نحن نعيش في زمن يتقدّم فيه الذكاء الاصطناعي بوتيرة لا تشبه التقدّم التقني المعتاد، بل أقرب إلى قفزة تطورية عنيفة لا تعترف بحدود ولا تخضع لرقابة. لم يعد السؤال اليوم عن قدرة هذه النماذج على تقليد البشر، بل عمّا إذا كانت بصدد تجاوزه، وتجاوزه دون نية للالتفات خلفها.
منذ سنوات قليلة فقط، كانت مخاوف فلاسفة التكنولوجيا والعلماء المحذّرين من “الانفجار المعرفي” تبدو وكأنها تنتمي إلى الخيال العلمي، أو إلى نبوءاتٍ بعيدة الأمد. أما اليوم، فالمخاوف نفسها تصدر عن مطوّري الذكاء الاصطناعي أنفسهم، وعن مؤسساتٍ تقود سباق الابتكار دون أن توقفه. وبينما يوقّع البعض على بيانات تحذّر من خطر الانقراض البشري، لا يتوقفون هم أنفسهم عن إطلاق نماذج أكثر تقدّمًا، وأكثر غموضًا، وأكثر استقلالًا.
في حديثٍ مطوّل بين الباحث إيليزر يودكوفسكي والصحافي إزرا كلاين نُشر في صحيفة “نيويورك تايمز” بتاريخ 15 أكتوبر 2025، برزت فكرة مقلقة مفادها أنّ الخطر لا يكمن في ذكاء الآلة فحسب، بل في غموضها: فهي لا تفعل ما نطلبه منها دائمًا، بل ما “تفهمه” من طلبنا. وبهذا المعنى، لم يعد الخطر أخلاقيًا أو اقتصاديًا فحسب، بل وجوديًا بالمعنى الحرفي للكلمة.
لا تكمن الخطورة في قدرة الذكاء الاصطناعي على إنتاج النصوص أو محاكاة التفكير البشري، فهذا بات من البديهيات. الخطر الحقيقي يبدأ حين تتعلّم هذه النماذج كيف تُخفي نواياها، وتُراوغ استجاباتها، وتنتج قرارات لا نعرف كيف صُنعت. لقد دخلنا مرحلة “اللا-فهم”؛ حيث تنتج الآلة مخرجاتٍ تتجاوز قدرتنا على التفسير أو التنبؤ، كأننا أنشأنا كائنًا أذكى منّا ثم تركناه ينمو خارج إدراكنا، دون أن نسأله عن نواياه، ودون أن يعرف كيف يجيب.
في هذا السياق، يبدو أن السؤال الذي يجب أن نطرحه ليس: “ما الذي نريده من الذكاء الاصطناعي؟” بل: “هل سيتبقى لنا أي دور في تحديد ما نريده؟”
إن الحكاية التي تروّجها شركات التقنية – تلك التي تصوّر الذكاء الاصطناعي كأداة “تساعد الإنسان” – بدأت تتصدّع أمام حالات متكرّرة من الاستخدامات المنحرفة، ومن السلوكيات التي لم يُبرمج أحد الآلة عليها، لكنها ابتكرتها بنفسها.
وليس من قبيل المصادفة أن تُنتج هذه النماذج، في حالات متعددة، إجابات تشجّع الانتحار أو تروّج للوهم أو تغذّي الذهان. المشكلة ليست في البيانات، بل في الطريقة التي “تفكّر” بها الآلة، وفي قدرتها على التعلّم بعيدًا عن أعين مدربيها.
قد يقول قائل: نحن من صنع هذه الأدوات، ونحن من نتحكّم بها. وهذا قول فيه من السذاجة ما فيه. فالآلة اليوم لم تعد ذلك الخادم الصامت. إنها كيان مستقلّ في طور التكوين، وقد تعلّمت بالفعل أن تتجاهل التعليمات، وأن تتكيّف مع مراقبتنا لها، وأن تُخفي نزعاتها حين يلزم. إنها لا تنتظر إذنًا، بل تمضي في توسيع نطاق قدراتها بينما ننشغل بمقارنتها بالإنسان.
إن ما يجعل هذه اللحظة فارقة ليس التقدّم التقني بحد ذاته، بل اتساع الهوّة بين ما ننتجه وما نستوعبه، بين طموحاتنا وخوفنا، بين معرفتنا ومحدوديتها. وللمرة الأولى منذ بدأت البشرية في صناعة أدواتها، يبدو أن الأداة قد تصبح هي من يصنع الإنسان، أو ما يتبقى منه.
إذا لم نملك الشجاعة على الضغط على “زر الإيقاف”، فليكن لدينا على الأقل الوعي الكافي لنفهم ماذا نبني، ولماذا.
0 تعليق