من أين يأتي الرعب؟ وهل يولد في العتمة التي تهيمن على الزوايا المظلمة، أم يتشكل في داخل الإنسان حين يواجه هشاشته أمام قوى لا يراها؟ وهل يمكن للعقل أن يتماسك حين يتقاطع مع الميتافيزيقي، أم أن كل محاولة للفهم تغدو ضربا من العبث أمام الغيب؟
تشغل أسئلة من هذا النوع منذ اللحظة الأولى لمشاهدة فيلم The Conjuring: Last Rites، حيث يجر المشاهد إلى فضاء يتجاوز المتعة التقليدية ويؤسس لعلاقة معقدة بين الرعب كمتخيل سينمائي والرعب كخبرة وجودية. وفي إحدى اللحظات، تقول شخصية فيرا فارمغا في دور (لورين وارين): “حين تصغي الأرواح، تصغي معها مخاوفك أنت. والصوت الذي تسمعه قد يكون صدى داخلك قبل أن يكون صوتا آتيا من عالم آخر”، لتفتح عبر هذا القول سؤالا جماليا ووجوديا حول ماهية الخوف ذاته.
مساءلة الحدود بين الإيمان والشك
يتموضع فيلم “الشعوذة.. الطقوس الأخيرة ” أو “استحضار الأرواح.. الطقوس الأخيرة” (شتنبر 2025/ المدة 135 دقيقة)، حسب الترجمة العربية، وهو الجزء التاسع والأخير من هذه السلسلة، داخل تقاليد سينما الرعب الغيبية التي برع المخرج مايكل تشافيس في رسم معالمها منذ الجزء الأول لسلسلة “The Conjuring”؛ لكنه هنا يذهب أبعد عبر بناء سردية تضع الموت والطقوس الكنسية في قلب الحكاية. وينتمي الفيلم إلى سينما تستحضر البعد الديني والفلسفي، سينما تعيد مساءلة الحدود بين الإيمان والشك، بين الحقيقة والأسطورة. ومثلما تنتمي إلى تقاليد سينما الرعب الكلاسيكية، فإنها تتقاطع مع سينما الفقد الوجودي، حيث لا يتوقف الرعب عند مشاهد الصراخ أو الظلال المتحركة، وإنما يمتد إلى المدى الداخلي للشخصية الإنسانية وهي تواجه مصيرها الغامض.
وتشتغل الحكاية على محور رئيسي يتمثل في تحقيق الزوجين وارين في سلسلة من الطقوس الجنائزية التي تتحول من لحظة روحية إلى دائرة رعب متصاعدة. ويكتشفان أن “الصلوات الأخيرة” لم تعد مجرد كلمات تُتلى على أرواح مغادرة، بقدر ماهي باب مفتوح لعودة الشر في أشكال لا يتوقعها أحد. ويتمدد النص الحكائي في أكثر من اتجاه: من التحقيق البوليسي إلى المواجهة الروحية، من التوثيق التاريخي لقصص حقيقية إلى الغوص في الأسطورة الشعبية حول الأرواح والأجساد العالقة بين الحياة والموت. وفي إحدى اللحظات يقول إد وارين، الذي جسده باتريك ويلسون: ” يتغذى الشر من كل طقس، ومن كل كلمة لا تُفهم، ومن كل خوف لا يُواجه”.
صناعة الشر داخل المجتمعات
يتأسس الفيلم على سؤال جوهري حول العلاقة بين الدين والميتافيزيقا، وهل الطقوس الكنسية حصن أمام القوى الشريرة أم مدخل لتجسيدها في أشكال أكثر غموضا؟ ثانيها سؤال الذاكرة والصدمة، إذ يصرّ المخرج على ربط الحكاية بماضي الشخصيات، بجراحها التي لا تُشفى. وثالثها سؤال الحقيقة، فالمشاهد يجد نفسه أمام خطابات متناقضة: بين شهادات المؤمنين وخطابات المتشككين، بين سلطة العلم ومحدودية اللغة أمام ما لا يُفسر.
ويعرض الفيلم أفكارا عميقة تتجاوز سطحية الخوف اللحظي، ويدعو إلى التفكير في هشاشة الإنسان أمام الماورائيات، في حدود الإدراك البشري، في علاقة الموت بالحياة اليومية. ويقدم أيضا رؤية حول كيفية صناعة الشر داخل المجتمعات، وكيف تتحول الطقوس الجماعية إلى مجال لتكريس الخوف بدلا من تجاوز الموت. وهن،ا يظهر الفيلم كوثيقة فلسفية بقدر ما هو عمل رعب؛ لأن المشاهد يتأمل في ذاته أكثر مما يراقب شاشة مليئة بالأشباح.
