من منّا لم يسمع، وهو طفل، بحكاية “ليلى والذئب”؟ تلك الحكاية التي بدت لنا في طفولتنا مجرّد قصةٍ بسيطة عن فتاة بريئة وذئبٍ ماكر، لكنها ما لبثت أن تحوّلت في الوعي الجمعي إلى درسٍ أخلاقيٍّ صارم يُحذّر الأطفال من مغبة الخروج عن الطريق الآمن. غير أنّ إعادة النظر فيها بعين الفيلسوف واللساني والناقد الأدبي، تكشف عن وجهٍ آخر أعمق وأكثر توهجًا: الحكاية عبارة عن نصٍّ حكائيٍّ مشحونٍ بالرموز والدلالات.
إنها مرآة تعكس ثنائيات الوجود الكبرى: البراءة في مواجهة الافتراس، والثقافة في صراعٍ مع الطبيعة، والنظام في معتركٍ مع الفوضى. وفي هذا المقال، سنحاول الإبحار في أعماق الحكاية عبر ثلاثة محاور مترابطة: البنية الرمزية للنص، والتوتر الفلسفي بين البراءة والخطر، وأفق القراءة الأدبية الذي يكشف عن المعنى المضمَر خلف السرد.
البنية الرمزية للحكاية .. ثنائية الطريق والغابة
تقوم حكاية “ليلى والذئب” على هندسة سردية بسيطة في ظاهرها، عميقة في باطنها، تُبنى على مسارين متقابلين: الطريق والغابة. فالطريق لا يقتصر على كونه ممرًا جغرافيًا، بل ينهض رمزًا للنظام الاجتماعي، وللأمان، وللانضباط، وللخضوع لقواعد الجماعة. أما الغابة، فهي فضاء الطبيعة المنفلتة من سلطة الإنسان: عالم الخطر، والمجهول، والرغبة الدفينة في اقتحام الممنوع.
حين تقرر ليلى مغادرة الطريق والدخول إلى الغابة، فإنها لا تخطو خطوة عابرة، بل تعبر حدًّا فلسفيًا حادًا: من النظام إلى الفوضى، ومن الثقافة إلى الطبيعة، ومن المعلوم إلى المجهول. فـ”الثقافة” هنا تمثل الإطار المعرفي والقيمي الذي ينظم حياة الإنسان، من عادات وقوانين ومعايير اجتماعية، ما يمنحه الأمان والاتجاه داخل المجتمع، بينما الغابة تمثل الطبيعة غير المنظمة، حيث تسود الفوضى والغرائز والمجهول، وتتاح للإنسان تجربة الحرية والمغامرة بعيدًا عن قيود الثقافة والنظام المألوف.
في هذا السياق، تتحوّل الشخصيات إلى رموز كونية:
– ليلى تجسّد البراءة الإنسانية التي تنجذب، على نحوٍ غريزي، إلى سحر المجهول.
– الذئب يعبّر عن وجه الخطر الكامن في الطبيعة، وعن المكر المتخفي خلف قناع الهدوء.
– الجدة تمثّل حكمةً واهنة، تعجز عن الصمود أمام العنف ما لم تتدخل قوى خارجية.
– الحطّاب يرمز إلى القوة الاجتماعية التي تعيد التوازن وتُرمّم النظام بعد اختلاله.
وبهذا المعنى، تتجاوز القصة حدود التحذير التربوي للأطفال، لتغدو خريطة رمزية للوجود الإنساني ذاته .. فكل خروجٍ عن الطريق النظامي هو عبورٌ نحو الغابة بما تحمله من أخطارٍ، لكنه أيضًا انفتاحٌ على تجربة وجودية عميقة، تكشف للإنسان هشاشته من جهة، وإمكان قوته من جهة أخرى.
البراءة والخطر .. جدلية الفلسفة في الحكاية
تتجلّى الفلسفة الكامنة في حكاية “ليلى والذئب” من خلال التوتر العميق بين البراءة والخطر. فمن المتعارف عليه أن البراءة تستدعي الحماية، غير أن الحكاية تقلب هذه المعادلة رأسًا على عقب: فالبراءة نفسها قد تصبح مغناطيسًا للخطر. ليلى لم ترتكب شرًا، لكنها وجدت نفسها في قلب الافتراس، وكأن النص يهمس بحقيقة فلسفية مُرّة .. في هذا العالم، البراءة لا تشكّل ضمانًا للنجاة، بل قد تتحوّل إلى نقطة ضعف مكشوفة.
لقد كانت ثقة ليلى العفوية بالذئب، وبوحها بمكان وجهتها، هي الشرارة التي فتحت باب المأساة. فالخطر هنا لا ينفجر من الخارج فحسب، إنما يتسلل من هشاشة الداخل، من تلك الطيبة التي تظن أن العالم يشبهها.
إن الحكاية تُلقي درسًا فلسفيًا صريحًا .. لا تكفي الأخلاق وحدها لبناء حصنٍ منيع، والقيم بحاجة إلى وعيٍ وحذرٍ يُكملان معناها. فالعالم، في نظر النص، لا يسير وفق ميزان عادل دائمًان ذلك أن الخير لا يضمن المكافأة، والشر لا يُعاقَب بالضرورة.
