بعد ثلاثيته السينمائية التسجيلية “أحلام نساء” عن النساء الألمانيات المعتنقات الإسلام، و”جواهر الحزن” عن الأمهات العازبات في المغرب، و”صمت الزنازين” عن سجون النساء في المغرب، يلج محمد نبيل تجربة مسرحية جديدة “لكلٍّ قبره” التي كتبها وأخرجها بنفسه في مدينة برلين وبدراماتورجيا يوهانا بلينا. فمن خلال هذا العمل المسرحي الذي يتناول سؤالاً وجودياً عن الهوية والانتماء، يضيف محمد نبيل امتداداً لموضوعاته عن المرأة، وبعيداً عن الرؤية السينمائية الوثائقية، إطلالة نوعية أخرى يقدم من خلالها مساءلة الهوية والتأصيل في ظل الهجرة.
فمن خلال شخصية فاطمة (مريلي روزيرز) وأحلام (زنهيلد تروجيلو) يناقش عمل “لكل قبره” صراع رؤى الأختين في بعده الإنساني، الذي يجسد ظاهرياً اختلاف مفهوم الانتماء، بينما يحمل في عمقه صراع الذات بين الأنا والهوية. فلكل من الأختين من أصول مهاجرة ومن نفس الأب، تصور مختلف عن هوية الانتماء إلى البلد الأصلي. فبعد موت الأب تلتقي البنتان في مستودع الموتى للقيام بإجراءات دفن والدهما، الذي عاش لفترة طويلة في المهجر، حيث يبدأ نقاش تصاعدي بين الأختين، يمثل المحور الأساسي للمسرحية حول الأرض التي ستواري جثمان أبيهما.
القبر والانتماء
في الوقت الذي تصر فاطمة على عودة جثمان الأب إلى الوطن الأم ودفنه فيه، حيث ولد وقضى فيه ردحاً من حياته، ترى أحلام أن مكان دفن جثمان أبيها الطبيعي هو الأرض التي هاجر إليها وعاش فيها مدة من الزمن ومات فيها. فقد أصبحت هذه الأرض بعد هذه الفترة الطويلة من الهجرة وطنه الفعلي.
في مسرحية “لكل قبره”، يتحول جثمان الأب إلى أداة تبنى عليها تصورات الأختين عن مفهوم الوجود، الموت والاغتراب، ويصبح هذا الجسد الميت الذي لا يملك إمكانية الإفصاح عن رغباته، مادة لإثبات الانتماء إلى الوطن الأم أو الابتعاد عنه وانتحال هوية بلد الهجرة. فهذه المفارقة في مسرحية “لكل قبره” قد تبدو للوهلة الأولى مجرد تصورات مشاعر إنسانية متباينة للبنتين في فهمهما للهجرة وبعدها الوجودي، غير أن هذه المواقف الأسرية حول موطن الموت والدفن، تشكل في عمقها إشكالية تيه الكائن البشري نفسه في ثنائية البحث عن الذات وتعريف الهوية. إنه سؤال البحث عن الوطن الداخلي، عن بوصلة الاهتداء إلى طريق التوجه الذاتي والخروج من متاهة الأسئلة الوجودية المحرجة. من أنا وإلى أين أنتمي؟
فرغبة فاطمة هي تجسيد لرغبة البحث عن الماضي، التصالح معه، التنقيب عن جذور الهوية الضائعة أو المتلفة، ولو بالتتشبث بشيء من بقاياها في صورة مراسيم دفن والتصاقه بتربة وطنه الأم. بينما رغبة أحلام هي دفن للماضي وإقبار هاجس العودة إلى الوطن الأم، والإعلان عن الالتحاق بالوطن الآني وحفر هوة القطيعة مع ذلك الماضي، الذي لا يزال يلقي بظلاله على إحساسها بالدونية.
فدفن جسد الأب هو دفن لذكريات بكل ما في حمولتها من تمزقات وتشتت بين هنا وهناك. حيث يشعر المهاجر في بلده الأم أنه لم يعد ينسجم مع المنظومة الاجتماعية المتغيرة باستمرار، فهو غريب في وطنه، وغريب هناك في بلد الهجرة لأنه لا يوفق في الانسجام والاندماج في عالم بعيد عنه، عالم لا يوافقه ولا يفارقه، وفي نفس الوقت يحمل في ذاكرته صورة وطن ثابتة غير متحولة.
لقاء الغرباء
طبع ذلك اللقاء بين فاطمة وأحلام، بعد قطيعة طويلة بينهما، تلك الأجواء بالجفاف وبمناخ خال من حميمية اللقاء العائلي، فهو لقاء ليس لمقاسمة الحزن ولا للمشاركة في شعور ضياع الأب، بل لتفجير صراع متراكم والكشف عن الذات وعن الاغتراب والبعد عن الآخر، فيتحول هذا اللقاء إلى معركة ملاسنة لا هدف من وراءها غير تضخيم الأنا ومحاسبة الماضي في صيغة الحزن.
فهذه الأجواء المثقلة بالتباعد بالاغتراب، الجفاف في اللقاء، البحث عن التفوق القرار السلطوي، تمركز الذات في ظل متاهة من الصراع الداخلي والتأرجح بين الأنا والآخر، كانت خلاصة عكسها كاتب النص محمد نبيل الذي درس ودرّس الفلسفة في المغرب وعمل في الصحافة، وتنقل بين دول ساهمت في تطوير منظوره وأثرت في نمط تفكيره مثل روسيا، كندا وألمانيا، عكسها فوق الركح، كموضوع فلسفي متحرك وبأدوات ذات قابلية فنية. إنه تعميق للسؤال الوجودي حول البحث عن هوية عند الأسر المهاجرة والأجيال القادمة، من أين وإلى أين؟
من أين وإلى أين؟
“لكل قبره” هو امتداد لمقدمات حوارات أخذت طابعاً تجريبياً قام به محمد نبيل من خلال جملة من القراءات الأدبية باللغتين العربية والألمانية التي نظمها نبيل برفقة الممثلة الألمانية ميلاني شتالكوبف في برلين لكتاب عرب معروفين كالطيب صالح، عبد الرحمن منيف، فاطمة المرنيسي، إدريس الشرايبي ومحمد شكري، خالد السهولي، وهي قراءات تعكس في ذاتها البحث جواب من أين وإلى أين؟ تحت مظلة المجموعة المسرحية Flaschengeist (روح القارورة) طاف عمل نبيل “لكل قبره”، بين عدة قاعات عروض سواء في برلين أو خارجها، عروض تفاعل معها الجمهور بتباين ونوع من الحذر والتساؤل وتلقاها بمزيج من الغرابة والتطلع إلى سِفْر الأجوبة، فالموت موضوع حساس، والدفن في هذا البلد لا يتم علناً ويقتصر فيه على الأقارب والأصدقاء ولا يحمل جثمان الميت جهاراً عبر الشوارع بل في سيارة سوداء في شبه سرية وتكتم.
لقد اختار نبيل إطاراً لمجريات عمله الفني، فضاء بيت الموتى حيث تتراكم توابيت الموتى بعضها فوق بعض، توابيت لا تحمل أسماء ولا نعوت ولا إشارات كل ما تحمله هو حروف وأرقام مثل K11، أو L73 تشير إلى أن الموت سيد الموقف هناك وهو البطل التراجيدي في مرثية الأحياء. فالموت في مجتمع استهلاكي لا يمثل إلا رقم بضاعة ككل بضاعة ستصدر إما إلى التراب أو إلى المحرقة. فكل شيء رهين بالمقدار الذي سيدفعه أقرباء الميت أو تأمين الموت. في تلك الأجواء من الموت الأصم، الخالية من ألوان الحياة، يُعبر فضاء أخرس يدثره لون رمادي قاتم بجدران سوداء، ومكلف بحفظ الموتى وترتيبها وفقاً للضرورة وهو السيد ميلا (بنديكت ميلتسر) بسحنته الجافة وجفاءه وقسوة تاجر الموت الذي هو خزان جهنم في الدنيا قبل الآخرة، يُعبر على ذلك الحزن الدفين والمشاعر القاسية وعلى تلك العتمة مثخنة بالنحيب العبثي الكتوم. فكل ما يكسر تلك الطبقات من الرثاء هو طيف روح الميت الراقص الذي يطل من حين لآخر، والذي جسدته (هيبة الدزيري)، كالتفاتة فنية في نسيج أضواء وموسيقى شرقية زاهية، تمنح المشاهد استراحات من كآبة مناخ الموت، الذي يذكرنا بعالم الأموات السفلي في الميتولوجيا الإغريقية.
فنص “لكل قبره”، الذي يعتمد بالدرجة الأولى على الكلمة، الحوارات المسهبة بلغة تتراوح بين اللغز والإفصاح تجعل المشاهد أحياناً يدخل في تيه مخبول بين كثير من الحوارات الممتدة بطولها حتى الإغفاء وعبثية مشاهدة شخصية لا هي داخل الحدث ولا خارجه مثل مشهد السيد ميلا الذي يظل أحياناً شاغراً من المشاركة في حوار الأختين أو الفعل المسرحي.
يحاول نبيل تقديم أجواء محايدة لا لكسب تعاطف المشاهد ولا للزج به في قسوة وعبثية الموت، بل يعمل على إدماجه في لعبة الهوية من خلال ألغاز نشر ثوب كفن كتبت عليه كلمات بحروف عربية متداخلة مثل الأرض، القبر، والموت، سؤال موجه للمشاهد لفك رموزه، وفي نفس الوقت يزوده بأسئلة حول الموت والحياة والانتماء والهوية، أسئلة يحملها معه حين يغادر مكان العرض.
لقد تراوح العرض فنياً بين الموسيقى والإضاءة التي وظفت للإضاءة أكثر منها في بعدها السينوغرافي، وتسليط الضوء على الفعل المسرحي، حيث لم تستطع هذه العناصر إضافة صورة جمالية للمشهد المسرحي بل بقيت في حدود العناصر التكميلية وليست الفاعلة.
0 تعليق