قال المحلل السياسي الشرقاوي الروداني إن سقوط نظام بشار الأسد سيكون نقطة تحول جيوسياسية كبرى في الشرق الأوسط، إذ سيؤدي إلى تغيير موازين القوى الإقليمية والدولية، معتبرا هذا الحدث ضربة موجعة لإيران ولنفوذها، كما يضع الفصائل الفلسطينية أمام تحديات جديدة.
وأضاف الروداني، ضمن مقال معنون بـ”سقوط نظام بشار الأسد.. بداية تحولات جيوسياسية في الشرق الأوسط” توصلت به هسبريس، أن انهيار النظام السوري سيترك فراغا سياسيا وأمنيا في المنطقة؛ مما يفتح الباب أمام تدخلات جديدة من قوى إقليمية ودولية.
وأورد المحلل السياسي أنه بالنسبة للدول العربية، فإن هذه اللحظة قد تكون فرصة لإعادة صياغة مواقفها وتعزيز سيادتها عبر تعزيز التعاون الإقليمي. كما أن التغييرات المتوقعة في قطاع الطاقة، مثل مشروع خط أنابيب الغاز القطري إلى تركيا، قد تساهم في إعادة تشكيل المشهد الاقتصادي في المنطقة، وتقليل الاعتماد على الغاز الروسي.
وهذا نص المقال:
يمثل سقوط نظام بشار الأسد حدثا محوريا ومفصليا يفتح صفحة جديدة في تاريخ منطقة الشرق الأوسط وما وراءها، ستتسم بتغيرات غير مسبوقة على المستويين الإقليمي والدولي. في هذا الصدد، وعبر سنوات عديدة، شكل نظام الأسد ركيزة أساسية للمشروع الجيوسياسي الإيراني، ليس فقط كحليف استراتيجي؛ بل كقاعدة عسكرية ولوجستية متقدمة للحرس الثوري الإيراني، تسهل له التوسع الإقليمي ودعم الميليشيات الموالية له في مناطق مختلفة من الشرق إلى شمال إفريقيا. وبالتالي، فإن انهيار هذا النظام يعتبر ضربة موجعة لنفوذ إيران، حيث إن طهران استثمرت في سوريا لتأمين جسر بري يصلها بحزب الله في لبنان وتعزيز نفوذها عبر المنطقة وشمال إفريقيا. ومع انهيار هذا الجسر الاستراتيجي، ستتراجع قدرة إيران على إدارة أذرعها الإقليمية مثل “الوحدة 4400″؛ مما سيؤدي إلى تفكك محتمل للعديد من شبكاتها الإقليمية والدولية. هذا الوضع يضعف النفوذ الإقليمي لإيران ويجبرها على اتخاذ قرارات مصيرية؛ إما بالانخراط في مفاوضات جديدة مع الولايات المتحدة، أو بتسريع وتيرة برنامجها النووي لضمان بقاء نفوذها وسط تصاعد التهديدات.
في الآونة الأخيرة، أثارت خطوات إيران المتسارعة في تخصيب اليورانيوم قلقا دوليا متزايدا، حيث تشير التقديرات إلى اقترابها من امتلاك القدرة على إنتاج أسلحة نووية؛ مما يعمق تعقيدات المشهد الجيوسياسي في المنطقة.
لكن في الجوهر تبقى إحدى أبرز التحولات الجيوسياسية المتوقعة بعد سقوط نظام الأسد هي خروج القضية الفلسطينية من قبضة المحور الشيعي؛ لطالما اعتمدت بعض الفصائل الفلسطينية، خاصة حركتي حماس والجهاد الإسلامي، على الدعم الإيراني عبر سوريا، مما جعلها جزءا من الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة. فمع انهيار النظام السوري وتراجع النفوذ الإيراني، ستجد هذه الفصائل نفسها أمام تحديات جديدة في تأمين الدعم اللوجستي والعسكري، مما قد يدفعها إلى إعادة النظر في تحالفاتها ومساراتها السياسية. هذا التطور يمكن أن يعيد القضية الفلسطينية إلى إطار عربي أوسع بعيدا عن الاستقطاب الطائفي، ويفتح المجال أمام جهود عربية مشتركة لتحريك ملف السلام ضمن رؤية متوازنة تحقق تطلعات الشعب الفلسطيني وتعيد إلى المنطقة استقرارها.
