الفنان الراحل محمد الرزين.. "علي زاوا" يركب "عود الريح" في "يوم طويل" - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في حضرة الغياب، حين تصمت الأضواء وتنحني خشبة المسرح بخشوع، يُسجَّل الرحيل كأنه مشهد أخير لفنان اختار أن يكون حاضرا حتى في الفقد. غاب محمد الرزين، وجه من وجوه الذاكرة الفنية المغربية، قامة سامقة نسجت حضورها عبر عقود من العطاء الهادئ والرصين، حيث لم يكن التمثيل لديه مجرّد مهنة، بل كان انتماء نبيلا لقضايا الإنسان وجماليات الفن.

لم يكن صوته عاليا، لكنه كان نافذا، ولم تكن خطواته صارخة، لكنها تركت أثرا عميقا في وجدان المغاربة. بين الخشبة والكاميرا، ظل الرزين وفيا لخط فني قوامه الصدق، والالتزام، والتواضع. واليوم تطوى صفحة مضيئة من تاريخ التمثيل المغربي، وذاكرة لن تُطوى ما دام للفن رجال من طينته.

منذ بواكر شبابه، اختار محمد الرزين أن يسلك درب الفن لا بوصفه مهنة عابرة، بل بكونه قدرا ينسج تفاصيله بالصبر والموهبة والتكوين الرصين. وُلد الرزين سنة 1946، وترعرع في كنف أسرة متواضعة الحال، لكنها غنيّة بالقيم والانضباط، وهو ما أسهم في نحت شخصيته الفنية والإنسانية. لم تكن بدايته سهلة، فقد ولج عالم المسرح من الهامش، قبل أن ينتقل إلى مصاف الكبار بفضل مثابرته وذكائه الفني.

التحق بالمعهد الوطني للموسيقى والرقص والفن المسرحي بالرباط، حيث تلقى تكوينا أكاديميا صارما أضاء له دروب الإبداع، ليصبح لاحقا من خيرة خريجيه ومن بين أعمدته البيداغوجية كذلك. هناك، لم يتوقف عن التعلّم، بل صار بدوره أستاذا وموجّها، يضع من تجربته جسرا تعبره الأجيال الجديدة من عشّاق الخشبة.

وهكذا، لم يكن الرزين مجرد فنان صعد بموهبته فقط، بل أيضا بعمق تكوينه وتواضعه المهني، جامعا بين البساطة والشموخ، بين الأداء الدقيق والرسالة النبيلة التي حملها منذ أول ظهور له على الركح.

بعد أن نهل محمد الرزين من معين التكوين الأكاديمي بالمعهد الوطني للموسيقى والرقص والفن المسرحي بالرباط، لم يتأخر في ترجمة رصيده المعرفي إلى حضور فني راسخ، حيث خطا بثبات نحو خشبة المسرح، منضما إلى فرقة المسرح الوطني محمد الخامس، ذلك الصرح الذي كان في زمنه منارة للفن الراقي وفضاء لصقل الموهبة بالاحتكاك المباشر مع جمهور عريض وتيارات فكرية وفنية متجددة.

كما انخرط في فرقة “القناع الصغير”، التي شكلت محطة مفصلية في مساره المسرحي؛ إذ مكنته من أداء أدوار مركبة ذات عمق إنساني واجتماعي، وسمت أداءه بالرصانة والانضباط الفني. لقد تميز الرزين منذ تلك المرحلة الأولى بقدرته على الانتقال بسلاسة بين الشخصيات، حاملا رؤى المجتمع وتناقضاته إلى الخشبة، بدون افتعال ولا تهويل، بل بأداء نابض بالحياة، فيه من الحكمة بقدر ما فيه من الحضور القوي.

وهكذا، لم تكن سنوات ما بعد التكوين سوى انطلاقة فعلية لممثل آمن بأن المسرح ليس مجرد فضاء للتسلية، بل رسالة تقتضي الالتزام والصدق، وهو ما ظل وفيا له حتى وهو يخطو نحو عوالم التلفزيون والسينما لاحقا، من دون أن يتخلى عن معطفه المسرحي الأول.

ومع توهّج اسمه في الساحة المسرحية، انفتحت أمام محمد الرزين آفاق جديدة في عالم التلفزيون، حيث تسلّل بهدوء وثقة إلى قلوب المشاهدين من خلال مشاركات نوعية في أعمال درامية تركت بصمتها في الذاكرة الجماعية. من بين أبرز هذه الأعمال “وجع التراب”، و”سرب الحمام”، و”من دار لدار”، التي قدّم فيها أداء متّزنا، نابضا بالصدق والإنسانية، مجسدا شخصيات تنبض بالواقعية وتلامس هموم المواطن المغربي في تفاصيله اليومية.

وفي المقابل، تألق في أعمال فكاهية مثل “دار الورثة” و”الربيب”، حيث أبان عن جانب آخر من موهبته؛ إذ امتزج الحس الكوميدي لديه برصانته المعهودة، مانحا أدواره طابعا أبويا دافئا وحضورا محببا ظل راسخا في أذهان الجمهور. وقد وثّقت أرشيفات الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة هذا الحضور المتكرر، الذي لم يكن مدفوعا بالبروز الإعلامي، بل بجودة الأداء وصدق الالتزام.

في كل ظهور له، كان الرزين يجسّد مدرسة فنية قائمة على الإتقان والبساطة، محافظا على خيط ناظم بين ما يقدّمه على الخشبة وما ينقله عبر الشاشة، في تناغم فني نادر لا يُصطنع ولا يُفتعل.

وفي امتداد طبيعي لمسيرته المتألقة فوق الخشبة وعلى الشاشة الصغيرة، عبر محمد الرزين إلى عالم السينما بخطى واثقة، لا بحثا عن الأضواء الساطعة، بل وفاء لرؤيته الفنية التي تعلي من قيمة المعنى وتراهن على الصدق في التقمص. لم يكن انتقاله إلى الشاشة الكبيرة مجرّد تجربة عابرة، بل كان توجها ناضجا، يحمل في طياته نضجا دراميا وروحا إنسانية عميقة.

شارك في أعمال سينمائية اختارت عمق المضمون، منها “علي زاوا” و”عود الريح” و”القنفودي”، حيث جسّد أدوارا تنبض بحسّ تأملي، رزين كاسمه، متّزن في حضوره، لا يفرض نفسه بل يتسلّل إلى الوجدان. لم يكن بحاجة إلى البطولة المطلقة كي يترك بصمة، فبمجرد ظهوره، كان ينسج حول الشخصية هالة من المصداقية، تجعلها حيّة في ذاكرة المتفرج.

ورغم أن الجوائز لم تكن محور مساره، حازت الأفلام التي شارك فيها على تقدير واسع في مهرجانات داخل المغرب وخارجه، ليظل اسمه مرتبطا بنوعية سينمائية راقية، بعيدة عن الابتذال، ومنحازة لقضايا الإنسان المغربي البسيط. لقد ظل الرزين، حتى في صمته، ممثلا يجيد الإصغاء لنبض الدور، ويمنحه من روحه ما يكفي ليصير حقيقيا في عيون الناس.

لم يكن للرّزين، وهو الذي ظلّ وفيّا لروح الفن الرفيع، أن يسدل الستار على مساره من دون أن يضع نقطة أخيرة تليق بمقامه. فكانت مشاركته في فيلم “يوم طويل” للمخرج حكيم قبابي آخر محطاته السينمائية، وهو عمل خرج إلى القاعات في الأشهر الأخيرة من حياته، وترك من خلاله بصمة خفيفة في الكلمات، عميقة في الأثر، كما لو كان يُودّع جمهوره بصمت يليق بتواضعه وسموّه الفني.

بهذا الظهور الأخير، يغلق محمد الرزين قوسا من العطاء الفني امتد لعقود، تاركا وراءه أثرا لا يمحى في المسرح، التلفزيون، والسينما. لم يكن ممثلا فحسب، بل كان صوتا إنسانيا صادقا، حمل وجع الناس، وارتقى بالفن إلى مقام المسؤولية والصدق. رحل الجسد، وبقيت الروح تملأ الفضاءات التي مرّ بها، شاهدة على فنان من طينة الكبار.

أخبار ذات صلة

0 تعليق