الاحتجاجات الشبابية في المغرب.. - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

أزمة تمثيلية في ظل ديمقراطية تشاركية معطّلة

حين كُتب دستور 2011، بدا وكأنه يفتح نافذة نحو مغرب جديد، مغرب يتجاوز الصيغة الكلاسيكية للديمقراطية التمثيلية، ويتبنى نموذجًا أكثر انفتاحًا على مشاركة المواطن في تدبير الشأن العام. لم يكن الأمر مجرد تنقيح شكلي للنصوص، بل محاولة لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، من خلال ما سُمي بـ”الديمقراطية التشاركية”، كآلية لإشراك الأفراد – وخصوصًا فئة الشباب – في صياغة القرار العمومي.

نص الدستور على أدوات واضحة تتيح للمواطنين لعب أدوار مباشرة: العرائض، والملتمسات، والهيئات الاستشارية المحلية، ومجلس الشباب والعمل الجمعوي. كل هذه الآليات جاءت لتقول إن المواطن ليس فقط ناخبًا في موسم انتخابي عابر، بل هو فاعل دائم في صناعة السياسات. غير أن هذه الوعود، بعد أكثر من عقد من الزمن، ظلت في معظمها حبرًا على ورق، أو مشاريع مؤجلة لم تدخل حيّز الفعل.

الديمقراطية التشاركية التي وعد بها النص الدستوري، لم تتحول إلى ممارسة مؤسساتية راسخة. لم تُفعَّل أدواتها بشكل منهجي، ولم تُواكب بثقافة سياسية تستوعب منطقها المختلف. بقيت رهينة مقاربات تقنية، تُختزل أحيانًا في وثائق إدارية أو إجراءات شكلية، بدل أن تكون مشروعًا سياسيًا حقيقيًا يعيد الاعتبار للمواطن باعتباره شريكًا لا مجرد متلقي للقرار.

لنأخذ على سبيل المثال العرائض والملتمسات، وهما آليتان أساسيتان في بنية المشاركة التشاركية. فرغم صدور القوانين المؤطرة لهما، إلا أن شروط التقديم تظل معقدة، والمساطر الإدارية المرتبطة بهما مرهقة وغير محفزة. بل إن عددا من المبادرات التي حاولت تفعيل هذه الآليات واجهت صعوبات في الوصول إلى مراحل متقدمة من التفاعل المؤسساتي، ما أفرغها من مضمونها وأفقد المواطنين الثقة في جدواها.

أما على المستوى الترابي، فقد تم التنصيص على هيئات التشاور داخل المجالس المنتخبة، كجسور بين المنتخبين والمجتمع المدني، إلا أن تفعيلها ظل جزئيا، وغالبا ما تم التعامل معها كآلية استيفاء للشكل، لا كمساحة حقيقية للنقاش والتأثير. عوض أن تكون فضاءً لإشراك الشباب والمجتمع المدني في التفكير العمومي المحلي، تحولت في كثير من الأحيان إلى منصات صورية، تفتقر إلى الاستقلالية والفعالية.

وتتجلى أكبر المفارقات في مصير مجلس الشباب والعمل الجمعوي، الذي نص عليه الفصل 33 من الدستور كمؤسسة تمثيلية واستشارية تعكس تطلعات الشباب وتشارك في بلورة السياسات العمومية المرتبطة به. بعد أكثر من عشر سنوات، لم يُفعّل المجلس، ولم تحدد هياكله، ولم يُطرح للنقاش العمومي الجاد، مما جعله رمزًا لفشل تنزيل أحد أهم مقتضيات الديمقراطية التشاركية، وأحد أبرز عناوين الأزمة التمثيلية التي تعيشها فئة الشباب.

في ظل هذا الواقع، يصبح من المفهوم أن يتجه الشباب نحو مساحات تعبير بديلة، خارج الأطر الرسمية. الاحتجاجات في الشارع، المبادرات الرقمية، الحملات المدنية عبر المنصات، كلها مظاهر لحيوية شبابية تبحث عن صوت، وتطالب بموقع داخل الخريطة السياسية والاجتماعية. ليس في الأمر خروج عن القانون أو رفض للمؤسسات، بل تعبير عن فراغ مؤسساتي لم يتم ملؤه بالقنوات التي وعد بها النص الدستوري.

الأحزاب السياسية، التي كان يُفترض أن تؤطر هذه الطاقات وتفتح أمامها آفاق المشاركة، لم تنجح في تجديد آلياتها ولا في مواكبة تحولات المجتمع. ظلت في كثير من الحالات رهينة ممارسات تقليدية، وإيقاعات بطيئة، وخطابات لا تلامس قضايا الجيل الجديد. أما الجمعيات، فعلى أهميتها، لم تستطع أن تعوض غياب المؤسسات الدستورية، ولا أن تؤدي دور الوساطة بشكل فعّال في غياب الدعم والاعتراف الوظيفي بها.

ما يحدث اليوم هو أن الديمقراطية التشاركية، بدل أن تكون بديلًا يعيد الثقة في العمل السياسي، تحولت إلى مشروع معلّق، بل إلى عنوان إضافي لأزمة الثقة. فحين يُطلب من الشباب أن يشارك، ثم لا يجد الأدوات، وحين يُحث على الانخراط، ثم لا يُستمع إلى صوته، تصبح الدعوة إلى المشاركة شكلية، ويصبح الانسحاب أو التعبير خارج المؤسسات نتيجة منطقية لا تمردًا غير مبرر.

لكن رغم هذا السياق المحبط، لا تزال الفرصة قائمة. فالمجتمع المغربي، بكل مكوناته، أثبت في أكثر من مناسبة أنه قادر على التفاعل الإيجابي حين تُفتح أمامه قنوات واضحة وذات مصداقية. المطلوب اليوم ليس فقط تفعيل النصوص، بل إعادة بناء ثقافة سياسية جديدة، تُؤمن بأن المواطن شريك لا تابع، وأن الديمقراطية لا تكتمل بالانتخابات وحدها، بل بالتشاركية اليومية في اتخاذ القرار.

إنّ تأهيل الديمقراطية التشاركية في المغرب يمرّ عبر مسارين متوازيين: الأول مؤسساتي، يقتضي الإسراع في تفعيل الآليات الدستورية المعطلة، وتبسيط شروط الولوج إليها، ومنحها صلاحيات حقيقية. والثاني ثقافي، يقوم على بناء الثقة مع المواطن، وتشجيعه على المبادرة، وإشراكه في كل مراحل صناعة القرار، لا في لحظة التشاور فقط.

إن الشباب المغربي لا يرفض المؤسسات، بل يبحث عن مؤسسة يجد نفسه فيها. لا يخاصم السياسة، بل يطالب بسياسة تفهم لغته، وتفتح أمامه آفاق الفعل والتأثير. وإن لم يتحقق ذلك عبر القنوات الرسمية، فإنه سيعيد ابتكار أدواته، وسيعيد كتابة شروط مشاركته، بطريقته الخاصة.

في النهاية، لا يُقاس نجاح الديمقراطيات بوفرة النصوص، بل بقدرة تلك النصوص على التحول إلى ممارسة حية، تشعر فيها كل فئة – وأولها الشباب – بأنها ليست فقط معنيّة بالسياسات، بل مساهمة في صناعتها، ومسؤولة عن نتائجها.

-باحث في القانون الدستوري والعلوم السياسية

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق