كيف تعيد الصين كتابة قواعد اللعبة في نظام الطاقة العالمي؟ (مقال) - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في عالم تتصدّر فيه أخبار الطاقة العناوين الرئيسة بتقلّبات أسعارها، وبينما ترزح بعض اقتصادات العالم تحت وطأة أزمات الإمداد والاضطرابات الجيوسياسية، تسلك دولة واحدة مسارًا مختلفًا تمامًا.. إنها الصين.

لعقود ظلّت بكين هي المستورد الأكبر للطاقة في العالم، والمحرك الصناعي الذي لا يشبع، والذي يظل عطِشًا للموارد، معتمدًا بشكل حاسم على الإمدادات الخارجية لتغذية عجلة نموه الاقتصادي الجامح، لكن هذا الوضع يبدو أنه في طريقة للتغيير ليحلّ محلّه مشهد جديد.

الصين لا تسعى فقط لتأمين احتياجاتها، بل تتجه بخطى واثقة نحو ما كان يُعدّ حتى وقت قريب ضربًا من الخيال، الاكتفاء الذاتي من الطاقة، بل والتحول إلى مُصدّر رئيس لها.

لم يعد هذا مجرد تحليل لمراكز الأبحاث؛ بل بات حقيقة يقرّ بها كبار الفاعلين في سوق الطاقة العالمية، ففي تصريح مدوٍّ أدلى به مؤخرًا الرئيس التنفيذي لعملاق الطاقة الروسي "روسنفط" إيغور سيتشين، أكد دون مواربة: "الصين تمضي بثقة نحو الاستقلال الكامل في مجال الطاقة.. وقد تُصبح في المستقبل القريب مُصدرًا رئيسًا للطاقة".

تصريحٌ كهذا، صادر عن شخصية بحجم سيتشين، يكشف تحولًا جيوسياسيًا صامتًا، ويُمثّل إشعارًا صريحًا بتحوّل في توازنات الطاقة العالمية، إذ تتحول بكين من أكبر مستورد للطاقة في العالم إلى لاعبٍ قادر على التصدير، أو على الأقل، تحقيق الاكتفاء الذاتي لواحدة من أكثر اقتصادات العالم استهلاكًا للطاقة.

إستراتيجية الصين لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة

ما الذي يدفع بكين نحو هذا الطموح الجريء الذي يتحدّى كل التوقعات؟.. إنها إستراتيجية متعددة الأوجه، مخططة بعناية فائقة، وتستند إلى رؤية بعيدة المدى ترتكز على العديد من الأولويات، في مقدّمتها:

الأمن القومي أولوية كبرى

عززت تجربة الصين مع تقلّبات أسعار الطاقة العالمية والمخاطر الجيوسياسية التي تهدد سلاسل الإمداد البحرية، وخاصة المضائق الحيوية، قناعتها بضرورة تقليل الاعتماد الخارجي.

ولا يُعدّ الاستقلال في الطاقة مجرد هدف اقتصادي فحسب، بل ركيزة أساسية للأمن القومي الصيني وحصانة استقرارها الداخلي

توربينات رياح بحرية صينية
مزرعة رياح بحرية في الصين - الصورة من منصة "ساوث تشاينا مورنينغ بوست"

السيطرة على مستقبل الطاقة النظيفة

لم تعد الصين مجرد مصنع للعالم، بل أصبحت ورشة ابتكار في مجال الطاقة النظيفة، إذ تستثمر بكين تريليونات الدولارات ببناء أكبر وأسرع نظام للطاقة المتجددة في العالم، من مزارع الطاقة الشمسية الشاسعة في صحاريها إلى مجمعات طاقة الرياح البحرية العملاقة.

ولا تهدف بكين إلى تلبية الطلب المحلي المتزايد فحسب، بل تسعى للسيطرة على سلسلة القيمة العالمية لتقنيات الطاقة النظيفة، بدءًا من المواد الخام الحيوية، وصولًا إلى التصنيع والتصدير.

ريادة ثورة الهيدروجين الأخضر

تضع الصين الهيدروجين في صميم إستراتيجيتها لتحول الطاقة منخفضة الكربون، وتهدف البلاد إلى أن تكون الرائدة عالميًا في إنتاج "الهيدروجين الأخضر" – المنتج عبر التحليل الكهربائي للماء باستعمال الطاقة المتجددة – وتوسيع نطاق تطبيقاته.

وتتقدم الصين بخطوات هائلة؛ فمن المتوقع أن تتجاوز هدف إنتاج 200 ألف طن سنويًا من الهيدروجين الأخضر بحلول نهاية عام 2025.