في قراءة معمقة للأحداث، يبدو أن سقوط النظام السوري، الذي طالما كان خارج الإجماع العربي، يعكس تحولات استراتيجية كبرى في المشهدين الإقليمي والدولي. من الناحية العسكرية، أظهرت عملية “ردع العدوان”، التي تقودها فصائل غرفة عمليات “الفتح المبين”، هشاشة النظام في مواجهة ديناميكيات قوى متغيرة؛ فقد لعبت هيئة تحرير الشام والجبهة الوطنية للتحرير وجيش العزة أدوارا محورية في تحقيق تقدم استراتيجي في مناطق رئيسية مثل حلب وحماة، والسيطرة على حمص كمحور حاسم نحو دمشق؛ غير أن هذه التطورات العسكرية تكشف بوضوح عن عوامل أعمق تتجاوز ساحة المعركة وقواعد الاشتباك، إذ إن النظام السوري منذ مدةٍ طويلة كان يواجه عزلة متزايدة بسبب تراجع الدعم من حلفائه الاستراتيجيين، خاصة إيران وروسيا اللذين أظهرا فتورا في دعمهما نتيجة لتغير أولويات المصالح الإقليمية والدولية. من جانب آخر، تكشف التحركات التي تقودها التنظيمات المتمردة عن تأثيرات قوى كبرى ومنظمات دولية تنسق وتوجه هذه الديناميكيات، مما يبرز إعادة ترتيب استراتيجي لمواقع الفاعلين الدوليين في المنطقة. هذا المشهد أبان عن أن النظام السوري لم يعد قادرا على التكيف مع تحولات خارطة التحالفات الدولية، ما جعله أكثر عرضة للانهيار في ظل غياب استراتيجية مستقلة ومستدامة تضمن له البقاء في خضم هذه التغيرات العميقة.
فمنذ عام 2011، سعت روسيا إلى الاضطلاع بدور الضامن لاستمرار نظام الأسد، مستخدمة منصات مثل أستانا وسوتشي كأدوات بديلة للمقاربات الغربية بهدف صياغة تسوية سياسية تعزز نفوذها الإقليمي. ومع ذلك، تجد موسكو نفسها اليوم أمام معضلة استراتيجية عميقة مع انهيار النظام، حيث تواجه تحديات غير مسبوقة في الحفاظ على مصالحها الجيوسياسية وإعادة ترتيب أولوياتها الإقليمية في ظل التحولات المتسارعة. فعلى الرغم من حرصها على الحفاظ على مصالحها الأساسية، مثل قواعد الحميميم وطرطوس التي تعد نقاط ارتكاز لاستراتيجيتها في المياه الدافئة، فإن تكاليف الصراع السوري أصبحت عبئا كبيرا خاصة مع تطور معركة الاستنزاف في الساحة الاوكرانية. ومن ثم، فسقوط النظام سيجبر روسيا على صياغة ترتيبات سياسية جديدة للحفاظ على نفوذها وربما الفاتورة قد تكون فيها تنازلات مهمة في أوكرانيا مقابلة البقاء على توازنها في شرق المتوسط؛ مما يضعها أمام معادلة دقيقة بين الحفاظ على مصالحها وتقليل خسائرها في مجموعة من مراكز نفوذها.