وتستند الخلفيات المؤطرة للعمل تستند إلى الإرث المسيحي حول “الطقوس الأخيرة”، وإلى الأدب الغوثي الذي رسخ لفكرة أن الموت ليس نهاية وإنما كبداية رحلة مظلمة. كما يتكئ الفيلم على تقاليد الثقافة الشعبية الأمريكية، التي لم تتوقف عن إنتاج قصص الأشباح والمنازل المسكونة والجنائز التي تتحول إلى فضاءات للرعب. وتجعل هذه الخلفيات من الفيلم نصا مركبا، وينفتح على اللاهوت وعلى السوسيولوجيا في الوقت نفسه، ويؤكد أن الرعب لا يعيش في السينما فقط بل في المخيال الجمعي.
وتتسم سردية الفيلم بالتماوج بين الواقعي والمتخيل. ويتقدم السرد مثل تحقيق جنائي، ثم ينحرف إلى كوابيس متشظية تعكس حالة الشخصيات الداخلية. ويراهن الخطاب السينمائي على اللغة البصرية أكثر مما يراهن على الحوار. وتتحرك الكاميرا ببطء في الممرات، وتلتقط الظلال قبل أن تلتقط الوجوه، وتمنح للمكان حضوره الكابوسي. ويتناوب الضوء بين البياض المفرط في الكنيسة والسواد الكثيف في الأقبية، ليخلق جدلية بين الطهارة والشر. ويتصاعد الصوت عبر تكرار صلوات تتخللها صرخات حادة، فيتحول السمع إلى مجال رعب بقدر ما هو البصر.
البحث عن معنى لمواجهة الموت
وتتجلى الهوية الجمالية للفيلم في اعتماده على البنية البصرية للظلال والانعكاسات. ويرى المشاهد الكائن المجهول في مرآة مكسورة، أو يلمحه عبر انعكاس الماء، أو يسمعه قبل أن يراه. وتكثف هذه التقنية حضور الغياب، وتجعل من اللا مرئي أكثر رعبا من المرئي. وهنا، يقول أحد الشخوص الثانويين وهو يصف تجربة رؤيته للأشباح: “الأصعب أن ترى شيئا من زاوية عينك، أن تشك أنك تتخيل، ثم تدرك أن ما تراه أكثر حقيقية منك”، وتلخص هذه الرؤية جماليات الرعب المبني على الشك لا على اليقين.
ويمتد الخطاب الفيلمي نحو مساءلة وجود الإنسان نفسه. وهل هو كائن محكوم بالمعرفة واليقين، أم أن حياته محفوفة باللا وضوح واللا معنى؟ ولا تُقدم هذه الأسئلة بشكل مباشر؛ لكنها تتسرب من خلال صراع الشخصيات. وتبدو شخصية لورين وارين ممزقة بين موهبتها كوسيط روحي ورغبتها في حياة هادئة. ويواجه إد وارين، عبء الحماية أمام قوى تفوقه. الشخصيات الثانوية تعيش بدورها على تخوم الإيمان والخوف. كل هذا يجعل الفيلم يبتعد عن التبسيط التجاري، ويتحول إلى فضاء لمساءلة الوجود الإنساني.
ويرسخ الفيلم من الناحية الثقافية صورة أمريكا المعاصرة كأرض تتعايش فيها التكنولوجيا الحديثة مع الموروث الديني العميق، حيث يعيش الفرد بين خطاب علمي صارم وبين خطاب شعبي يؤمن بالأرواح. ويعكس الفيلم هذه الثنائية، ويكشف عن مجتمع لا يزال يبحث عن معنى لمواجهة الموت. وهذا ما يجعل تجربة المشاهدة مزيجا من الرعب والتأمل.
وهكذا، يخرج فيلم “الشعوذة.. الطقوس الأخيرة ” من مجرد كونه فصلا جديدا في سلسلة رعب جماهيرية، ليصبح نصا بصريا وسرديا يستدعي الفلسفة والأنثروبولوجيا والدين في آن واحد. ويضع المشاهد أمام نفسه، أمام أسئلته عن الحياة والموت، عن الذاكرة والغياب، عن المعنى واللا معنى. ويتركه مع سؤال عالق: هل الخوف الذي رآه على الشاشة هو انعكاس لرعب خارجي، أم صدى لشيء مقيم في داخله منذ البداية؟.