وتستثمر بكين في بناء بنية تحتية ضخمة، بما في ذلك شبكات أنابيب الهيدروجين لمسافات طويلة، ومحطات التزود بالوقود، وتطوير خلايا الوقود الهيدروجينية لقطاعات النقل والصناعة، مما يمهّد الطريق لتحقيق أهدافها الطموحة للحياد الكربوني بحلول عام 2060.

التوسع النووي

تقود الصين سباق بناء المفاعلات النووية عالميًا بوتيرة لا مثيل لها، فخلال السنوات الـ10 الماضية، أضافت الصين 37 مفاعلاً نوويًا، ليصل إجمالي عدد المفاعلات العاملة إلى 55، مع وجود 27 مفاعلًا آخر قيد الإنشاء حاليًا، وهو ما يزيد على ضعفَي أيّ دولة أخرى.

ويُعدّ هذا التوسع السريع حجر الزاوية في مزيج الطاقة النظيف، حيث يوفر مصدرًا ثابتًا وموثوقًا للطاقة الأساسية، ويسهم بشكل كبير في تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري

التحكم في سلاسل القيمة الحرجة

تدرك الصين أن الاستقلال في الطاقة يتجاوز مجرد الإنتاج ليشمل السيطرة على المواد الخام وتكنولوجيا التصنيع.

وتستثمر بكين بكثافة في تأمين المعادن الحيوية -مثل الليثيوم والكوبالت- اللازمة للبطاريات، كما تستثمر في تقنيات تخزين الطاقة المتقدمة لضمان استقرار الشبكة

صعود مدروس أم ثورة طاقية صامتة؟

الجواب لا يكمن في طفرة نفطية أو اكتشاف غاز ضخم، بل في هندسة دقيقة لعقود من السياسات التي تعتمد على ركائز قوية ومبتكرة:

  1. استثمارات ضخمة في الطاقة المتجددة، جعلت الصين اليوم أكبر منتج ومستعمِل لألواح الطاقة الشمسية وتوربينات الرياح في العالم.
  2. بناء احتياطات إستراتيجية هائلة من النفط والغاز.
  3. تعزيز شبكة الطاقة النووية بشكل متسارع.
  4. اقتحام سوق الهيدروجين الأخضر وتطوير سلاسل إمداد كاملة له.
  5. استحواذات ذكية على أصول طاقية في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، ضمنت لها وصولًا مباشرًا للموارد.
إحدى مشروعات الهيدروجين الأخضر في الصين
أحد مشروعات الهيدروجين الأخضر في الصين - الصورة من Bloomberg

الهيدروجين: حجر الزاوية في طموحات الصين

في قلب الإستراتيجية الطموحة، يبرز الهيدروجين محورًا أساسًا في التحول الطاقي الصيني، ففي الوقت الذي ما زالت فيه دولٌ كثيرة تخطو خطواتها الأولى في هذا القطاع، بدأت الصين تطوير مشروعات هيدروجين خضراء على نطاق غيغافولت، مستفيدة من قدرتها الفائقة في تصنيع الإلكترولايزرز منخفضة التكلفة، وشبكتها المتكاملة في الطاقة المتجددة.

وأعلنت بكين خططًا طموحة لربط إنتاج الهيدروجين بمناطق استهلاك رئيسية في قطاعات النقل والصناعة.

لا تنبع هذه التحركات فقط من دوافع مناخية، بل تعكس رؤية إستراتيجية لتحرير الصين من الاعتماد على واردات الغاز، وامتلاك زمام المبادرة في سوق يُتوقع لها أن تبلغ تريليونات الدولارات في العقود القادمة، إذ يُوفر الهيدروجين فرصة فريدة من نوعها للصين:

  • مصدر طاقة محايد كربونيًا يتماشى مع أهداف بكين في الوصول إلى ذروة الانبعاثات قبل 2030 وتحقيق الحياد الكربوني بحلول 2060.
  • أداة جيوسياسية تقلل الاعتماد على واردات الغاز من روسيا أو النفط من الخليج.
  • رافعة صناعية تحفّز قطاعات مثل الصلب، والبتروكيماويات، والنقل الثقيل، والطيران
  • فرصة تجارية لدخول أسواق جديدة قبل أن تُحكِم الدول الأخرى قبضتها.

وتشير التقديرات إلى أن الصين قد تصبح، بحلول 2040، أكبر منتج للهيدروجين الأخضر في العالم.

