قال أحمد بوحسن، المترجم والأستاذ الفخري بجامعة محمد الخامس بالرباط، مساء أمس الأربعاء، إن “النفاذ إلى ثقافة أو التعرّف على مجتمع ما يمر عبر لغته أو لغاته، ومن ثم عبر كتاباته ومخطوطاته ووثائقه المكتوبة، وعبر تاريخه وثقافته وفنونه المختلفة، ثم عبر معايشة تلك المجتمعات ومعاينتها في محيطها، أو حتى معايشة آثارها المكتوبة والمنشورة والمسموعة”.
جاء هذا خلال مشاركته في الجلسة العلمية التي ناقشت موضوع “الأدب العربي بين الترجمة والتأويل”، المنعقدة ضمن أشغال الندوة الدولية “الترجمة في سياق الاستشراق-رؤية جديدة”، واعتبر أن الترجمة، في هذا السياق، تشكل فعلا معرفيا مركزيا ووسيطا أساسا في إدراك العالم لدى المستشرق، مؤكدا أن “ما يقرؤه المستشرق أو يشاهده أو يسمعه يمر عبر الترجمة، التي يقوم بها كفعل معرفي وتمثل ثقافي أساسي في إدراك العالم الذي يدرسه”.
تعقيد تاريخي
قال أحمد بوحسن إن “نقل صورة ذلك العالم يتم عن طريق الترجمة من لغة الأصل إلى لغة الهدف، أو نقل العالم المعيشي أو المشاهد إلى لغة الباحث المستشرق”، غير أن هذه العملية، بحسب رأيه، “ليست دائما بريئة وأمينة”، موضحا أن الترجمة قد تتضمن “تغييرات وحذفا وإضافات وتحويلات مختلفة ومتنوعة”، تُمليها أحيانا مقتضيات اللغة الهدف أو حتى متطلبات لغة المصدر، بل وقد تنسجم مع “تصورات الباحث المترجم وأهدافه المختلفة”.
ولفت المتحدث في ورقته حول “ترجمة الآخر-الشرق في الخطاب الاستشراقي”، إلى أن الذات المترجمة لا تكون حيادية دوما؛ إذ تتدخل فيها عوامل تتصل بـ”العقيدة والهوية الإيديولوجية والفكرية والسياسية”، وهو ما قد يؤدي، في نظره، إلى ما يُعرف بـ”تكوين الصورة” عن الموضوع المترجم، أي خلق صورة مخصوصة عن الشرق من طرف المستشرق الغربي، بناء على ما اطلع عليه من كتابات أو مشاهدات أو محكيات متداولة.
وتابع موضحا في المؤتمر الدولي الذي تنظمه الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة التابعة لأكاديمية المملكة المغربية أن هذه الصورة التي صاغها المستشرق تحولت إلى “سردية” عن الشرق، استطاع أن ينشرها في مؤلفاته وترجماته المتنوعة، “بل وتبناها صاحب القرار السياسي والاقتصادي والثقافي”، موردا أن الترجمة الاستشراقية قامت بـ”تمييز أولي” اعتُبر فيه الشرق بمثابة “آخر”، أو “غير”، أي “مخالف للغرب وغريب عنه وليس مثله”.
وأكد أن هذا التمييز خلق “مسافة” بين المستشرق وموضوع بحثه، وهي مسافة ضرورية في البحث العلمي الموضوعي، غير أن الإشكال، بحسبه، يكمن في أن هذه المسافة لم تأخذ بعين الاعتبار ما تتسم به الذات الشرقية من “تعقيد وتاريخية” باعتبارها ذاتا بشرية لها ظروفها ومحيطها وثقافتها، وهو ما يتطلب، برأيه، “تجربة علمية أكثر تعمقا”، دون السقوط في “أوصاف إطلاقية” كالتي طبعت بعض الخطابات الاستشراقية، مثل “التخلف” و”التعصب” و”الجمود”.
تمظهرات أخرى
قال ريشار جاكمون، أستاذ متفرغ للغة العربية وآدابها في جامعة إيكس مرسيليا باحث في معهد الدراسات حول العالم العربي والإسلامي، إن الترجمة “لا تكفي وحدها لتحليل العلاقات الثقافية بين الفضاء العربي والفضاءات الثقافية السائدة”، معتبرا أن أحد أبرز مظاهر الهيمنة الثقافية في السياق المعاصر يتمثل في “تكريس الهيمنة اللغوية للغات الأوروبية، خاصة الإنجليزية والفرنسية، بطرق مختلفة”.
وخلال مداخلته الموسومة بـ”الأدب العربي في الترجمة الفرنسية اليوم: من الازدهار إلى الكساد”، أبرز أن أحد أوجه هذه الهيمنة يتجلى في “تشجيع الفاعلين الثقافيين من الفضاءات اللغوية المهيمن عليها على استخدام اللغات السائدة للوصول المباشر إلى المجال الدولي”، مضيفا أن “هذا بالطبع واضح تماما في حالة اللغة الإنجليزية، وهي اللغة المهيمنة في التبادلات اللغوية الدولية اليوم، لدرجة أنه إذا أراد المرء الوجود في الفضاء الدولي في العديد من المجالات، فعليه التعبير عن نفسه باللغة الإنجليزية”.
ولم يغفل جاكمون دور اللغة الفرنسية، رغم تراجعها النسبي، مشيرا إلى أنها لا تزال تحتفظ بـ”قيمة عالية كوسيلة للوصول إلى الفضاء الدولي، على الأقل في المجال الأدبي”، لافتا إلى أن “العديد من المؤلفين القادمين من الفضاء العربي” يتخذون منها “لغة تعبير”، ما يجعلها بدورها قناة من قنوات التمثيل الثقافي العابرة للحدود.
وفي معرض حديثه عن تمظهرات الهيمنة الثقافية على الفضاء العربي، انتقل جاكمون إلى نقد المنظور الاستشراقي، معتبرا أن هناك “شكلا آخر من أشكال الهيمنة يتمثل في سلب الذات من خلال الاستشراق”، وتابع في هذا السياق: “يمكن القول، بشيء من التعسف طبعا، إن العرب لا يُمثلون أنفسهم، بل يُمثَّلون من قبل الغرب. طبعا ليس كل الغرب”.
وأوضح أن هذه الهيمنة التمثيلية لا تقتصر على المجال الأدبي الضيق، بل تشمل “المجال الإعلامي والثقافي في شموليته”، مؤكّدا أن التمثيلات التي يُنتجها الكُتّاب العرب “تتنافس مع تلك التي يُنتجها المجال الثقافي المهيمن في الخارج، وفي فرنسا تحديدا”، أي تمثيلات “الصحافيين وغيرهم من المثقفين المعترف بخبرتهم الحقيقية أو المزعومة في المجتمعات الغربية عن المجتمعات العربية”.
مداخلات تزكي
إلى جانب بوحسن وجاكمون، تناول الكلمة أيضا محمود سالم الشيخ، أستاذ فقه اللغات الرومانسية وتحقيق النصوص مدير بحث بالمجلس القومي الإيطالي للبحوث نائب رئيس جامعة فلورنسا للعلاقات مع بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وقدم مداخلة بعنوان “مرحبا بابن خلدون في إيطاليا”، جاء في ملخصها أن الباحث (المترجم) إذا كان يرحب بعالم من كبار علماء العرب في إيطاليا، فلأنه يفتخر بأن إيطاليا ستتشرف بدخول هذا العالم في مجمع العلماء بلغتها بعد غيبة طالت ما يقارب سبعة قرون، ولأن مقدمته سترى النور بلغة دانتي أليجييري.
كما ورد في الملخص نفسه أن “هذه الترجمة تعتبر أول محاولة لترجمة أجريت على نص عربي محقق قام به الباحث على مخطوطات المؤلف المحفوظة في المكتبات التركية، إلى جانب أن الترجمة الإيطالية تعتبر أول ترجمة بلغة أوروبية بعد الترجمة الإنجليزية لتي قام بها فرانز روزينتال عام 1957 والترجمات (إذا صح التعبير الفرنسي) المليئة بالأخطاء والتحريف”.
أما مايكل كوبرسون، أستاذ اللغة العربية والأدب العربي في قسم لغات الشرق الأدنى وثقافاته في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلس، فقد جاء في الملخص أن مداخلته تبدأ بوصف الترجمة آلية لفرض المقارنة بين العمل الـ”إقليمي” من ناحية والعمل الأوروبي من الناحية الأخرى بهدف توكيد معيارية ذلك الأخير.
كما تطرق إلى “فشل منهج التغريب في كبير هذا القالب الاستشراقي، ونجاح منهج التوطين في جعل بعض الأعمال العربية والفارسية كأمثال ألف ليله وليلة ورباعيات الخيام جزء من القانون الغربي”، ليقارن بعدها “بين المناهج الترجمية والتعامل مع العناصر إلى مشرقية في المعمار الغربي آخذين متحف جورج لابيت في تولوز ومقر معهد العالم العربي في باريس نموذجين”.
من جانبه، قدم مراد تدغوت، باحث مستقل بجامعة جوته، فرانكفورت بألمانيا، مداخلة تروم “تقديم خلاصة تجربته في دراسة وترجمة كتاب الباحث الألماني هاينريش سيمون الذي يحمل عنوان: علم الثقافة الإنسانية عند ابن خلدون النقدية المهمة في الاستشراق الحديث؛ وذلك لما امتاز به المؤلف من نظر تحليلي ونقدي رصين لفكر ابن خلدون في علوم الاجتماع والفلسفة، والتاريخ، ويعرض لقضية التأسيس والبناء المعرفي القائم على الفلسفة والتاريخ الإسلاميين في الشرق الأوروبي”.
0 تعليق