لكن في لحظة حرجة، يتدخل الحطّاب ليعيد التوازن المفقود. إن ظهوره لا يُمثّل إنقاذاً عرضياً، ولكن يرمز إلى القوة الاجتماعية التي تُعيد ضبط الموازين حين يعجز النظام الأخلاقي عن حماية الضعيف. وهكذا تتحول الحكاية إلى سؤال فلسفي عميق: هل تكفي الأخلاق وحدها لحماية الإنسان؟ أم أن الحياة تحتاج دائمًا إلى سلطة تُعيد ضبط الموازين؟
القراءة الأدبية .. النص كشبكة من الدوال
من منظورٍ لساني وأدبي، تبتعد حكاية “ليلى والذئب” عن البساطة الظاهرية لتتحوّل إلى شبكة معقدة من الدلالات. فـ”الطريق” يرمز إلى النظام، و”الغابة” تنبض بالفوضى والحرية، و”الذئب” يشير إلى الخطر، و”الجدة” تمثل الحكمة الضعيفة، بينما يجسد الحطّاب سلطة المجتمع التي تحمي النظام وتعيد التوازن. هذه الدوال تتفاعل معًا في نسق متشابك، يخلق طبقات من المعاني تتجاوز حدود القراءة السطحية.
بوصفها نصًا، لا يمكن لحكاية “ليلى والذئب” أن تُختزَل في كلمة واحدة أو معنى واحد؛ فهي نسق من التضادات والمفارقات التي تكشف عن عمق التجربة الإنسانية. فمن منظور لساني تفكيكي، تتفكك تلك التضادات لتظهر مرونتها: الغابة ليست كلها شرًا، فقد تمثل أيضًا الحرية. والطريق ليس كله خيرًا، فقد يمثل الملل والتكرار.
يفتح النص أبوابًا جديدة للتساؤل: هل الذئب دائمًا الشر المطلق، أم هو ضحية غرائزه الطبيعية؟ هل ليلى مذنبة لأنها تركت الطريق، أم أنها باحثة عن معنى جديد للحياة؟
وهكذا، تتحوّل الحكاية إلى نص فلسفي مفتوح، حيث المعنى لا يستقر عند حدود “ليلى الطفلة البريئة” أو “الذئب الوحش الشرير”، ولكن يتشظّى في احتمالات متعددة، كمرآة للحياة والفكر والمجتمع. فهنا يكشف لنا الأدب عن ثراء النصوص البسيطة، التي تحمل في أعماقها حكمةً عميقة وتجربةً إنسانية متجددة، تجعل الحكاية تتجاوز حدود القصة التقليدية للأطفال، لتصبح تجربة فكرية وأخلاقية وجمالية في آن واحد.
في الختام .. إن حكاية “ليلى والذئب” تخرج من دائرة القصص الموجّهة للأطفال لتغدو نصًا فلسفيًا وأدبيًا ثريًّا، يكشف عن ثنائية الطريق والغابة، ويثير جدلية البراءة والخطر، ويفتح آفاق القراءة على شبكة من العلامات والدلالات المتعددة. لقد تحوّلت هذه الحكاية من تحذير بسيط إلى مرآة للوجود الإنساني بكل تناقضاته: البراءة في مواجهة الافتراس، والنظام في صراع مع الفوضى، والثقة في امتحان الخيانة. وهكذا نكتشف أن القصص التي نحكيها لصغارنا هي ذاتها التي تهمس لنا – نحن الكبار – بأسرار الحياة.
ولعل ما يعيشه جيل Z اليوم يعيد تمثيل هذه الحكاية على خشبة الواقع: جيلٌ يشبه “ليلى” حين اختارت أن تغادر الطريق المرسوم لها، لتدخل غابة الرفض والاحتجاج بحثًا عن معنى جديد للحرية والعدالة. في المقابل، يقف المجتمع التقليدي حائرًا أمام هذه الغابة، يراها تهديدًا، ويخشى “الذئاب” التي قد تمتطي موجات الغضب. غير أن هذا الجيل يصرّ على أن الطريق القديم لم يعد ملاذًا، وأن اقتحام المجهول ضرورة لا مغامرة.
هنا يتجلّى الدرس الفلسفي الأعمق، فالبراءة وحدها لا تصنع الأمان، والنظام لا يكتسب قوته بالوعود الفارغة، بل بالحوار الصادق مع أصوات الشباب وإرادتهم في التغيير. ومع ذلك، على جيل Z أن يدرك أن كل خروج عن الطريق يفتح أمامه غابة جديدة، غابة تحمل في طياتها البهاء والخطر معًا؛ فهي ليست صرخة جيلٍ نبيل فحسب، وقد تخفي بين أشجارها أعداءً يتربصون من الخارج، يحاولون تحويل المطالب المشروعة إلى بؤر فتنة وتشظٍّ يمزّق أوصال الأوطان، مما يجعل الطريق إلى الحرية والعدالة تجربة محفوفة بالتحديات والحذر الواعي. فالحذر والفهم يفتحان أبواب الحرية .. فتأمل .. !
0 تعليق