لو أن الحكيم الهندي بيدبا علم بحكاية عصفورة عمي قدور لأضافها إلى حكايات أبطال كتابه كليلة ودمنة، رفقة الأسد، والثور شتربه (خادم الأسد)، وبنات آوى (كليلة ودمنة)، وغيرهم من الطيور والحيوانات، بل لو علمها عبد الله بن المقفع لأضافها فصلا في ترجمته لكتاب بيدبا.
حكاية عصفورة عمي قدور، حكاية واقعية…التقى فيها الإنسان بذكائه وشغبه وأنانيته وحبه للاستطلاع، بالطبيعة الحاملة لأسرارها الربانية…
حكاية عصفورة عمي قدور، حدثت في يوم ما…في مكان ما بغابة أولاد بوجمعة، التابعة اليوم لجماعة لفضالات إقليم بنسليمان…بطلها عمي قدور… هذا الرجل الطيب الذي كان يحب الناس ويحبونه…والذي كان مسكونا بهواية القنص…رحلته مع الطرائد كانت حديث الكبير والصغير بتلك الدواوير المنسية المتناثر جوار مطار بنسليمان…أو ما تعارف القوم على تسميته ب”لاباز”…
في أحد الأيام، وبينما عملي قدور يجوب الغابة، عثر على عشين لطائرين من نفس النوع بإحدى الأشجار…في كل عش عدد من البيض…وبدافع فضولي أخذ بيض أحد العشين ووضعه مع بيض العش الآخر…ثم غادر المكان…ليعود فيما بعد ليراقب الوضع…لاحظ أن العصفورة التي أصبح عشها فارغا غادرته بلا رجعة…أما العصفورة الثانية، فاحتضنت البيض كله…ولم تميز بين بيضها وبيض جارتها…استمر عمي قدور في مراقبة الوضع…بعد أيام تحول جميع البيض إلى فراخ…يا له من منظر عجيب…زحام كبير داخل ذاك العش الصغير…تصادم المناقير الصغيرة يحدث ضجيجا صامتا…أعناق تمتد إلى الأعلى تنتظر طعاما قد يأتي أو لا يأتي…سمفونية الفوضى المنظمة…لا أحد من الفراغ يرغب في إزاحة أخيه…ولكن التدافع من أجل تحسين المواقع قاعدة الطبيعة…اختلاف وصراع داخل العش، لكنه لا يفسد للود قضية…ذلك الفضاء الصغير يحتضن الجميع…يمارس فيه الجميع الحق في الدفاع عن النفس من أجل البقاء، لكن في احترام لأنفس الآخرين…يعبر فيه الجميع عن آلامهم وعن آمالهم، وعن الرغبة في العيش بكرامة…لم يكن من الفراخ من يبالغ في أكل حق أخيه…ولا من يدوس على الضعيف منهم…ولا من يفسد في العش…
كانت الحركة تتزايد، والأصوات ترتفع كلما شعر الفراخ بقدوم العصفورة…أم الجميع…تسارع إلى إطعام من استطاعت…ثم تغادر بسرعة، تاركة العش يموج بحركة الفراخ وأصواتهم المجلجلة…كأنهم يقولون: أنا لم أطعم بعد يا أماه…أنا جائع يا أماه…أرحميني يا أماه…بعد حين تعود العصفورة لتطعم البعض الآخر…يتكرر المشهد طيلة اليوم…
وفي أحد الأيام عاد عمي قدور ليتفقد العش والفراخ وحال العصفورة…لكنه رآى منظرا هاله…لم يكن يتوقع الحدث الجلل الذي أمام عينه…العصفورة ناشرة جناحيها فوق الصغار بدون حركة…نفقت العصفورة…أو لنقل ماتت العصفورة…ماتت جوعا محتضنة صغارها وصغار جارتها…ماتت ليحيى جميع الضعفاء…ماتت حين نسيت نفسها في سبيل إطعام من لا قدرة لهم…ماتت لأنها قتلت داخلها تلك الأنانية الرعناء التي تسكن كبار القوم…أقصد قوم العصافير…
ماتت لأن ضميرها المشبع بالبراءة لم يطاوعها على التنكر لضعاف القوم…أقصد بالقوم الفراخ…فلم تتلكأ في القيام بما يفرضه عليها واجبها…ولم تتوانى في خدمة المحتاجين من بسطاء القوم…أقصد قوم العصافير…ولم تأكل أرزاق أولئك الذين يبحثون عن لقمة عيش من القوم…أقصد قوم العصافير…ولم تكذب عليهم تلك الكذبة التي تزن جبلا…غدا سوف…قريبا سوف…إننا سوف…أطعمكم مما أطعم نفسي يا جوعا القوم…أقصد قوم العصافير…
قد يقول قائل: لقد ضحت، نعم، ولكن أدت حياتها ثمنا لتلك التضحية والإيثار…أكيد أنها ماتت…ولكن ماتت وهي تؤدي الأمانة…ماتت وهي تقوم بالواجب…ماتت لوحدها ليحيى الجميع…ماتت منذ زمن…ومات عمي قدور بدوره منذ زمن…ومات حارس الغابة منذ زمن…ومات أناس كثر في الدوار…منهم الأب والجد والجدة وغيرهم كثير…وكن حكاية العصفورة لم تمت…ولن تمت…وها أنا أحكيها…وسيحكيها غيري، وغير غيري…أما الذين عاشوا لأنفسهم…يأكلون ما لهم وما لغيرهم…فسيموتون لأنفسهم في صمت…ويصبحون بعد يوم نسيا منسيا…
لا تطلب منكم الطبيعة يا معشر الجوارح أن تكونوا في رقي وعظمة عصفورة عمي قدور…ولكن استلهموا منها أبلغ درس قد تجود به الطبيعة…لا هو في الدساتير بكل أنواعها…ولا في القوانين التنظيمية… ولا في القوانين العادية…ولا هو في القرارات والتوصيات الأممية…ولا هو مطلب من مطالب الحركات الاحتجاجية بجميع ألوانها وتواريخها وحروفها…
0 تعليق