في هذا الإطار، إعادة الصياغة الجيوسياسية في المنطقة وبناء ترتيبات جديدة لن يكون مقتصرا على موازين القوى العسكرية ومحددات النفوذ؛ ولكن الوضع الجديد قد يعيد تشكيل المشهد الجيو-اقتصادي في الشرق الأوسط، مما يفتح الباب أمام فرص جديدة في قطاع الطاقة، خاصة فيما يتعلق بمشروع خط الأنابيب الذي يربط قطر بتركيا وصولا إلى أوروبا. ففي عام 2009، اقترحت قطر بناء خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من حقل “الشمال” إلى تركيا عبر السعودية والأردن وسوريا، بهدف تزويد السوق الأوروبية بالغاز. ومع ذلك، رفضت سوريا توقيع الاتفاق الذي يسمح بمرور خط الأنابيب عبر أراضيها، مشيرة إلى أنها ترغب في حماية مصالح حليفتها روسيا، المورد الرئيسي للغاز الطبيعي إلى أوروبا. ردا على ذلك، وقعت سوريا في عام 2011 اتفاقية مع إيران والعراق لإنشاء خط أنابيب آخر، يعرف غالبا باسم “خط الأنابيب الإسلامي”، يهدف إلى نقل الغاز الإيراني إلى أوروبا عبر العراق وسوريا؛ لكن اندلاع الحرب الأهلية السورية في العام نفسه أعاق تنفيذ هذه المشاريع الطاقية.
من المهم الإقرار بأن رفض سوريا لمشروع قطر ودعمها لمشروع إيران قد ساهم في تعقيد الديناميكيات الجيوسياسية المحيطة بالصراع السوري، وكان ضمن خطة طهران الجيوسياسية في الوصول إلى خلق توازن جديد لمصالحها الهدف منه تغيير قواعد اللعبة مع الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية. ومن ثم، فقرار سوريا برفض مرور خط أنابيب الغاز القطري عبر أراضيها، مع دعمها لمشروع منافس مع إيران، يعكس التحالفات الاستراتيجية والمصالح الجيوسياسية في المنطقة، خاصة فيما يتعلق بتزويد أوروبا بالطاقة ودور روسيا في الشرق الأوسط.
الآن، وبعد سقوط الأسد، لم يعد هناك أي عائق سياسي أمام بناء خط أنابيب الغاز بين قطر وتركيا، وهو المشروع الذي كان النظام السوري يعارضه بشدة لدعم مصالح إيران وروسيا. يهدف خط الأنابيب المخطط له إلى المرور عبر سوريا، ما يجعله ركيزة أساسية لتوفير بديل للطاقة في أوروبا يقلل من الاعتماد على الغاز الروسي. هذا التطور الجيوسياسي يعد خطوة استراتيجية مهمة لتعزيز الاستقرار الطاقي لدول أوروبا، في ظل التوترات المستمرة في سوق الطاقة العالمي. كما يتوقع أن يساهم في تقوية الشراكات بين قطر وتركيا، مما سيعزز من موقعهما كفاعلين رئيسيين في سوق الطاقة الدولية. في هذا السياق، سقوط نظام الأسد لن يكون مجرد تغيير سياسي في سوريا، بل سيمثل نقطة تحول في قواعد اللعبة الإقليمية. فحزب الله، الذي يعتمد بشكل كبير على الدعم السوري والإيراني، سيواجه تحديات غير مسبوقة قد تضعفه داخليا وإقليميا. هذا الضعف قد يفتح الباب أمام فرص تسوية سياسية في لبنان، كما قد يفرض على الفصائل الفلسطينية تغيير استراتيجياتها بسبب تراجع الدعم الإيراني. من جهة أخرى، ستنعكس هذه التغيرات على أمن البحر الأحمر، الممر الاستراتيجي الذي يشهد تدخلات الحوثيين المدعومين من إيران، مما يفتح الباب أمام تفاهمات قد تكون بداية جديدة للتغيير في المشهد الأمني الإقليمي.
في الوقت نفسه، تداعيات سقوط الأسد لن تقتصر على المشرق العربي، بل ستمتد إلى شمال إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء. سيؤدي تراجع المحور الجزائري-السوري-الإيراني إلى تغيير موازين القوى في المنطقة، مما سيتيح للدول العربية فرصة لإعادة ترتيب أولوياتها الجيوسياسية. هذا قد يشمل تعزيز الأمن القومي العربي، ومواجهة التهديدات الإيرانية خاصة فيما يتعلق بالمطالب الترابية لدول مثل الإمارات العربية المتحدة. إلى جانب ذلك، يبقى مصير الوجود الروسي في سوريا أمرا قد يعرف تطورات وإذا ما ذهبت بعض التقارير الإعلامية الواردة من دمشق فإن قواعدها العسكرية أصبح وجودها على المحك خاصة تلك الموجودة في اللاذقية. وبالتالي فسقوط نظام الأسد ستكون له تداعيات على مجموعة من المعادلات الجيواستراتيجية المرتبطة بشرق المتوسط، خصوصا أن قاعدة طرطوس تبقى في العقيدة العسكرية الروسية ذات أهمية في توازن القوى مع الحلف الشمال الأطلسي.