التحديات الكامنة والمخاطر الجيوسياسية

بالرغم من الإمكانات الهائلة والخطط الإستراتيجية، فإن الطريق أمام الصين نحو الاستقلال الكامل في الطاقة والتحول إلى مُصدّر رئيس ليس مفروشًا بالورود، بل ما يزال محفوفًا بتحديات تتطلب حلولًا مبتكرة ومستمرة، من أمثلتها:

  • الاحتياج القائم للفحم: بالرغم من الوتيرة القياسية لتركيب قدرات الطاقة المتجددة، ما يزال الفحم يشكّل العمود الفقري لمزيج الطاقة في الصين، إذ يوفر أكثر من 60% من الكهرباء، والتخلص التدريجي من الاعتماد على الفحم، الذي يُعدّ مصدرًا رخيصًا ووفيرًا ومستقرًا، يمثّل تحديًا اقتصاديًا واجتماعيًا هائلًا.
  • بنية الشبكة التحتية: إن الاندفاع الهائل في بناء مزارع الطاقة المتجددة في الشمال والغرب -إذ تتركز أفضل الموارد الشمسية والرياح- يواجه تحديًا كبيرًا يتمثل في نقل هذه الطاقة إلى المراكز الصناعية الكثيفة والمكتظة بالسكان في الشرق والجنوب، وغالبًا ما تكون البنية التحتية لشبكة الكهرباء غير كافية لاستيعاب هذه الكميات الهائلة من الطاقة المتجددة المتقطعة، مما يؤدي إلى "هدر" أو "قطع" لكميات كبيرة من الكهرباء المنتجة، بسبب قيود النقل أو عدم قدرة الشبكة على استيعابها، إذ إن بناء خطوط نقل فائقة الجهد وتطوير شبكات ذكية مرنة يمثّل استثمارًا هائلًا وزمنيًا.
  • المعادن الحيوية: على الرغم من هيمنتها على معالجة العديد من المعادن الحيوية (مثل الليثيوم، الكوبالت، والعناصر الأرضية النادرة) اللازمة لبطاريات السيارات الكهربائية وألواح الطاقة الشمسية وتوربينات الرياح، فإن الصين ما تزال تعتمد على استيراد بعض هذه المواد الخام، إذ إن تأمين هذه السلاسل الإمدادية، في ظل تزايد المنافسة العالمية والمخاطر الجيوسياسية، يظل تحديًا مستمرًا.
  • الطلب المتزايد على الطاقة: بالرغم من جهود الصين لتحسين كفاءة الطاقة، فإن نموها الاقتصادي المستمر، وزيادة التحضر، والتوسع في التقنيات كثيفة الاستهلاك للطاقة مثل الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات، يؤدي إلى زيادة هائلة في إجمالي الطلب على الطاقة، وهذا يعني أن الصين لا تحتاج إلى استبدال مصادر الطاقة القديمة فحسب، بل عليها أيضًا أن تولّد كميات إضافية ضخمة لتلبية هذا الطلب المتنامي.

تداعيات عالمية عميقة... وعيون تراقب بكين

إن تداعيات التحول الصيني ستكون ضخمة على الساحة العالمية، فإذا نجحت بكين في تحقيق أهدافها، فإن ذلك سيعيد تشكيل خريطة الطاقة العالمية، ويقلل من نفوذ الدول المصدرة التقليدية، وربما يؤدي إلى تحولات جذرية في التحالفات الجيوسياسية.

التزام الصين بالهيدروجين الأخضر والتوسع النووي والطاقة المتجددة لا يعكس طموحًا في أمن الطاقة فحسب، بل يؤكد أيضًا رؤيتها لمستقبل مستدام ومنخفض الكربون، وهو ما قد يضعها بموقع قيادي جديد في ثورة الطاقة النظيفة عالميًا.

لم تعد الصين مجرد مستورد عملاق للطاقة، بل هي في طريقها لأن تصبح قوة طاقية عظمى قادرة على إعادة كتابة قواعد اللعبة.

والسؤال الآن ليس ما إذا كانت الصين ستفعل ذلك، بل متى ستفعله، إذ إن العالم ينتظر بفارغ الصبر، أو ربما بقلق، الإجابة التي ستُكشَف مع كل ميغاواط جديد من الطاقة النظيفة تضخّه الصين في شبكتها.

* صلاح مهدي- المدير التنفيذي لقطاع الهيدروجين في شركة شارت إندستريز.

* هذا المقال يعبّر عن رأي الكاتب، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.

موضوعات متعلقة..

اقرأ أيضًا..

إشترك في النشرة البريدية ليصلك أهم أخبار الطاقة.
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق