المهرجان الوطني للفيلم بطنجة.. التاريخ في مرآة السينما ووجع المجتمع - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في اليوم الثاني من فعاليات المهرجان الوطني للفيلم بطنجة، تألقت الأبعاد الإنسانية والتاريخية والاجتماعية في عدد من الأعمال السينمائية التي شكّلت لحظة تأمل جماعي في قضايا الهوية والذاكرة والتهميش. وتميز هذا اليوم الثاني بحضور أفلام اختارت أن تنبش في مساحات منسية من التاريخ المغربي وتُعيد بناء سرديات الجنود المغاربة في حروب بعيدة عن أرضهم. وتُعيد الاعتبار لحكايات كانت مطموسة تحت ركام النسيان. كما عرف هذا اليوم تفاعلا قويا مع سينما اجتماعية واقعية، تنقل تفاصيل الحياة اليومية بمرارتها وسخريتها وتجعل من المعيش المأزوم مادة درامية نابضة ومع حضور مكثف للجمهور متعطش للسينما.

فيلم “لن أنساك”.. الكتيبة المغربية في الجولان في حرب أكتوبر1973 وما بعدها

في لحظة سينمائية آسرة تتقاطع فيها الذاكرة الوطنية مع الألم الإنساني والوفاء لرفاق السلاح، يقدّم المخرج الشاب محمد رضا كزناي فيلما وثائقيا طويلا بعنوان “لن أنساك” (93 دقيقة) من إنتاج قناة الجزيرة القطرية. ويحفل الفيلم، الذي امتد إنجازه على مدار خمس سنوات، بشهادات حية ولحظات مؤثرة توثّق لمرحلة غائبة عن الكثير من الذاكرة الجمعية المغربية؛ وهي مشاركة الكتيبة المغربية في حرب أكتوبر على الجبهة السورية بالجولان عام 1973.

ولا يكتفي الفيلم فقط بسرد تاريخي جاف وإنما يغوص في عمق التجربة الشخصية للجنود المغاربة الذين عبروا الحدود إلى أرض المعركة حاملين همّ الواجب القومي ورافعين علم المغرب في خنادق الجولان. كما يسلط الضوء على أجواء حرب ستة أيام وما بعد الحرب من رفقة وتشظٍّ في المصير الإنساني لرجال كانوا بالأمس القريب جبهة واحدة وسلاحا واحدا. ويحكي الفيلم مسار جندي مكلف بالدبابات علال مرفيس وحفيده المخرج الذي يستقصي التجربة في كل أبعادها.

ويستعرض الفيلم، عبر شهادات حيّة تتسم بالشجون، عن الجنود العائدين إلى جغرافيا المغرب الشاسعة؛ من خلال “كاسيت ” كوصية ووثيقة سمعية وبصرية تحتفظ بها زوجته جميلة وتسلمها للحفيد الذي يطوف بها المدن والقرى المغربية من شماله إلى جنوبه.

ويزخر الفيلم بحكايات منسية وجراحا لم تندمل بعد؛ فبعضهم عاد محمّلا بذكريات لا تنطفئ، وبعضهم عاد ليجد نفسه غريبا في وطنه، والبعض الآخر لم يُتح له حتى أن يعود فغاب في غياهب المجهول.

واختار المخرج الشاب المخرج محمد رضا كزناي أن يتعامل مع المادة الوثائقية بحس فني وإنساني عالٍ معتمدا على بناء بصري متماسك ومؤثر يتراوح بين الأرشيف النادر والصورة والشهادات الحية وبين وجوه حفرتها الحرب وقلوب أنهكتها الغربة والخذلان وبين أراضٍ جرداء شاهدة على قسوة المعركة وسكون النسيان. واعتمد المخرج في بعض المشاهد على صور من الذكاء الاصطناعي عن تكلفة الحرب.

ولا يتناول الفيلم الوثائقي فقط الجانب الحربي من المشاركة المغربية بقدر ما يثير أسئلة أعمق حول معنى التضحية والانتماء وحول القيمة الحقيقية للذاكرة في وجدان أمة لا تزال تخوض صراعا مع نسيانها المؤسسي لصفحات مشرقة ومؤلمة من تاريخها العسكري والسياسي والاجتماعي.

ويبرز الفيلم واقعا هشا يعيشه الجنود العائدون في أوضاع مزرية جعلت الكثير من المشاهدين يحبسون أنفسهم من قسوة المشاهد، حيث يشتغل أحد الجنود في النظافة وسائق لشاحنة لها بمدينة الداخلة.

ويُحسب للفيلم أنه لم يقع في فخ الخطاب الدعائي ولا في متاهة النوستالجيا بقدر ما قدّم مادة صادقة وحقيقية تنطق عبر وجوه أبطالها وتُروى بلغة بسيطة؛ لكن قوية عبر سرد متماسك، يجمع بين الوثيقة والشهادة والتحليل في توازن دقيق يحفظ للفيلم طابعه التوثيقي دون أن يفرط في الجانب الإبداعي.

