قراءة في احتجاجات "جيل Z" - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

فيما يلي نعرض بعض الخلاصات الأولية حول الاحتجاجات الشبابية التي شهدتها بلادنا مؤخرًا، والتي أُطلق عليها اسم “جيل Z 212”.

يُقصد بهذا الجيل الشباب الذين وُلدوا بين عامي 1997 و2010، وهي الحقبة التي شهدت توسعًا غير مسبوق في استخدام الإنترنت وتكنولوجيا التواصل عبر العالم.

لكنّ مطالب هذا الجيل لم تقتصر على قضاياه الخاصة، بل تجاوزتها لتشمل هموم مختلف فئات المجتمع، من قضايا الصحة والتعليم والتشغيل إلى ملفات الفساد وربط المسؤولية بالمحاسبة.

وربما كان هذا الشمول في المطالب هو ما منح هذه الحركة قوتها وزخمها، ودفع فئاتٍ واسعة من المواطنين إلى مساندتها، معتبرين مطالبها مشروعةً وعادلة، تعبّر عن حسٍّ بالمسؤولية ووعيٍ نقديٍّ حادّ لدى الجيل الجديد.

المدن الجديدة… حلم عمراني تحول إلى فضاء للإقصاء

سلّطت هذه الاحتجاجات الضوءَ، ووضعت على طاولة النقاش، الاختلالات البنيوية في تخطيط المدن الجديدة مثل الصخيرات وتامسنا وعين عتيق وعين عودة وغيرها كثير في جهات أخرى من المملكة، وهي المدن التي شُيِّدت منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي على أمل أن تشكّل نموذجًا عمرانيًا بديلًا يخفف الاكتظاظ عن المدن الكبرى. غير أن الواقع سرعان ما كشف عن هشاشتها البنيوية والاجتماعية.

تفتقر هذه المدن إلى الحد الأدنى من المرافق الحيوية: فلا مستشفيات ولا مستوصفات قريبة تُعنى بصحة السكان، ولا مراكز أمن تكفل الطمأنينة والنظام، فيما تتفاقم أزمة النقل والمواصلات لتجعل التنقل اليومي تجربة مرهقة، تعكس ضعف الرؤية التخطيطية وغياب فلسفة عمرانية تراعي الإنسان واحتياجاته.

وهكذا، لم تعد المشكلة في غياب الخدمات فحسب، بل في غياب تصوّر شامل للتنمية الحضرية يضع الإنسان وكرامته في صلب المشروع العمراني، لتظلّ المدينة الجديدة بعيدة عن الهدف الذي أُنشئت من أجله: بناء فضاء متكامل يضمن الاندماج الاجتماعي والكرامة الإنسانية.

لقد تحوّلت هذه الاختلالات إلى مصدرٍ للسخط والتذمّر، وأثّرت بشكلٍ عميق في الحياة اليومية للسكان، مما عمّق معاناتهم، وجعل من المدن الجديدة فضاءاتٍ للإقصاء أكثر منها مجالاتٍ للاندماج.

الاحتجاجات الشبابية ومسؤولية المجالس المحلية في تدبير الشأن العام

وجَّهت هذه الاحتجاجات خطابها نحو تحميل الحكومة مسؤولية الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي يعاني منها الشباب، إلى جانب التدهور المستمر في قطاعي الصحة والتعليم بالمملكة. غير أنّها أغفلت مساءلة المجالس المحلية، رغم الدور الكبير والمسؤولية المباشرة التي تقع على عاتقها في تدبير الشأن المحلي.

فالمجالس المحلية، التي يُفترض أن تكون حلقة وصل بين المواطنين والسلطة التنفيذية، كان بوسعها أن تضطلع بدور أساسي في تنظيم المطالب، ونقل معاناة السكان إلى صانعي القرار، والمساهمة في تحسين الخدمات وإصلاح الاختلالات البنيوية التي تمس الحياة اليومية للناس.

إن المساءلة الحقيقية تبدأ من مستوى الحيّ، حيث تتجلى الاحتياجات اليومية والضغوط الواقعية للسكان. ومن هنا يتكوَّن الوعي المجتمعي، حين يدرك المواطن أنّ دوره لا يقتصر على المطالبة، بل يشمل أيضًا المشاركة الفاعلة، والمحاسبة المحلية، والمساهمة في صياغة سياسات تنموية تنبع من الواقع الاجتماعي والنفسي للسكان. فالحيّ ليس مجرّد مكانٍ للسكن، بل مختبرٌ للوعي المدني ومنطلقٌ للتغيير الفعلي على المستويين المحلي والوطني. إنّ الوعي يبدأ من الإنسان، ويتجذّر بالتربية والثقافة، قبل أن يتحوّل إلى فعلٍ جماعي يغيّر الواقع.