تكمن أهمية الشرق الأوسط في كونه محورا استراتيجيا يجمع بين موارد الطاقة الغنية والموقع الجغرافي الحيوي، مما يجعله ركيزة أساسية للمصالح الجيوسياسية لكل من روسيا والقوى الغربية. ومن هذا المنطلق، تلعب القواعد العسكرية الروسية في سوريا، وخاصة في طرطوس وحميميم، دورا محوريا في ضمان وصول موسكو الدائم إلى البحر الأبيض المتوسط؛ ما يعزز قدرتها على توسيع نفوذها خارج حدودها. بالإضافة إلى ذلك، تساهم هذه المواقع الاستراتيجية في تأمين المصالح الروسية في قطاع الطاقة، خاصة في ظل تقلبات أسواق الهيدروكربونات، التي تمثل شريانا حيويا لاقتصادها. علاوة على ذلك، توظف هذه القواعد كأداة لتعزيز الاستقرار الإقليمي، مما يرسخ دور روسيا كفاعل رئيسي في إدارة التوازنات الجيوسياسية في المنطقة. للتذكير، تعد قاعدة طرطوس البحرية من أبرز رموز النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط، إذ تحتل موقعا حيويا ضمن الاستراتيجية العسكرية الروسية. فهي المنفذ الوحيد لروسيا على البحر الأبيض المتوسط، مما يجعلها ركيزة أساسية لتمكين موسكو من تحقيق طموحاتها الجيوسياسية. في العقيدة العسكرية الروسية، لا تقتصر أهمية طرطوس على كونها قاعدة لوجستية أو ميناء بحريا، بل تعتبر نقطة انطلاق رئيسية لتعزيز النفوذ الروسي في المياه الدافئة، ومراقبة التحركات العسكرية للناتو في المنطقة إلى جانب تعزيز الاستقرار على حدودها الجنوبية، وهو أمر حيوي لأمنها القومي.
بالإضافة إلى ذلك، توفر القاعدة لروسيا قدرة دائمة على التدخل السريع في أزمات شرق المتوسط، سواء كان ذلك لدعم حلفائها أو لموازنة التحركات الغربية في المنطقة. وبالتالي، فإن أي تغيير في معادلة السلطة في سوريا، بما في ذلك سقوط النظام، سيجبر موسكو على إعادة النظر في استراتيجيتها للحفاظ على هذه القاعدة. يمكن أن تواجه روسيا تحديات تتعلق بشرعية وجودها العسكري في طرطوس، خاصة إذا بدأت حكومة انتقالية أو جديدة في سوريا تتبنى سياسات أكثر قربا من الغرب.
في هذا السياق، يمثل وجود قاعدة طرطوس في العقيدة الروسية نقطة ضغط استراتيجية على الناتو، مما يفسر إصرار موسكو على الاحتفاظ بهذه القاعدة بأي ثمن. سقوط الأسد قد يضعف قدرة روسيا على استغلال طرطوس كورقة ضغط في المفاوضات الدولية، مما سيعيد تشكيل التوازنات الإقليمية بين القوى الكبرى.
في هذا السياق، تعد منطقة شرق المتوسط مسرحا تقليديا لتنافس جيوسياسي بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث تتشابك المصالح الاستراتيجية والاقتصادية في مشهد معقد. ومع سقوط نظام بشار الأسد، قد يجد حلف الناتو فرصة سانحة لتعزيز نفوذه في المنطقة. يمكن تحقيق ذلك من خلال تعزيز الشراكات الاستراتيجية مع الدول المحيطة أو عبر دعم مبادرات اقتصادية وجيوسياسية بارزة، مثل مشروع خط أنابيب الغاز الذي يربط بين قطر وتركيا. هذا المشروع يحمل في طياته إمكانية إعادة تشكيل ديناميكيات الطاقة في أوروبا، مما قد يسهم في تقليل الاعتماد على الغاز الروسي والجزائري، وهما موردان أساسيان للطاقة في القارة.
وفي هذا الإطار، تجد الجزائر، الحليف التقليدي لنظام الأسد، نفسها أمام مفترق طرق حساس. الخيار الأول يتمثل في الاصطفاف مع القوى العربية التي تسعى إلى صياغة توازنات جديدة تعزز الأمن القومي العربي، خصوصا في مواجهة التهديدات الناتجة عن التوسع الإيراني الذي يعتبر عاملا رئيسيا لعدم الاستقرار في المنطقة. أما الخيار الثاني، فهو الاستمرار في اتباع سياسات عدائية تجاه الدول العربية، مع التمسك باستراتيجيات تهدف إلى تفكيك الوحدة العربية وإضعاف المحور العربي.
هذه المرحلة الحرجة تفرض على جميع الأطراف الإقليمية إعادة النظر في استراتيجياتها، حيث أصبحت منطقة شرق المتوسط بوصلة التغيرات الجيوسياسية التي ستحدد ملامح المستقبل الأمني والاقتصادي في الشرق الأوسط وأوروبا على حد سواء.
وبالتالي، يمثل سقوط نظام الأسد لحظة تحول كبرى، حيث سيتغير ميزان القوى الإقليمي والدولي بشكل جذري. بالنسبة للدول العربية، تعد هذه اللحظة فرصة تاريخية لإعادة صياغة مواقفها وتعزيز دورها في تشكيل المستقبل الجيوسياسي للمنطقة. من خلال وضع خارطة طريق جديدة، يمكن لهذه الدول المساهمة في تحقيق الاستقرار الإقليمي بما يتماشى مع تطلعات الشعوب العربية ومصالحها الوطنية، مما يعزز سيادتها ويعيد رسم حدود النفوذ في منطقة شرق المتوسط وما وراءها.
إن سقوط نظام الأسد لا يمثل مجرد حدث سياسي، بل هو بداية لحقبة جديدة من التحولات الجيوسياسية تعيد تشكيل موازين القوى في الشرق الأوسط. وفي هذا السياق، يظهر تعنت الجزائر وسعيها إلى الانحياز إلى إيران رغبة مستمرة في خلق الفوضى الإقليمية وشبه الإقليمية، بدلا من العمل على تحقيق الاستقرار؛ غير أن هذه الاستراتيجية، التي تقوم على التحالفات المؤقتة وزعزعة الأمن الإقليمي، لن تصمد أمام تغيرات الواقع الجيوسياسي الجديد، الذي ستحدد ملامحه الدول القادرة على بناء شراكات متوازنة تعزز السيادة الوطنية وتخدم تطلعات شعوب المنطقة نحو السلام والتنمية.
مثل سقوط نظام بشار الأسد نقطة تحول جوهرية قد تعيد رسم موازين القوى على المستويين الإقليمي والدولي، إذ كانت سوريا تشغل موقعا استراتيجيا محوريا في سياسات كل من إيران وروسيا. بالنسبة لإيران، كانت سوريا جزءا لا يتجزأ من استراتيجيتها الإقليمية، كونها حلقة رئيسية في “الهلال الشيعي” وممرا حيويا لنقل الأسلحة إلى جماعات مثل حزب الله، مما عزز نفوذ طهران الإقليمي وخلق تهديدا مستمرا لأمن إسرائيل. أما بالنسبة لروسيا، فقد مثلت سوريا قاعدة استراتيجية مهمة، حيث مكنتها قواعدها العسكرية في طرطوس وحميميم من الوصول الدائم إلى البحر الأبيض المتوسط، مما عزز وجودها العسكري في الشرق الأوسط وأسهم في حماية مصالحها الجيوسياسية وتوسيع نفوذها الدولي.
