ذكر تقرير حديث صادر عن “مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية”، التابع لوزارة الدفاع الأمريكية، أن انسحاب السلطات الجديدة في باماكو من مبادرات التعاون الأمني الإقليمي، بما في ذلك خروجها من مجموعة “إيكواس” وتحالف دول الساحل، والانسحاب الفرنسي من المنطقة، ثم مغادرة القوات الأممية مالي، رغم تصاعد التهديدات الأمنية المرتبطة بالجماعات الجهادية، أدى إلى إضعاف القدرات الأمنية المالية، ما أسفر عن بيئة أكثر ملاءمة لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين والجماعات المسلحة الإسلامية الأخرى للعمل في المنطقة.
وذكر التقرير ذاته أن توسع نشاط “كتيبة تحرير ماسينا” في جنوب مالي، وقدرة “تنظيم نصرة الإسلام والمسلمين” على تعطيل إمدادات الوقود إلى باماكو وجميع أنحاء البلاد، أفرزا تهديدات متزايدة لجيران مالي الساحليين، مما سيؤدي إلى زيادة تدفقات النازحين من منطقة الساحل إلى كوت ديفوار وغينيا وموريتانيا والسنغال، مسجلا أن “التعرض المتزايد لهجمات عبر الحدود من قبل الجماعات المسلحة الإسلامية يعرض المجتمعات والحكومات المحلية في هذه الدول لخطر زعزعة الاستقرار”.
وأكد مهتمون بتطورات الأوضاع في منطقة الساحل أن تقليص مالي، إلى جانب كل من بوركينافاسو والنيجر، للتعاون الاستخباراتي مع الشركاء التقليديين، أدى إلى فراغ أمني واستراتيجي في المنطقة استغلته الجماعات المسلحة لتوسيع دائرة تحركاتها، معتبرين أن المغرب، بحكم تجربته الاستخباراتية في مواجهة الإرهاب، يبرز كفاعل مؤثر قادر على ملء هذا الفراغ عبر شراكات ثنائية ومتعددة الأطراف، واستثمار خبرته المؤسسية لبناء أطر أمنية وعسكرية محلية، خاصة وأن هذه الدول تشكل جزءا محوريا من رؤيته الاستراتيجية ومصالحه في إفريقيا.
تمدد إرهابي وحل مغربي
في هذا الصدد، قال هشام معتضد، باحث في الشؤون الاستراتيجية، إن “انسحاب دول الساحل من بعض الآليات الإقليمية وإضعاف قنوات التعاون الاستخباراتي مع الشركاء التقليديين، لم يخلق مجرد اضطراب مؤقت في خرائط التنسيق الأمني، بل أنتج فراغا نظاميا، أي انقطاعا في ‘غراء’ المعلومات والتنسيق الذي كانت تحافظ به الهياكل الإقليمية على حد أدنى من استجابة مشتركة للأزمة”.
وأضاف معتضد، في تصريح لهسبريس، أن “هذا الانحلال المؤسسي يظهر بوضوح في القرار المتسلسل لبلدان مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر بالانفصال عن آليات إقليمية كبرى، وما يرافق ذلك من تراجع في مشاركة بعض القنوات المتخصصة، وهو ما يترك أسئلة حقيقية عن قدرة الجوار الإقليمي والدولي على تعبئة آليات بديلة بسرعة وفاعلية”، مبرزا أن “النتيجة الميدانية سريعة وواضحة، حيث إن الجماعات المسلحة لا تواجه الآن مجرد سلطة مركزية أضعف، بل تُقابلها فضاءات جغرافية وسياسية أكثر تشتتا وسهولة للنفاذ”.
وأكد أن “هذه المجموعات تستغل الفراغ الاستخباراتي لتوسيع شبكاتها اللوجستية، لكن هذا لا يعني بالضرورة انتصارها، ولكنه بالتأكيد فرصة استراتيجية لها. فعندما تنأى الدول التقليدية الداعمة أو تتراجع الآليات الإقليمية، فإن الفاعلين غير الدوليين يجدون مساحات لاختبار تكتيكات جديدة”، مبرزا أن “المغرب يلعب في هذا السياق دورا مميزا وإمكانية تأثير ملموسة لعدة أسباب عملية وسياسية، منها تجربته المؤسسية في مواجهة التطرف، وبُنى أمنية وتنظيمية عملت على مستوى الاستخبارات والجلوس مع شركاء أوروبيين وإفريقيين على حد سواء”.
وأضاف: “سياسيا، تربط المغرب علاقات مع حكومات انتقالية في دول ساحلية عدة، تسمح له بدخول قنوات ثنائية أحيانا تقفز على الاحتكاك الحاد مع هياكل إقليمية أكبر. هذه المزايا لا تلغي الحاجة إلى الحذر السياسي، لكنها توفر للمغرب نافذة للتموضع كوسيط تقني وعامل استقرار إقليمي”.
وشدد على أن “المغرب يمكنه أن يملأ هذا الفراغ بذكاء، أولا عبر شراكات استخباراتية ثنائية تركز على تبادل نقاط الاستخلاص العملية، إشارات الاتصال، تحركات التمويل، ومواقع التدريب، مع ضمان آليات موثوقة للسرية والربط القانوني، ثم عبر مبادرات متعددة الأطراف ضيقة التركيز، كمراكز تبادل معلومات إقليمية تستهدف تهديدات مشتركة محددة، وبناء قدرات محلية طويلة الأمد، وبرامج إعادة الإدماج التي تكسر دورة التجنيد”.
وخلص الباحث ذاته إلى أن “الفراغ الإقليمي خطر، لكنه أيضا اختبار لقدرات الفاعلين الإقليميين الجادين. فالمغرب يمكن أن يثبت أن التعاون المدفوع بالمصلحة المشتركة والقدرات التقنية المتقدمة لا يحتاج بالضرورة إلى تكرار بنى معطوبة، بل إلى شبكات عملية، شفافة نسبيا، ومحكومة بقواعد واضحة تحمي المدنيين وتستعيد المنافع الأمنية للدول نفسها، لأن الفشل في استغلال هذه الفرصة بنهج مسؤول سيترك المجال مفتوحا لتنافس أوسع، إقليمي ودولي، يصعب معه لاحقا رسم خرائط أمنية مستقرة في الساحل”.
أطر مشتركة وضرورة استراتيجية
عبد الرحمان مكاوي، خبير في الشؤون العسكرية، اعتبر أن “انسحاب كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر من العديد من الأجهزة والهياكل الإقليمية والدولية، على غرار تحالف دول الساحل (جي5) والمجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا، إلى جانب إنهاء شراكاتها الأمنية والاستخباراتية مع العديد من الدول، بما في ذلك فرنسا، كان بهدف إعادة صياغة استراتيجيتها الأمنية والعسكرية خارج الأطر التقليدية التي ترى السلطات الانتقالية في هذه الدول أنها لم تحقق الأهداف المرجوة من ورائها”.
وأضاف مكاوي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “هذه الدول الثلاث تتوجه في المقابل لتعزيز شراكاتها الأمنية مع بعض الفاعلين الإقليميين والدوليين، على غرار روسيا من خلال الفيلق الإفريقي التابع للجيش الروسي، وتركيا، إلى جانب المغرب أيضا؛ إذ تهدف هذه الدول إلى تأسيس إطار ثلاثي مشترك لمواجهة التهديدات التي تستهدف استقرارها وحماية مصالحها، وهو ما يعززه البعد التضامني الذي أظهرته سلطات هذه الدول في العديد من المناسبات والأحداث”.
وتابع المتحدث ذاته بأن “مثلث باماكو-نيامي-بوركينا فاسو يواجه مخاطر كبيرة مرتبطة أساسا بتمدد الحركات الإرهابية المتطرفة، خاصة في الشمال المالي حيث تنشط حركة ماسينا وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين إلى جانب حركات صغيرة أخرى، توجهت في الآونة الأخيرة إلى تشكيل جيش مصغر وحصلت على أسلحة متقدمة من جانب الجزائر وأوكرانيا كالطائرات المسيرة ومدافع سام، مدعومة بالفجوة الأمنية والاستخباراتية التي خلفها رفض العديد من الدول الإفريقية التعاون مع السلطات الجديدة في هذه الدول”.
في المقابل، شدد مكاوي على أن “المملكة المغربية تربطها علاقات جيدة مع هذه السلطات؛ إذ وقع المغرب معها اتفاقيات في مجال التعاون العسكري والتدريب، وهي أيضا جزء من المبادرة الأطلسية التي أطلقتها الرباط لفائدة الدول الحبيسة في القارة. وبالتالي، فإن المغرب، باعتباره دولة ذات تجربة متقدمة في مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف، سيلعب دورا مهما في تعويض هذا الفراغ الاستخباراتي عبر الانخراط في مبادرات متعددة الأطراف تشمل تبادل المعلومات، التدريب المشترك، ودعم القدرات التقنية والاستخباراتية لمواجهة الخطر الإرهابي المحتدم في المنطقة”.
وأبرز الخبير في الشؤون العسكرية أن “لعب المغرب أدوارا مهمة على هذا المستوى مدفوع بمجموعة من العوامل، منها التزام المغرب باستقرار الفضاء الإفريقي ومواجهة التنظيمات المتطرفة التي باتت تهدد دول الجوار المغربي كموريتانيا التي تربطها حدود مع مالي، أضف إلى ذلك أن المبادرات والمشاريع المغربية في القارة، كالمبادرة الأطلسية ومشروع أنبوب الغاز الأطلسي، تحتم عليه الانخراط بقوة والتعاون مع هذه الدول عسكريا واستخباراتيا لمواجهة الأخطار الأمنية في الدول المعنية التي تهدد الاستقرار الإقليمي، ومعه هذه المشاريع المغربية الطموحة”.
0 تعليق