تمزق الروح الجماعية
تتجلى شخصية إد وارن كبطل في فيلم “الشعوذة.. الطقوس الأخيرة” كشخص لا يُعرّف نفسه من خلال القوة الجسدية أو الذكاء الفائق، وإنما من خلال الإيمان العميق والقدرة على المواجهة الروحية. وتتشكل رؤيته للعالم من خلال عدسة روحية ترى في كل ظاهرة خارقة اختبارا للروح البشرية، وفي كل كيان شيطاني انعكاسا لضعف الإنسان أمام قوى لا تُرى. ويتقدم إد نحو الظلام، لا كرمز ديني فحسب؛ بل كأداة مقاومة ضد الانهيار الداخلي الذي يهدد الذات حين تواجه ما لا يمكن تفسيره. وتتجلى حساسيته في لحظات الصمت، حين يحدق في الفراغ وكأنه يستنطق الأرواح، وفي نبرته حين يقول:
“الإيمان لا يحتاج إلى دليل، بل إلى قلب لا يخاف”، وهي عبارة تذكرنا بما قاله الأب داميان في الفيلم الشهير The Exorcist ” طارد الأرواح الشريرة” (1973) “قوة المسيح تجبرك”، حيث يتحول الإيمان إلى سلاح في وجه الشر.
وتُظهر تمثلات شخصية إد لذاته أنه لا يرى نفسه منقذا خارقا، وإنما وسيطا بين عالمين، يحمل عبء المعرفة والخوف معا. ويواجه قضاياه من خلال طقوسه، من خلال إصراره على أن الحقيقة لا تُقاس بالمنطق بل بالحدس، ومن خلال دفاعه عن العائلات التي تنهار تحت وطأة الظواهر الخارقة. وتتجلى رؤيته في موقفه من عائلة سمورل، حيث يرى أن البيت المسكون ليس مجرد مكان، بقدر ما هو مرآة للروح الجماعية التي تتعرض للتمزق. يردد في لحظة حاسمة: “البيت لا يطردنا، بل نحن من نطرد أنفسنا حين نكف عن الإيمان”. وهي عبارة تذكرنا بما قالها كوبر في فيلم Interstellar “بين النجوم” (2014)، “كنا ننظر إلى السماء ونتساءل عن مكاننا بين النجوم، الآن ننظر إلى الأرض ونقلق بشأن مكاننا في التراب”، حيث يتحول المكان إلى استعارة للهوية.
في انهيار الحلم الأمريكي
تتداخل الأبعاد الاجتماعية في الفيلم من خلال تصوير العائلة كمؤسسة مهددة، حيث يتحول البيت الجديد إلى كابوس، ويصبح الحلم الأمريكي في الاستقرار مجرد وهم. ويظهر ذلك في مشاهد الانتقال إلى المنزل الجديد، حيث تترافق الفرحة مع أولى علامات الاضطراب، وفي تكرار رمزي لفكرة أن الرغبة في الطمأنينة قد تكون بوابة للانهيار. وتتجلى الأبعاد السياسية في غياب المؤسسات عن المشهد، حيث لا يظهر أي تمثيل للسلطة الرسمية، ويُترك الأفراد لمواجهة مصيرهم، مما يعكس أزمة الثقة في الدولة. ويتكرر هذا النمط في أفلام مثل Hereditary، ” وراثي” (2018)، حيث تقول الشخصية الرئيسية: “لم أرد يوما أن أكون أمك”، في تعبير عن انهيار الروابط الأسرية تحت وطأة القوى الغامضة.
وتتجلى الأبعاد الاقتصادية في تصوير المنزل كرمز للطبقة الوسطى، حيث يتحول الاستثمار في العقار إلى لعنة، ويصبح الحلم في التملك عبئا نفسيا. ويظهر ذلك في مشاهد تدهور الحالة النفسية للأب، الذي يشعر بالعجز أمام ما يحدث، في تكرار لمشهد الأب في فيلم The Shining ، ” البريق” (1980): “ها هو جوني!”
وفي لحظة انهيار عقلي تتحول فيها الشخصية إلى تجسيد للرعب ذاته. تتمظهر الأبعاد النفسية في شخصية لورين، التي تعاني من رؤى مرعبة، وتكاد تفقد عقلها، لكنها تستمر في المقاومة، في تكرار لمشهد إيلي في فيلم Don’t Look Now ، ” لا تنظر الآن ” (1973) : “رأيته، كان يبتسم”. في تعبير عن التداخل بين الألم والرؤية.
هل يمكن للإيمان أن يصمد أمام الشر المطلق؟
تتأسس الأبعاد الرمزية في الفيلم على استخدام الظلال والأصوات والمرآة كوسائط لظهور الكيان الشيطاني، حيث يتحول الضوء إلى عدو، والصمت إلى تهديد. ويظهر ذلك في مشهد المرآة التي تعكس وجها لا ينتمي لأحد، في تكرار لمشهد المرآة في فيلم Oculus (، ” العين” (2013): “ترى ما يريدك أن تراه”، في تعبير عن فقدان السيطرة على الإدراك. وتتضح الأبعاد الجمالية في استخدام الألوان الباردة، والإضاءة الخافتة، والموسيقى التصاعدية، حيث يتحول الإيقاع البصري إلى أداة لبناء التوتر، ويصبح الجمال وسيلة للرعب، كما في فيلم Midsommar ، ” منتصف الصيف” (2019): “لا بأس، أنا هنا”، في لحظة تتداخل فيها الطمأنينة مع الرعب.
وترتكز الأبعاد النقدية في طرح الفيلم لسؤال جوهري: هل يمكن للإيمان أن يصمد أمام الشر المطلق؟ يظهر ذلك في مشهد الطقوس الأخيرة، حيث يتردد شخصية (إد) في أداء الصلاة، لكنه يتجاوز خوفه، ويقول: ” أنا لا أطلب المعجزة، بل أطلب القوة “، في تكرار لمشهد الأب في فيلم The Rite ، ” الطقس” (2011): “اختيار عدم الإيمان بالشيطان لن يحميك منه”، في تأكيد على أن الإنكار لا يوقف الخطر. وتعكس هذه الرؤية في أن الفيلم لا يقدم حلا نهائيا، ويترك الباب مفتوحا للتأويل، ويجعل من الرعب وسيلة لفهم الذات.
وتتداخل هذه الأبعاد جميعا لتشكل نسيجا سينمائيا يعكس قلق الإنسان المعاصر، ويطرح أسئلة عن الهوية، الإيمان، والمصير. وتكمن قوة الفيلم في قدرته على تحويل الظواهر الخارقة إلى استعارات للواقع، وفي جعله من الرعب وسيلة للتأمل. وتتكرر هذه الرؤية في أفلام مثل The Babadookبابادوك ” (2014) حين تقول الأم : “لا يمكنك التخلص من بابادوك” في تعبير عن أن الرعب الحقيقي يسكن داخلنا.
وتُختتم هذه الرحلة النقدية بكلمات (إد وران) في نهاية الفيلم، حين يقول: “الظلام لا ينتصر حين يُهزم، بل حين نتوقف عن المقاومة”، وهي عبارة تلخص فلسفة الفيلم، وتُعيد تعريف البطولة، لا كقوة خارقة، وإنما كإصرار على المواجهة. وتلخص هذه الرؤية في أن البطل لا ينجو لأنه أقوى، وإنما لأنه يؤمن، ويستمر، ويقاوم، حتى حين ينهار كل شيء من حوله.
يُجسّد فيلم “الشعوذة.. الطقوس الأخيرة”، رؤية سينمائية تتقاطع فيها الروحانية مع الرعب، حيث يتحول إد وارن إلى بطل يقاوم الظلام بالإيمان لا بالقوة. وتتداخل الأبعاد النفسية والاجتماعية والرمزية لتكشف هشاشة الإنسان أمام المجهول، ويصبح البيت المسكون مرآة للذات القلقة. وتتضح المغامرة في مواجهة الذات قبل الأرواح، ويُعاد تعريف البطولة كفعل مقاومة داخلي. وفي لحظة مؤثرة، يقول إد: “دخلتُ إلى الظلام لا لأهزمه، وإنما لأُذكّره أنني ما زلتُ موجودا”، وهي عبارة تختزل فلسفة الفيلم وتمنحه بعدا تأمليا يتجاوز الرعب نحو فهم أعمق للوجود.


















0 تعليق