ولعل ما يميز فيلم “لن أنساك” أيضا هو تلك الجرأة الهادئة التي يقترب بها من قضايا ظلّت طويلا على هامش الاهتمام الرسمي والثقافي في المغرب، حيث يفتح الفيلم نافذة صغيرة على واقع الجنود بعد عودتهم من الحرب وكيف تفرقت بهم السبل بين من تقاعد بصمت ومن تقطعت به سبل الحياة ومن ظل يحمل في قلبه على رفاق سقطوا ولم يعرف شيئا حتى قبورهم.

ولا يمكن اعتبار الفيلم مجرد وثيقة بصرية عن حرب خاضها جنود مغاربة على أرض غير أرضهم؛ فهو فعل مقاومة ضد النسيان، وضد التجاهل، وضد اختزال التاريخ في انتصارات الآخرين وخساراتنا المنسية. والفيلم أيضا هو فعل اعتراف بجنود مجهولين لم تمنحهم الميداليات ولا الكلمات، وحقهم في الذاكرة الجماعية المنسية.

“لن أنساك” عنوان لا يأتي من فراغ؛ فهو وعد يقطعه المخرج على نفسه باسم جيل لم ينصفه التاريخ الرسمي. ولعله بذلك يفتح الباب أمام مزيد من الأعمال التي تُعيد الاعتبار لأناس عاشوا لحظات استثنائية في خدمة قضايا أكبر منهم وضحّوا دون أن ينتظروا شيئا في المقابل.

إنه فيلم عن الجنود المغاربة في هضبة الجولان وبسالتهم وشجاعتهم؛ لكنه أيضا عن الإنسان في لحظة الحرب وما يحدث بعد إطلاق الرصاص وانتهاء المعركة، وعن الوجع المتسلل إلى البيوت، وعن العيون التي لا تزال ترى المعركة رغم مرور ما يقارب من خمسة عقود، وعن الذاكرة التي لا تموت طالما هناك من يجرؤ على تذكيرنا بها.

في الفيلم أيضا صورة للطفل الصغير الذي يرسم الحرب والأعداء والأشرار ويستمع إلى أغنية “أجي نتصالحوا ” التي تحولت من أغنية عاطفية إلى سلاح دعائي بالدعوة بانسحاب الجنود المغاربة من معركة بعيدة عنهم جغرافيا. وينتهي الفيلم بمنزل يحمل رقم 31، عن منزل ريفي بشمال المغرب طاله النسيان كما زوجة الجندي البطل بشهادة باقي زملائه. صورة من الأعلى للمنزل ترتفع، وكأنها ترفع أرواح الجنود إلى بارئها…

ولا يمثل فيلم “لن أنساك” مجرد عنوان وإنما هو رسالة مفتوحة إلى وطن بأكمله بعدم نسيان تجربة سياسية وعسكرية ونفسية واجتماعية اكتوى بها الجنود المغاربة بفقدانهم هناك، وظل السؤال هنا حائرا يبحث عن إجابات شافية.

فيلم “لن أنساك” يفتح الجراج، ويثير الأسئلة وترك جانبا من المتفرجين يمسحون دموعهم على لحظة تاريخية فارقة لازالت جراحها لم تندمل بعد.

“فيلم الهروب 1944”.. استعادة سينمائية لذاكرة الحرب والصمت

يقدّم الفيلم القصير “الهروب 1944” (2025 / 19 دقيقة) للمخرج سعيد حسبي عملا مؤثرا يستند إلى قصة حقيقية من سيرة والده الذي فقد بدوره خلال الحرب العالمية الثانية. ويعيد الفيلم بناء اللحظات الأخيرة وأشلاء الحكاية المنسية والمتشظية لحياة جندي مغربي شارك مع الحلفاء ومع الجنود المغاربة ضد الجبهة الألمانية وقتل في عراك مأساوي بعيدا عن وطنه وسط فوضى المعركة وغموض المصير.

ويصر المخرج على أنها تجربة واقعية وتاريخية حاول أن يمزج فيها بين الجانب التاريخي وبين المتخيل السينمائي بروح إنسانية مست الكثيرين في العالم، حسب تصريحه في الندوة الصحافية.

ولا يسعى الفيلم إلى تجميل الحرب وإنما يكشف عن وجهها القاسي والصامت، وعن الجنود المغاربة الذين جُندوا في معركة لم تكن معركتهم وخسروا فيها أكثر من أرواحهم. فقد خسروا أسماءهم وقصصهم التي لم تُروَ قط. كما يسلط الفيلم الضوء على لحظة إنسانية شديدة الخصوصية، حيث يجد الجندي المغربي نفسه في مواجهة عبثية ضد عدو لا يعرفه. وتتحول اللحظة إلى نهاية مأساوية، تلخص حجم التوتر والعنف والانهيار النفسي الذي عاشه الجنود في تلك الظروف الصعبة.