في هذا الصدد، إذا كان سقوط السريع للنظام السوري شكل صدمة كبيرة، خاصة بالنسبة للاستخبارات الأمريكية، التي لم تتوقع هذا الانهيار المفاجئ لإحدى الركائز الأساسية للنفوذ الإيراني والروسي في المنطقة. هذا التحول السريع أثار تساؤلات جدية حول قدرة الفصائل المتمردة على إدارة سوريا بعد الإطاحة بالنظام. رغم سعي بعض الجماعات، مثل هيئة تحرير الشام، لبناء نظام حكم بديل، فإنها تواجه تحديات كبيرة في إنشاء مؤسسات فعالة قادرة على تحقيق الاستقرار.
مع انهيار النظام، تواجه الولايات المتحدة والمجتمع الدولي اختبارا صعبا في إدارة الفراغ السياسي والأمني في سوريا. المخاوف تتركز حول احتمال تحول سوريا إلى دولة فاشلة أو ملاذ للجماعات الإرهابية، على غرار ما حدث في ليبيا بعد سقوط القذافي. على الصعيد الداخلي، تبقى الديناميكيات الطائفية والعرقية عاملا حاسما في تشكيل مستقبل سوريا. تحقيق المصالحة الوطنية وتعزيز دور المجتمع المدني سيكونان أساسيين لضمان وحدة النسيج المجتمعي ومنع انزلاق البلاد نحو مزيد من الانقسامات.
ليس مستبعدا أن تبقى الولايات المتحدة رغم انهيار نظام الأسد متوجسة من استمرار النفوذ الروسي والإيراني في سوريا، حيث تمثل القاعدة البحرية الروسية في طرطوس نقطة ارتكاز استراتيجية لموسكو، تتيح لها تعظيم قوتها البحرية وتأمين نفوذها في منطقة البحر الأبيض المتوسط. في سياق التوترات العالمية المتصاعدة بسبب الحرب في أوكرانيا، اكتسبت طرطوس أهمية مضاعفة كأداة روسية لتعويض الضغوط الغربية في الساحة الأوروبية وتوسيع دائرة التأثير الجيوسياسي.
مع احتمالية تولي إدارة جديدة بقيادة دونالد ترامب، قد تشهد السياسة الأمريكية إعادة ترتيب أولوياتها الاستراتيجية، من خلال تبني نهج أكثر صرامة لتقويض النفوذ الروسي والإيراني في الشرق الأوسط. هذه المقاربة قد ترتكز على استغلال هشاشة النظام الروسي الناجمة عن استنزافه في أوكرانيا، والعمل على كبح قدراته التوسعية في المناطق الحيوية كجزء من استراتيجية شاملة لإعادة تشكيل النظام الدولي.
في ظل هذا التداخل بين ساحات النفوذ المتشابكة، تتحول السيطرة الروسية على طرطوس إلى اختبار حاسم لإعادة توزيع موازين القوى في المنطقة. فهذه القاعدة ليست مجرد منشأة عسكرية، بل هي ورقة ضغط استراتيجية تمنح موسكو القدرة على المناورة أمام واشنطن وحلفائها، مما يجعل مستقبلها محوريا في رسم مسارات التنافس الجيوسياسي الجديد.
بالنسبة لإيران، فإن سقوط النظام السوري يمثل ضربة قوية لنفوذها الإقليمي، حيث فقدت أحد أهم شركائها في المنطقة. مع تراجع علاقاتها مع أطراف رئيسية مثل حماس وحزب الله، ستواجه إيران ضغوطا متزايدة قد تدفعها إلى اتخاذ قرارات حاسمة، مثل الانخراط في مفاوضات جديدة مع الولايات المتحدة أو تسريع برنامجها النووي كوسيلة لتعزيز موقفها.
من جانب آخر، يشكل المشهد الجديد فرصة للفاعلين الإقليميين والدوليين. تركيا ستسعى إلى توظيف التحولات لتعزيز نفوذها في شمال سوريا وضمان أمنها القومي؛ بينما إسرائيل قد تركز على تحجيم النفوذ الإيراني بشكل أكبر، مستغلة الدعم الأمريكي المتزايد في مواجهة التغيرات الجيوسياسية. أما الاتحاد الأوروبي، فيمكنه استغلال دوره في إعادة الإعمار لتعزيز الاستقرار ومنع تحول سوريا إلى دولة فاشلة، مستخدما المساعدات الاقتصادية كأداة ضغط لتحقيق الإصلاحات السياسية.
رغم التباين الذي طبع مواقف دول الخليج تجاه الأزمة السورية في السنوات الماضية، فإن هذه الدول تدرك اليوم أن إعادة بناء سوريا واستقرارها يمثلان أولوية استراتيجية لضمان أمن المنطقة وحماية مصالحها. هذا الإدراك ينبع من الأثر المباشر لاستقرار سوريا على أمن الخليج، خاصة من حيث تقليص النفوذ الإيراني والحد من المخاطر الأمنية التي قد تنشأ نتيجة استمرار حالة الفوضى.
في هذا السياق، من المنتظر أن نشهد تنسيقا خليجيا أكثر تكاملا لدعم الجهود الاقتصادية والسياسية في مرحلة إعادة الإعمار. ومع ذلك، من المرجح أن يكون هذا الدعم مشروطا بتوجهات استراتيجية واضحة تهدف إلى تحجيم التأثير الإيراني وضمان عودة سوريا إلى الإطار العربي، بما يحقق توازنا بعيدا عن المحاور الإقليمية المتصارعة.
على المستوى الإقليمي، يمكن لدول الخليج أن تضطلع بدور محوري في رعاية جهود المصالحة السورية، عبر التوسط بين مختلف الأطراف؛ ما يساهم في تعزيز الاستقرار الداخلي. كما أن مساهماتها في مشاريع إعادة الإعمار، سواء من خلال الدعم المالي أو الاستثمار في البنية التحتية، ستتيح لها إعادة تشكيل البيئة السياسية لسوريا بما يعيدها إلى الحاضنة العربية وفق رؤية تحقق الاستقرار والتنمية.
في هذا السياق، يبقى المغرب شريكا استراتيجيا يمكنه أن يساهم بفعالية في دعم هذه الجهود. خبرته في الوساطة الإقليمية وحل النزاعات، إلى جانب مكانته كدولة داعمة للاستقرار العربي، تؤهله للعب دور في تقريب وجهات النظر وضمان تحقيق توازن يخدم المصالح المشتركة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمغرب تقديم نموذج فاعل في دعم التنمية وبناء مؤسسات الدولة، بما يكرس رؤية عربية مشتركة لسوريا جديدة.
إن نجاح دول الخليج، بدعم من شركاء عرب مثل المغرب، في لعب دور حاسم في إعادة بناء سوريا، سيعزز نفوذها الإقليمي والدولي، ويعيد صياغة علاقاتها مع القوى الكبرى بما يخدم استقرار المنطقة ويرسخ مصالحها الاستراتيجية. في ظل هذه التحولات، يمثل سقوط الأسد فرصة لإعادة صياغة التوازن الإقليمي وبناء نظام جديد يعزز الاستقرار. بالنسبة للولايات المتحدة والإدارة الدولية، يمكن أن يكون هذا التحول بداية لإعادة إعمار سوريا وإطلاق مبادرات سياسية واقتصادية تحقق الاستقرار والتنمية. ومع ذلك، فإن هذه الفرصة تأتي مصحوبة بمخاطر كبيرة؛ إذ إن أي تقاعس في اتخاذ قرارات حاسمة قد يؤدي إلى موجة جديدة من الفوضى تهدد أمن المنطقة بأكملها. في الأشهر المقبلة، ستحدد القرارات الدولية بشأن سوريا ما إذا كانت البلاد ستتجه نحو مسار الاستقرار والتنمية، أو ستغرق في فوضى جديدة تؤدي إلى تفاقم الأزمات الإقليمية. الإدارة الفعالة لهذه المرحلة تتطلب توازنا دقيقا بين التعامل مع الفراغ السياسي وتأمين المصالح الإقليمية والدولية، لضمان مستقبل أكثر استقرارا لمنطقة الشرق الأوسط.