هذه السينما التمردية ضرورة فنية وأداة تعبير عن وعي جمعي جديد، إلا أنها تظل ظاهرة صحية في المشهد السينمائي المغربي، بما تفتحه من نقاشات وتصورات مغايرة حول الهوية الفردية والجماعية للمغاربة.
“الوصايا”.. مرافعة سينمائية
في فيلمها «الوصايا» (2025/ 105 دقائق) تطرح المخرجة والسيناريست والممثلة سناء عكرود مشهدا دراميا مكثّفا للحياة الاجتماعية والقانونية التي تواجه فيها المرأة المغربية قضية الحضانة والولاية والزواج المبكر، فتأخذنا إلى قلب معركة شخصية عنوانها «الضاوية»، امرأة مطلقة تخوض صراعا قضائيا ضد طليقها من أجل استعادة حضانة ابنتها، وفي الوقت نفسه تناضل لحماية نساء تعاونينها من قانون يمارس «الوصاية» عليهن. يحيل العنوان إلى فيلم “الوصايا العشر” (1956) للمخرج سي سيل بي د ميل، حيث الوصايا دينية وسماوية؛ بينما الوصايا هنا عند المخرجة عكرود اجتماعية وقانونية ونفسية.
وما يلفت في هويّة الفيلم هو الجمع بين التمثيل الذاتي والتخييل الدرامي، والذي يحمل جزءا من هوية المخرجة. وهذا المزج بين السير الذاتية والمشاهد العامة يجعل الفيلم وكأنه شهادة سينمائية أو مرافعة سينمائية، تقدّم فيها البطلَة (الضاوية/عكرود) بوصفها ضحية وبطلة في آن واحد، قبل أن يتمّ تحويلها إلى رمزية تمثّل كثيرا من النساء اللواتي يواجهن «الوصاية» القانونية والمجتمعية والعائلية.
ومن الناحية السردية، يعتمد الفيلم على بنية قائِمة وصايا كما يرويها العمل؛ وهي محطات مفصلية في رحلة البطلة التي تريد استعادة حقها وبناء كيانها مجددا. ويعكس هذا التنظيم البنيوي محاكاة تقريبا للقوانين أو التوجيهات؛ لكنه يتحول في سياق الفيلم إلى مقاطع درامية تكشف التراكم النفسي والاجتماعي للبطلَة: كيف ترتب معاركها المختلفة؟ وماذا تخسر؟ وماذا تكسب؟ وما هو الثمن النفسي والرمزي الذي تدفعه؟
أما على مستوى الهوية السينمائية، فيبدو أن عكرود اختارت منطلقا «واقعيّا» بنفس السينما الواقعية وبنفس يقترب من الوثائقي: ويرصد الفيلم الواقع الاجتماعي – زواج القاصرات، إسقاط الحضانة عن الأم بعد الزواج، التعديلات القانونية المرتقبة – ويحوّله إلى سرد درامي مؤثر.
أما أزمات الفيلم الكبرى فيمكن قراءتها من زاويتين: أولا الإشكالية القانونية/ المجتمعية، حيث تُطرح أسئلة عن جدوى القوانين التي تبدو فعليا وكأنها تمنح حماية للمرأة لكنها في الواقع تفتح أبوابا لتدخلات الوصاية والعراقيل. وثانيا الإشكالية السردية: حين تُحاول البطلة أن تكون «صوتا» لكل من له تجربة، فقد ينهش التعميم بعضا من خصوصية التجربة، وتوازن بين الأداء الشخصي والتعميم المجتمعي ليس سهلا. وكذلك تحويل التجربة الحقيقية إلى سرد سينمائي يعرض لخطر أن تختزل معاناة أو تجعلها مثالية أو بطلَة نموذجية، ما قد يبعد قليلا عن «العاديّ» أو «الخبرة المشتركة». من هذا المنظور، يمكن القول إن الفيلم يواجه التحدّي المزدوج: أن يكون سردية مقنعة تقدم البطلة ببعد إنساني. وفي الوقت نفسه يكون الفيلم نقدا لوضع اجتماعي يكشف معاناة المرأة والأسرة المغربية في مواجهة إشكاليات مجتمعية وعقليات محافظة تم إشكاليات قانونية صعبة.
أما فيما يخص البطلة داخل الفيلم، فتقع «الضاوية» في مكان مركب: هي أم، مطلقة، تواجه طليقا، وتواجه العدالة، وتواجه ظلال المجتمع، وتواجه أيضا وهم الاستقرار. كما أنها تمثّل تلك المرأة التي يقول الفيلم على لسان البطلة الضاوية أنها «تخوض معارك يومية، وبصفة شخصية تنوب عن الجميع”. ويمتد البعد النفسي بشكل واضح: الخوف من فقدان الحضانة، يعني الخوف من فقدان الهوية، والخوف من تكرار التجربة الزوجية الفاشلة. ويعني هذا الخوف من أن تُمحى الذات، والنضال مع القضاء تجربة التعاونية، وهذا يجعلها في موقع مواجهة ليس فقط خارجيا وإنما داخليا أيضا. والرمز الذي تمثّله البطلة يتجاوزها: إنها رمز لمقاومة المرأة في مجتمع لا يزال فيه قانون الأسرة ومقتضياته محط نقاش وإصلاح مستمر.
ويكشف الفيلم بوضوح أن «القضايا التي تهم المرأة داخل مؤسسة الزواج» ليست خاصة بها فقط، وإنما تهم كل شرائح المجتمع بالنظر لحساسيتها. ويضع أمامنا سؤالا: كيف يمكن للسينما أن تتحول إلى فضاء للنقاش القانوني والاجتماعي؟.
من الناحية الرمزية، فإن «الوصايا» ليست مجرد قائمة لنصائح أو إرشادات بقدر ما ترمز إلى دوافع البطلَة وقوانين غير مكتوبة في المجتمع المغربي: وصايا الصمت، وصايا المقاومة، وصايا الأمل، وصايا الاعتراف بالنفس. وتحويل التجربة الشخصية إلى «وصية» هو تجسيد لطلب الاعتراف: «لقد عشت هذا، ولهذا أوصيكم» تقول البطلة. وبذلك، يصبح الفيلم ليس فقط عرضا لمأساة، بل استدعاء للمشاركة والنظر في الذات والمجتمع معا.
ويمكن القول إن «الوصايا» يشكّل محطة مهمة في السينما الاجتماعية بنفس واقعي: عمل يجمع بين الموقف الاجتماعي والهوية الذاتية، وبين الواقع القانوني والتخييل السينمائي، وبين المعاناة الفردية والاجتهاد الجماعي. ولا يخلو الفيلم من بعض التوازنات التي يمكن أن تُعيد النظر في العمق السردي أو في التركيز على الجانب النفسي لبعض شخصيات الفيلم؛ لكنّه بلا شك إسهامٌ جريء وضروري في نقاش المرأة والأسرة والسيادة القانونية. إنه دعوة للاعتراف – بالمرأة، بالأم، بالمحاربة – وبضرورة أن تطلق «وصاياها» بشكل علني.
فيلم “شيخة”.. البحث عن الذات والهوية
في فيلمهما القصير «شيخة» (2024/ 25 دقيقة)، يقدّم المخرجان أيوب اليوسفي وزهوة الراجي تجربة بصرية وموسيقية تنتمي إلى سينما الهوية والتوثيق، حيث تُستعاد شخصية فنية مغربية نسائية بحمولة رمزية كبيرة. ولا يحكي الفيلم فقط قصة تلميذة متمردة تدعى فاتن تحصل على البكالوريا وتعشق العيطة رفقة والدتها وإنما يرسم ملامح ذاكرة ثقافية تتجاوز الشخص إلى ما تمثّله من معاني الإصرار والتمرد والتمسك بالأصل.
وينتمي فيلم «شيخة» إلى سينما الواقع المتخيّل أو ما يُعرف بـ”السينما الاجتماعية الشعرية”؛ فهو يوظف الموسيقى والإضاءة والحركة لإيصال بعد نفسي عميق عن امرأة تتحدى النسيان والتهميش عبر صوتها وجسدها وإيقاعها. ولا يُقدّم الفيلم السيرة الذاتية بقدر ما يقدّم سردية مضادة للصورة النمطية عن الفنانة الشعبية (الشيخة)، ويطرح سؤالا كبيرا: من يملك شرعية الحكي ومن يصوغ الذاكرة الجمعية؟
وفي بعده الاجتماعي، يرصد الفيلم صراع المرأة مع الرقابة المجتمعية. أما في بعده النفسي، فإنه يُظهر كيف تصبح الموسيقى ملاذا ومساحة تعبير تتجاوز الألم لتصير فنا حيا. ويعتبر فيلم «شيخة» عملا جريئا في طرحه ومشهديته الحميمية؛ لكنه عميق في أثره، يقدّم عبر الصورة والصوت درسا في الانتماء والحرية ضد السلطة الذكورية وضد الهيمنة.
“طر بي إلى القمر”.. الرقص فوق القيود
في الفيلم القصير “طر بي إلى القمر”(2025/ 15 دقيقة) للمخرج زكرياء النوري، نشهد لحظة خاطفة؛ لكنها مشحونة بالتمرد والاختيار الجذري، حيث تتخذ الشابة فريدة التي تبلغ من العمر 24 سنة قرارا مزلزلا بالهرب ليلة عرسها رفقة من تحب متحدية الأعراف والتقاليد والانتظارات الاجتماعية المتراكمة فوق كتفيها.
ويعالج الفيلم موضوع الحرية الفردية من منظور نسوي وحميمي، حيث لا صوت لفريدة في البداية سوى صمتها العميق ونظراتها المبعثرة قبل أن ينفجر المشهد الأخير بفعل إرادتها كأنها توقّع أخيرا على نص حياتها. وتمثل الشابة فريدة حالة تمرد على نظام اجتماعي لا يمنح المرأة فرصة للقول أو الرفض وقرارها بالهروب ليس فعلا عاطفيا فقط بقدر ما فعل تحرر وتفكيك للسلطة الأبوية.
ويستند الفيلم إلى سرد بصري مكثف وهادئ يعكس صخب الداخل وتوتر القرار وتبدو لحظة الفرار أشبه بالتحليق فعلا إلى القمر، حيث لا جاذبية تشد الأحلام إلى الأرض.
فيلم “روتيني”.. من نافذة النجاة إلى شرفة التأثير
يقدّم المخرج لطفي أيت جاوي في فيلمه الطويل «روتيني» (2025/ 102 دقيقة) تجربة سردية تتقاطع فيها الدراما الاجتماعية مع نقد الواقع الرقمي والثقافي في المغرب بنوع من الفكاهة والسخرية السوداء. وينطلق الفيلم من حادثة تبدو بسيطة: اندلاع حريق في مطبخ زوجة محامٍ، يدفعها إلى الهروب من نافذة المنزل؛ لكنها ليست نافذة للفرار فقط، وإنما بداية تحول جذري في مسار شخصية نورة، من امرأة محاصرة بروتين الحياة الزوجية، إلى مؤثرة ونشيطة اجتماعية تحاول إعادة تشكيل ذاتها ومحيطها.
وينتمي الفيلم إلى سينما اجتماعية ذات طابع نقدي، تشتغل على تفكيك البُنى الخفية في العلاقات الأسرية والتمثلات الرقمية الجديدة للنجاح والتأثير. ولا تهرب الشخصية الرئيسية من الحريق فقط، وإنما من اختناق أدوارها النمطية كامرأة وزوجة في فضاء يخنق الطموح الشخصي ويكبح التعبير الفردي.
ويطرح الفيلم ثنائية الواقع والافتراضي، بتمثلات النجاح السريعة عبر السوشال ميديا وبإمكانات التغيير الشخصي في مجتمع يُحاصر المرأة بأدوار محددة. ومن خلال هذا التصادم بين لحظة الخوف ولحظة التمكين، ويُظهر الفيلم وعيا حادا بالبعد النفسي للبطلة التي تعيش انتقالا من حالة السلبية إلى الفعل، ومن التبعية إلى المبادرة.
وتظهر هوية المخرج لطفي أيت جاوي، في الاشتغال على المفارقة بين الواقع الساكن والحدث المفاجئ، وبين البنية المغلقة ومساحات الحرية الفردية. ولا يمثل فيلم “روتيني” مجرد نقد ليوميات قاتلة، وإنما محاولة لاقتناص معنى جديد للوجود داخل الفوضى.
فيلم “أطومان”.. السوبرمان المغربي
يقدّم فيلم “أطومان” تجربة فريدة في السينما المغربية، من خلال إعادة تخييل شخصية السوبرمان في قالب محلي يستند إلى ملامح الثقافة والواقع بنكهة مغربية. أطومان / حكيم هو بطل خارق ينحاز إلى الخير والعدالة ويقف في وجه الفساد والشر بأسلوب يمزج بين الخيال الشعبي والدراما الاجتماعية.
ويمثّل الفيلم أول محاولة مغربية في مجال أفلام الأبطال الخارقين، حيث يتقاطع فيه الحلم بعالم عادل مع الحاجة إلى نماذج بطولية قريبة من الناس. ومن خلال شخصية أطومان، يؤسس العمل لسردية بطولية جديدة تتحدث بلسان مغربي وتطرح مفهوما محليا للقوة والكرامة. ويتحدث الفيلم في مجمله بلغة فرنسية كما يبرز في سرديته، مقاطع من المجال التنموي والسياحي للمغرب من خلال مشروع الطاقة الشمسية بورزازات والطبيعة والمغربية والقلعة الأثرية بالجنوب تم مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء.
تكشف العناوين المعروضة خلال اليوم الثالث من مهرجان الوطني للفيلم بطنجة أن السينما المغربية تدخل مرحلة جديدة من النضج والجرأة، سواء في أشكالها السردية أو في موضوعاتها.. وما يجمع هذه الأعمال هو اشتغالها على مفاهيم التحرر والهوية والتمرد، في مواجهة واقع يتغير بسرعة ويطرح تحديات اجتماعية وقانونية ونفسية معقدة. ولا تكتفي هذه هي سينما بالتوثيق ولا تسعى فقط إلى الإمتاع بقدر ما تنخرط في قلب التحولات الجارية، وتسائل المتلقي والمجتمع على حد سواء. وهذه القدرة على تجاوز التكرار وصناعة رؤية متجددة تجعل من هذه الدورة المحكمة التنظيم مناسبة للتفكير في أفق السينما المغربية، بين الواقعي والخيالي، بين النقدي والرمزي، وبين الفردي والجماعي. وهذا التعدد والتنوع في الرؤى والتجارب السينمائية لا يعني التشتت؛ وإنما يعكس وعيا فنيا جماعيا بأن السينما يجب أن تكون فضاء للمواجهة لا للطمأنة، للقلق لا للركود، وللحكي الذي يصنع وعيا يتجاوز الشاشات.
0 تعليق