فيلم “أرض الملائكة ” بين بارود الحرب والتصالح مع الذات

في أول تجربة سينمائية روائية له ينتقل الفنان المغربي رشيد فكاك من عالم التمثيل إلى كرسي الإخراج ليقدّم فيلما بعنوان “أرض الملائكة” (2025/ 90 دقيقة)، يحكي فيه عن زاوية مهمشة من التاريخ المغربي؛ من خلال سرد متوازٍ لتجربتين إنسانيتين متقاطعتين: تجربة الجنود المغاربة في الجبهة الإيطالية خلال الحرب العالمية الثانية، وتجربة التبني والتكفل بالأطفال المتخلى عنهم والبحث عن هوية لهم.

ويرسم الفيلم صورة مركّبة ومتشابكة بين دخان البارود وصهيل الخيول ولعلعة الرصاص من جهة وبين دفء العلاقات العائلية وحب الحياة في قلب الجحيم من جهة أخرى. ويختار المخرج رشيد فكاك أن يضع المشاهد في قلب جبهة قاسية، حيث يشارك الجنود المغاربة في معارك على أرض إيطالية بعيدة محمّلين بثقل الحرب وأسئلة الهوية والولاء. وفي خط موازٍ، يتابع الفيلم مسار أسرة قلبها بين المغرب وإيطاليا تعيش بين مظاهر الترف وبين مآسي الحرب حيث تجد نفسها منخرطة في تجربة إنسانية تتمثل في احتضان طفلة متخلى عنها وخوض رحلة التبني التي لم تكن سهلة في زمن يفيض بالخسارات والفقدان.

واستخدم المخرج بقوة الذكاء الاصطناعي في مشاهد الحرب العالمية الثانية ونزول القوات الأمريكية إلى الأراضي المغربية وكذلك لقاء أنفا وصورا للسلطان محمد الخامس مع وينستون تشرشل بأنفا….

ينسج فكاك علاقة بين الحرب كحدث سياسي وعسكري والتبني كفعل إنساني مقاوم للدمار، ويحاول إعادة طرح أسئلة كبيرة عن معنى التضحية والانتماء والعائلة والوطن والحب والتصالح مع الذات والبحث عن الهوية.. ويستعمل مزيجا من اللغات الفرنسية والإيطالية والعربية، أفقدت الفيلم أصالته.

فيلم “موفيطا”.. طقس سيء

يقدّم المخرج الشاب الغزواني معدان أولى تجاربه الروائية في فيلمه “موفيطا” أي “طقس سيء” (2025/ 118 دقيقة) مستندا إلى دراما اجتماعية تعكس قسوة الفقر وضيق الحال الذي تعيشه بعض الأسر المهمشة في زمن الثمانينيات من القرن الماضي. ويتناول الفيلم بأسلوب واقعي وسخرية سوداء قصة مؤلمة عن أسرة بسيطة معوزة، تتكون من الزوج (إدريس) والزوجة (حبيبة) والطفل (أيوب) ورضيع يجدون أنفسهم فجأة بدون مرحاض في منزل يفتقر إلى أبسط شروط العيش الكريم وبين الفقر والمرض. ويعتبر من الأفلام التي خلفت صدى طيبا بين النقاد والحاضرين، وتتعالى بين الفينة حالة من التعاطف مع الأسرة وضحكات على واقع مر يواجه بالفكاهة السوداء.

استقى المخرج عنوان الفيلم “الوقت خايبة” من الثقافة الشعبية المغربية ليعبّر من خلالها عن حالة عامة تعيشها الكثير من الأسر المغربية، حيث يغلب الطقس الاجتماعي السيء على الطقس الطبيعي في حياة لا يرحمها الواقع ولا توفر لها المؤسسات الحماية الكافية.

والفيلم يرصد بدقة تفاصيل يومية ثقيلة تمر بها الأسرة وسط أجواء يغلب فيها الخجل والعجز والفقر والهشاشة والبحث عن كرامة مهدورة. ويختار المخرج أن يكون المرحاض رمزا لإنسانية مفقودة في ظل فقر اقتصادي مدقع وحياة على الهامش ترافقها طقوس اجتماعية.

ويعتبر فيلم “موفيطا” تجربة صادقة تحمل وجعا نابضا وصوتا جديدا في السينما الاجتماعية بالمغرب.

كان ختام هذا اليوم السينمائي المكثف من المهرجان الوطني للفيلم بطنجة بمثابة لحظة تأمل حقيقية في مرآة السينما المغربية، التي تُصرّ على مساءلة ماضيها وحاضرها بشجاعة وعمق.

ونجح هذا اليوم في تكريس السينما كأداة لمقاومة النسيان وكمنبر لرفع صوت من لا صوت لهم، سواء من خلال التوثيق الدقيق أو من خلال السرد الدرامي؛ فقد أبان المخرجون المشاركون عن وعي فني وإنساني متقد محمل بالدموع والأسئلة والدهشة وهي تطارد الجمهور الذي حج لمتابعة السينما بشغف..

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق