أيُّ عالَمٍ هذا الذي يُقاس فيه ارتقاءُ الإنسان بعدد النّقرات، لا بعدد الأفكار؟ أهي الخوارزميات التي تعلّمت أن تطعم الجوعى بالتصفيق الافتراضي بدل الخبز؟ أهو سيرك أم جنازة بملابس مُلونة؟ كيف تحوّل الألم إلى محتوى، والموت إلى فقرة في جدول البث المباشر؟ أهذه منصات اجتماعية أم شِباك صيد يقتنصون بها آخر ومْضة حياة قبل أن تصطدم بالأرض؟ وهل يُعقل أن يصفّق جمهورٌ كامل لمشهد خطير على الهواء، ثم يغلق الهاتف ليتذمّر من انقطاع الإنترنت؟.
الإبْهَامُ الذي يحكُمُ العالم
على منصة “يوتوب”، حيث تتجمع كل أصناف الكائنات المرئية وغير المرئية، ويمتزج المجهول بالمشهور، يولد عالم جديد: “جمهورية اللايْكات”. في هذه الجمهورية لا أحد يسأل عن برنامج الحكومة، فالمواطنون هنا ليسوا إلا صورًا مصقولة و”إيموجيات” ضاحكة، وشعارات تبدأ بـ”لا تنسَ الاشتراك” وتنتهي بـ”اضغط على الجرس ليصلك كل جديد”، وكأن هذا الجرس يقرع في كنيسة الخلود الرقمي.
الكائن المجهول في “يوتوب” لا يقل طموحًا عن الكائن المشهور، الفرق الوحيد هو أن الأول يبدأ بثلاث مشاهدات، اثنتان منها له شخصيًا وواحدة من أمه التي لا تفهم أصلاً ما الذي يصوّره؛ أما الشهير فيعيش في قصر من التعليقات، نصفها حب أعمى، والنصف الآخر كراهية بأظافر طويلة، لكنه يتغذى على الاثنين كما تتغذى النباتات على الشمس والمطر.
“اللايْكات” عُمْلة وطنية، لكنها لا تُصرف في البنوك، وإنما في سوق vanity، حيث كل ضغطة إبهام للأعلى تساوي جرعة أوكسجين معنوي، وكل dislike يُعتبر محاولة انقلاب فاشلة. وأخطر أنواع “اللايكات” هي “اللايكات المجنونة”، تلك التي لا تأتي لأن المحتوى رائع، وإنما لأنها جزء من عدوى جماعية، مثل تصفيق جمهور لا يعرف أصل النكتة لكنه يضحك لأن الآخرين يضحكون.
وما بين هؤلاء وهؤلاء يظل “يوتوب” مجرد حلبة سيرك، فيها من يقفز من فوق السقف لأجل مليون مشاهدة، ومن يطبخ حساءً ملونًا لأجل نصف مليون، ومن يحرق نفسه معنويًا على أمل أن يلتقطه خوارزم ذهبي ويلقي به على شاطئ “كوبا كابانا”. هنا لا تُقاس الشهرة بعدد السنوات، وإنما بعدد الإعلانات التي تسبق وجهك، وعدد المرات التي يُعرض فيها الفيديو نفسه على من لم يطلبه أصلًا.
يعيش “الكائن اليوتيوبي” – سواء كان مجهولًا خلف ظله أو مشهورًا يهرب من صورته –في مسرح كبير اسمه “المشاهدة العامة”، والجمهور دائمًا على أهبة الاستعداد ليغيّر قِنَاعه من الحب إلى النسيان في أقل من ضغطة زرّ.
اليوتوبسْتَان: جمهورية بلا حدود وعَلَمُها إشارة الإعجاب
تخيّل معي، دون أن تربط حزام الأمان لأن الرحلة لا تحتاج إلى قوانين مرور، أننا نهبط في كوكب بعيد اسمه “يوتوبستان”، حيث القوانين الفيزيائية معطّلة، والوقت يُقاس بعدد المعجبين. هنا لا أحد يولد طبيعيًا: يفقس الناس من بيضة شفافة، يخرجون منها وهم يرقصون رقصة غريبة مع حركة يد تشبه طرد الأرواح الشريرة، ثم يعلنون للعالم أنهم “مُؤثرون” لأن خمسة غرباء في قارة أخرى ضغطوا على زر “قلب أحمر”.
الكائنات الرئيسية في يوتوبستان تنقسم إلى أنواع:
“الباندا الباكية”: مخلوقات تبكي أمام الكاميرا من غير سبب واضح، ثم تضحك بعد عشر ثوانٍ لأن البكاء يزيد نسب المشاهدة بنسبة 37%.
“التنين الطباخ”: يصنع وجبات غريبة من أشياء ليست صالحة للأكل أصلًا: شُرْبة بأعشاب غريبة يقسم أن لها فوائد رُوحية.
“حرباء مُكَشِّرة”: تتغير ملامحها كل ثلاث ثوانٍ، إلى درجة أنك لا تعرف إن كنت ترى الشخص نفسه أم إعلانًا لبرنامج تعديل الصور.
“الحكيم ذو الثواني الخمس”: يقدم نصائح حياتية عميقة مثل: “لا تدع الحزن يحزنك”، ثم يختفي وسط موسيقى صاخبة.
العملة الرسمية هنا هي “المشاهدات”، وكلما جمعت أكثر حصلت على لقب شرفي مثل “سفير اللاشيء” أو “رئيس وزراء الشهرة المؤقتة”. أمّا المعارضة السياسية فهي مجرد أشخاص لم يُقبل لهم فيديو منذ أسبوعين، فيعلنون اعتزالهم الدرامي، ثم يعودون بعد ثلاثة أيام في بث حي بعنوان: “اعتراف خطير سيغيّر حياتك”.
لكن الأغرب هو “مهرجان اللاشيء الدولي”، حيث يتبارى المشاركون في تقديم أكثر فعل عديم الجدوى إبداعًا:
شخص يحدق في الجدار لمدة ساعة.
آخر يشرح كيف يمكن أن تصبح مليونيراً من بيع الهواء المعبأ في قناني بلاستيكية.
وثالث يصفق لنفسه على الهواء مباشرة، وينال مليون إعجاب.
الشهرة المؤقتة في زمن المشاهدة الدائمة
في نهاية اليوم، عندما تنطفئ الشاشات، يختفي كل هؤلاء كأنهم لم يكونوا، لكن في صباح الغد يفقسون من البيضة الرقمية نفسها، مستعدين لدورة حياة جديدة من اللاشيء المذهّب.
تخيّل أنك استيقظت صباحًا، وبدل أن تجد نافذتك تطل على الشارع وجدتها تطل مباشرة على “حديقة كائنات التيك توك”، وهي محمية طبيعية مخصّصة لتربية المخلوقات الهجينة.
في هذه الحديقة ترى نوعًا غريبًا من الطيور اسمه “طائر التحدي”، لا يغني ولا يطير، بل يقفز فجأة ويصرخ: “يا جماعة شوفوا أشنو وقعْ!” قبل أن يسكب على نفسه دلواً من الصلصة الحارة؛ ثم وسط التصفيق الرقمي يضع وسمًا: #الحياة_مغامرة.
هناك أيضًا “سمكة البث المباشر”، كائن مائي يعيش في بركة، لكنه لا يتنفس إلا حين يتصل به شخص غريب ليسأله: “أشْكَديرْ؟” فيرد: “والو”. وتستمر هذه المحادثة حتى تجف البِرْكة من الملل. وفي الركن المظلم من الحديقة تعيش “حشرة الإحراج”، وهي مخلوق يتغذى على المشاهدات السّامة، تقترب من الكاميرا وتؤدي رقصة لم يطلبها أحد، بينما تنبعث منها جملة متكررة: “أنا مكَنْشْبَهْ لتّا حدْ”. أما الكائن الأشد خطورة فهو “التنين الأزرق”، يملك أنفًا إلكترونيًا يلتقط أي حدث غريب خلال 0.3 ثانية، فيبدأ بتقليده فورًا، حتى لو كان التحدي يتطلّبُ أكل صحن من المسامير “لأجل المتابعين”.
“تاريخ انقراض مؤثري الدقيقة الواحدة”
(ترجمة عن المخطوط الرّقمي المحفوظ في أرشيف العُصور الفارغة)
كان يا ما كان، في زمن لم يعرف الصبر، قبيلة تدعى “مؤثرو الدقيقة الواحدة”؛ كانوا يعيشون في أراضٍ بدون ليل ولا نهار، شريط متواصل من المقاطع القصيرة التي تبدأ فجأة وتنتهي قبل أن تفهم ماذا يحدث. هؤلاء المؤثرون لم يقتاتوا بالطعام، وإنما من مشتقات الدّوبامين المستخلصة من التعليقات المتكررة: “أنت أسطورة”، “متى اقتنيت القبعة السوداء؟”، وكلما قلَّت المشاهدات أصابهم مرض “الخمول المزمن”، فيبدؤون بالرقص على أي صوت شائع، حتى لو كان بكاء قطة تحت المطر. وقد رُصدت في ذروة حضارتهم طقوس غريبة، منها:
رقصة الاستدعاء: حركة يدٍ عشوائية لجذب الأرواح المسمّاة “المتابعين الجدد”.
تحدي التضحية: القيام بفعل غبي وخطير أمام الكاميرا لإرضاء “إله الخوارزمية”.
ليلة حذف الحساب: إعلان درامي باعتزال الشهرة، تتبعه عودة بعد 72 ساعة بفيديو بعنوان: “رجعت أقوى”.
غير أن نهايتهم كانت مأساوية، إذ عجزوا عن تحمل ضغط الزمن، فتبدد وجودهم في الهواء كإشعار عابر مضى عليه الزمن؛ لم تتبقَّ منهم اليوم سوى بقايا منقوشة على الجدران الرقمية: وسم يتيم، تعليق بلا جدوى، وآثار أخرى تشهد بأن حضارات بأسرها قادرة على الازدهار والانهيار في لحظة فاصلة بين إعلان وآخر.
السّيرك الذي نصنعه بأناملنا
من هم هؤلاء الكائنات التي تهبط على شاشاتنا كأنهم نيازك مُلونة؟ ما هذا العالم الذي يُكافئ من يرقص على أنغام المكنسة الكهربائية، ويُهمل من يكتب جملة تستحق التفكير؟ وهل يمكن لتاريخ البشرية أن ينجو من جائحة اسمها “مؤثرو الدقيقة الواحدة”، أم إننا أمام فصل جديد من كتاب الانقراضات الكبرى، لكن هذه المرة برعاية خوارزمية تضحك علينا؟.
ألسنا نحن الخوارزميات الفعلية، حين ندفع العرض بحركة إبهام ونحسم مصير الكائن الشبكي بلمسة عابرة؟ ألن يجيء زمن تنطفئ فيه أضواء السيرك، فنكتشف أن العرض الذي توهّمناه ترفيها لم يكن سوى تدريب خَفيّ على سقوطنا الجماعي؟.
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.
0 تعليق