الرياضة في خدمة التنمية

في محورٍ آخر، وردًّا على الدعوات التي تنتقد تنظيم التظاهرات الرياضية وتشييد الملاعب، يبرز دور هذه التظاهرات، سواء كانت قارية أو عالمية، كأداةٍ استراتيجيةٍ للتنمية الوطنية. فهذه الأحداث لا تُدرّ أرباحًا اقتصادية مباشرة فحسب، بل تُسهم كذلك في تسويق صورة المغرب على نطاقٍ واسع، وتعزيز مكانته الدولية باعتباره بلدًا منفتحًا ومستقرًا، قادرًا على احتضان كبريات الفعاليات العالمية. كما تخلق آلاف فرص الشغل المباشرة وغير المباشرة، وتنشّط قطاعاتٍ متعددة مثل السياحة والنقل والخدمات والإعلام، فضلًا عن دورها في نشر ثقافة الرياضة بين الشباب وتشجيعهم على ممارستها لما تحمله من قيم الانضباط والمثابرة والعمل الجماعي.

ومن هنا، فإن الأصوات التي ترى في بناء الملاعب والمنشآت الرياضية إهدارًا للمال العام، تغفل الرؤية الشاملة للتنمية، إذ تُهمِل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرمزية لهذه المشاريع التي تُعدّ استثمارًا في الإنسان قبل الحجر، وفي المستقبل قبل الحاضر، وفي الحلم الوطني قبل كل شيء. فتنظيم بطولة دولية أو احتضان تظاهرة كبرى ليس حدثًا عابرًا، بل مشروعٌ حضاريٌّ متكامل يفيض خيرًا على الوطن في شتّى المجالات، ويغرس في الشباب روح التحدي والمثابرة، ويُنمّي فيهم قيم الانتماء والفخر بالوطن.

وقد أصاب جلالة الملك في خطابه بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية الأولى من السنة التشريعية الأخيرة، حين أكّد أنه لا ينبغي أن يكون هناك تناقض أو تنافس بين المشاريع الوطنية الكبرى والبرامج الاجتماعية، ما دام الهدف الأسمى هو تنمية البلاد وتحسين ظروف عيش المواطنين أينما كانوا.

تحوّل الإعلام العمومي… هل هو وعيٌ جديد أم صحوةٌ عابرة؟

في خضمّ الاحتجاجات الأخيرة، برز تحوّل لافت في أداء الإعلام العمومي، إذ كسر صمته المعتاد تجاه قضايا الناس، وتجاوز نقده الخجول للاختلالات البنيوية في المجتمع، ليتحوّل إلى فضاءٍ حقيقي للنقاش العمومي، يُعبّر عن هموم جيل Z وأسئلته الجريئة.

بدأنا نرى إعلامًا يطرح الأسئلة الصعبة، ويناقش القضايا الحسّاسة بجرأة ومسؤولية. إعلامٌ يقترب من أداء وظيفته الأصلية كسلطةٍ رابعةٍ حقيقية: يصوّر الأحداث بموضوعية ومهنية، يمارس النقد، يثقف، ينير، ويواكب نبض المجتمع.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل نحن أمام تحوّلٍ حقيقي ودائم، أم مجرّد لحظة عابرة فرضتها موجة الغضب الشعبي؟

ما نرجوه هو أن يتحوّل هذا الوعي الجديد إلى نهجٍ ثابت، وأن يصبح الإعلام العمومي منصةً مفتوحة للنقاش، تعكس التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتمنح المواطنين صوتًا للتعبير عن معاناتهم اليومية واختلالات واقعهم المحلي.

بهذا فقط يمكن للإعلام أن يخرج من حالة العجز والرتابة والتكرار، بل ومن التفاهة أحيانًا، في وقتٍ تزخر فيه بلادنا بطاقاتٍ بشرية ومؤهلاتٍ قادرة على الإبداع والابتكار.

عندها فقط، يمكن للإعلام أن يستعيد مكانته كجسرٍ للثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، وأن يُسهم في ترسيخ قيم الديمقراطية، ويؤدي دوره كفاعلٍ أساسي في تحقيق التنمية.

حفظ الله المغرب من كل شر.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق