في سياقات الانتظار والترقب قد تأتي بعض الأجوبة صادمة وغير متوقعة، لكنها قد تكون أجوبة بالغة الكثافة تحتاج إلى تجاوز توترات الذات المنتظرِة من أجل ضمان ما يكفي من الثبات ومن التركيز لتأمين الفهم السليم والاستيعاب القويم والاستبطان الفعال. والأسئلة هي أيضا، قد تبدو لمن يُنتجها أو لمن يدعمها سياقية وسديدة ومبتكرة وحاسمة، لكنها مع قليل من التمحيص والتدقيق يظهر أنها مجرد أسئلة سطحية بسيطة لا يمكنها أن تنتج أجوبة حقيقية واستراتيجية ومركبة، بل وحتى تكتيكية مرحلية. ومن ثمة، فالأجوبة المركبة في السياقات المركبة هي ابنة الأسئلة الاستراتيجية المركبة. تنبثق من صلبها، ومن صنفها، لذا علينا ألا ننتظر الأجوبة المناسبة، في السياقات غير المناسبة، عن الأسئلة غير المناسبة.
الاحتجاج الشبابي وأسئلته:
المناسبة شرط كما يقال. مع نهاية شهر شتنبر المنصرم، شهر البدايات، شهر الدخول المدرسي والاجتماعي والسياسي…، انطلقت من الفضاء الرقمي الافتراضي دعوات للاحتجاج في الفضاء العمومي. هي احتجاجات شبابية جيلية في دعوتها، مطلبية في صيغتها، عامة في استهدافها. وحظيت بدعم وازن من شرائح اجتماعية متنوعة، ومن نخب ثقافية وسياسية وحقوقية ومدنية متنوعة الخلفيات والمرجعيات. هذه الدعوة الشبابية فتحت أبواب النقاش العمومي الذي ظل مغلقا قرابة عقد من الزمن. أتت محملة بأسئلة تكتيكية تتطلب أجوبة تكتيكية في فعاليتها، متدرجة في مطلبها ومجالها. فكان من المفروض أن يكون المعني بالتفكير فيها وتحليلها واقتراح أجوبة ملائمة عنها، هو السلطة التنفيذية باعتبارها المسؤولة الأولى عن الأجوبة التكتيكية المتعلقة بتدبير السياسات العمومية القطاعية الواقعة ضمن اختصاصها. أما الخطب الملكية فهي معنية بالأسئلة الاستراتيجية والأجوبة الاستراتيجية. وتلك هي واحدة من مقومات دولة المؤسسات، التي تنضبط للمرجعية الدستورية، وإلى الاختصاصات المكفولة بقوة هذه المرجعية وبقوة القانون.
الخطاب الملكي أمام نواب الأمة
هذه الاحتجاجات الشبابية دفع صوتُها الصارخ وأسئلتها الشارعَ، في جزء منه، إلى دخول حالة انتظار وترقب، انتظار في قلق ورهان باد للعيان، وسمعه وبصره على خطاب جلالة الملك أمام نواب الأمة من داخل قبة البرلمان يوم افتتاح السنة التشريعية الحالية التي صادف يوم 10أكتوبر الجاري، ليتلقى أجوبة شافية عن هذه الأسئلة أو لبعض منها على الأقل، بل إن البعض، من جيل الشباب وأجيال أخرى وحتى من نخب متنافرة الانتماءات المرجعية، أخذته حماسته الافتراضية على وسائل الاتصال والتواصل لينتظر أجوبة إجرائية آنية حاسمة، حتى لو كانت تقوض التراكم المؤسساتي وتتجاوز الاختصاصات وتفتح أبواب الارتباك في الفضاء العمومي.
يدفعنا هذا المعطى إلى القول، بأن الخطاب الملكي لا يحتاج في كثير من الأحيان إلى السمع والبصر فحسب، وإنما يحتاج إلى البصيرة البيانية والبلاغية والوعي السياسي وتراكم الخبرة في تحليل الخطابات حتى درجة التمكن، للكشف عما يوجد خلف العبارات الكثيفة الظاهرة من رسائل ومضمرات. فالخطاب الملكي لا يُكتب بلغة اليومي وإنما باللغة البليغة الكثيفة المعاني.
جلالة الملك في هذا الخطاب، خطاب افتتاح السنة التشريعية، حتى وهو يخاطب نواب الأمة بالتخصيص، كان حريصا على اعتماد الحوار البيداغوجي في معالجة القضايا ذات الراهنية، وفي استهدافه الجهات المعنية، كل بحسب وظيفته ودوره. توجه إلى الحكومة من أجل تسريع وتيرة الإنجاز لتنفيذ البرامج الحكومية وتفعيل المبادئ والتوجيهات التي تضمنتها الخطب الملكية السابقة وعلى رأسها خطاب العرش لسنة 2025. كما توجه إليها بضرورة العناية بالتواصل وبالإعلام للتعريف بالإنجازات؛ وتوجه إلى نواب الأمة من أجل القيام بأدوارهم الدستورية والتمثيلية في التشريع وفي مراقبة أداء الحكومة وفي تقييم السياسات العمومية وفي التواصل مع المواطنين والمساهمة في تأطيرهم؛ وتوجه إلى الفاعلين السياسيين وتنظيماتهم الحزبية للقيام بأدوارهم التنظيمية والتأطيرية وتحمل مسؤوليتهم في هذا الشأن؛ وكذلك توجه ضمنيا إلى باقي الفاعلين والشباب مؤكدا على أن المغرب بلد المؤسسات، وأن هذه المؤسسات تحتاج إلى طاقات جديدة. وهذا يعني دعوة ضمنية للانخراط في الفعل التنظيمي المؤسساتي بما يجعل هؤلاء الفاعلين والشباب طاقة خلاقة ومبدعة ومغذية للفعل السياسي والترافعي المؤسساتي، والطريق إلى ذلك هو التواصل والتعبئة من خلال نقاش عمومي ناضج ومسؤول وحوار مجتمعي فعال داعم للاختيار الديموقراطي ودولة المؤسسات.
المتتبع لخطب جلالة الملك يجدها، في الغالب، تقوم على ثنائية السؤال والجواب، بما يتطلبه السياق من إظهار أو إضمار، ومن تصريح أو تضمين. إنها تطرح أسئلة صريحة أو ضمنية لتشخيص الوضعيات، وغالبا ما تكون أسئلة استنكارية غايتها التنبيه والاحاطة والتوجيه بل والتذكير أحيانا. وهي نفسها تقدم الأجوبة الاستراتيجية الملائمة بناء على رؤيتها، وبناء على ما توفر من معطيات قد تضطر أحيانا إلى الإفصاح عن بعض منها في حدود الضرورة البيداغوجية لتوجيه الفهم والحد من مساحات التأويل. والخلاصة هي أن الخطب الملكية لا تأتي دائما بما يكون متوقعا بمقياس التكتيك، وإنما تأتي في إطار سيرورتها التوجيهية الاستراتيجية بمقياس الزمن الإصلاحي الممتد.
طيب، لنطرح هذه الأسئلة على سبيل التحفيز وخلق الدافعية ودعم الثقة والاطمئنان اللازم: ماذا لو أن الخطاب الملكي من داخل قبة البرلمان قدم أجوبة في حدود الأسئلة التي انبثقت من قلب الاحتجاجات الشبابية وعلى هامشها من طرف فئات سياسية متنافرة الانتماءات الإيديولوجية. إذا سلمنا مبدئيا بأنها أسئلة مطلبية اجتماعية. فكانت هذه الأجوبة بمثابة مواجهة مباشرة بين المؤسسة الملكية ونواب الأمة الذين هم من ضمنوا للحكومة شرعيتها المؤسساتية، وصادقوا وفق الشرعية الدستورية على تصريحها الحكومي، ودعموا اختياراتها التنفيذية والتشريعية عبر الآليات الدستورية نفسها؟ فما طبيعة الأسئلة التي كانت ستنبثق عن هذه الأجوبة ذاتها؟ وما الأبواب التي كانت هذه الأسئلة والأجوبة ستفتحانها معا في وجه الدولة والمجتمع؟ وما التكلفة التي ستدفعها الدولة والمجتمع على حد سواء؟ أكانت هذه الأجوبة ستفتح الأبواب الملائمة لمعالجة قضايا الهشاشة والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد والريع وقضايا الحريات التي طالها التحكم والقمع وما إلى ذلك من القضايا، أم أنها كانت ستضع الدولة والمجتمع معا في وضعية ضعف الثقة في المؤسسات ومواجهة سؤال جديد يخص إعادة بناء هذه المؤسسات في ضوء خصوصيات المرحلة؟ ومن المستفيد من الارتباك المؤسساتي الذي كان من الممكن أن تحدثه هذه الأجوبة؟ ومن زاوية أخرى، ماذا سيكون مصير شرارة النقاش العمومي الذي انبثقت من قلب الاحتجاجات الشبابية، حتى لو كان قد شارك فيه المعنيون به وغير المعنيين وحتى بعض المتطفلين على الحياة السياسية والداخلية الوطنية من خارج البلاد؟ هل كان المجتمع سيقدم استقالته ويعود إلى التقوقع في منطقة راحته ويفوض للدولة من جديد أن تقوم بإعادة بناء المؤسسات بنفس الأدوات وبنفس الأسئلة وبنفس الأجوبة، بل وربما بنفس التركيبة الحزبية وبنفس الوجوه؟ وكأن المجتمع، ومن صلبه هؤلاء الشباب تقتصر مهمته على الاحتجاج والتنبيه وعلى الدولة القيام بما تستلزمه ديمومة المؤسسات واستقرارها، حتى لو كان الأمر مجردة إعادة تدوير وإعادة إنتاج.
مخرجات الخطاب الملكي:
أعتقد أن مخرجات الخطاب الملكي خمسة مسارات للتفكير في أسئلة مناسبة للسياق التاريخي الراهن والاستحقاقات التي ينتظرها الوطن، من أجل أجوبة ملائمة وذات مصداقية تبقي النقاش العمومي مفتوحا من جهة، وتنبه إلى أهمية الإعلام والاتصال والتواصل والتعبئة للتعريف بالمنجزات وتحصين المكتسبات ولحماية الشأن الداخلي الوطني من جهة ثانية، وتساعد بمفاتيح إجرائية لإنجاز المهام بما يلزم من وعي وطني ومسؤولية من جهة ثالثة:
مسار أول للعمل المؤسساتي هو من اختصاص الحكومة وتضمن توجيها صريحا يضمر تشخيصا دقيقا للوضعية الراهنة ويدعوها إلى تسريع وتيرة الإنجاز وخاصة في تفعيل البرامج المتعلقة بمأسسة العدالة في بعدها الاجتماعي والمجالي. وقدم الكيفيات والمداخل حتى لا يبقى مفهوم الدولة الاجتماعية مجرد شعار تسويقي فارغ من محتواه. كما أكد على أن الأداء الحكومي هو معيار التقييم المؤسساتي للسياسات العمومية في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة. وأن الصلاحية الدستورية تضمن للحكومة هذا الحق، كما تضمن نفس الصلاحية للمجتمع حق تقييم الأداء والمحاسبة من خلال صناديق الاقتراع. وتلك هي معايير ومحددات العملية الديموقراطية وطبيعة دولة المؤسسات في ضوء المرجعية الدستورية المغربية.
مسار ثان للعمل البرلماني وهو من اختصاص نواب الأمة وتضمن توجيها صريحا يدعوهم من خلاله جلالته إلى القيام بأدوارهم كاملة في التشريع، وفي مراقبة أداء الحكومة، وفي الاقتراح والترافع من أجل قضايا الوطن، وفي تقييم السياسات العمومية، وفي الانفتاح والتواصل مع المواطنين بما يجعل هذه المؤسسة البرلمانية مؤسسة وظيفية منتجة وفعالة.
مسار ثالث للعمل المؤسساتي المجتمعي هو من اختصاص التنظيمات الوسيطة ويتضمن توجيها صريحا مفاده التنبيه إلى الأدوار التي أناطتها المرجعية الدستورية بهذه التنظيمات الوسيطة في تنظيم وتأطير المواطنين، بالإضافة إلى أدوارها في التمثيل الذي هو سند الفعل الحزبي المؤسساتي، وسند الفعل المدني الترافعي. مع التركيز على منظومة الحقوق والحريات وفق نفس المرجعية الدستورية في عمليتي التنظيم والتأطير، بحيث أن كل تنظيم أو تأطير يتجاوز المؤسسات، ويتجاوز هذه المعايير في الحقوق والحريات، يضع نفسه خارج معايير دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع كما حددتها المرجعية الدستورية. وأنه لا عمل سياسي وترافعي خارج نطاق المؤسسات وخارج نطاق أحكام الدستور سواء أتعلق الأمر بالحقوق والحريات أو تعلق بالواجبات والمسؤوليات.
مسار رابع يتضمن توجيها لمختلف الفعاليات بما في ذلك الفعاليات الشبابية إلى توسيع دائرة النقاش العمومي لتنمية الوعي والتعبئة وابتكار الأسئلة الملائمة للسياق الراهن وابتكار الأجوبة المفيدة والدقيقة والأدوات الملائمة لتفعيل هذه الأجوبة. على أن يتم تأطير هذا النقاش العمومي ضمن دائرة المؤسسات. وتكون هذه الأسئلة خاضعة للمعايير الدستورية. وتكون هذه الأجوبة مساهمة في الانتقال من الشرعية التاريخية والدستورية والمؤسساتية للأمة إلى ترسيخ الشرعية الاجتماعية. وهذه الشرعية الاجتماعية تنبثق من آليات الأداء المعتمدة، والإنجاز المتحقق في موضوع العدالة الاجتماعية والمجالية، كرهان وطني مرحلي، وهو سند السؤال، وسند التقييم، وسند المساءلة داخل دائرة الفعل الديموقراطي.
مسار خامس يتضمن توجيها للربط بين التنظيم والتأطير والاتصال والتواصل والتعبئة عبر آليات الإعلام بمختلف مكوناتها من جهة، وبين منظومة الحقوق والحريات ومعايير تأمين النقاش العمومي وتحصينه وضمان صلاحيته وتأطير حدوده بما يتلاءم والشرعية الدستورية والمؤسساتية من جهة ثانية. لأنه لا يمكن أن يكون مفيدا أي نقاش يتجاوز هذه الشرعية مهما كانت خصوصيته وطبيعته وخلفياته الإيديولوجية. وفي ذات الوقت، فإن السياق الحالي، بخصوصياته الوطنية والدولية وإكراهاته وتحدياته ورهاناته، وكذا مستجداته وخاصة منها المتعلقة بالثورة الرقمية والبياناتية الهائلة وهيمنة الخوارزميات الموجهة، هو سياق منفتح على مختلف فرضيات الارتقاء بالتنظيمات الوسيطة القائمة، كما هو منفتح على فرضيات تجديدها أو حتى تفكيكها أو إعادة بنائها بأشكال وصيغ جديدة تضمن الحصول على تنظيمات عصرية أكثر فعالية وأكثر استجابة لحاجات الشباب وأكثر استقطابا للكفاءات المتشبعة بروح المواطنة والمسؤولية والانتماء، وكذا النخب المحلية وذوي الخبرة والتجربة. تلك هي التنظيمات التي يحتاج البلد في المرحلة المقبلة. تنظيمات تسهم من موقعها في تنمية العمليات التأطيرية شكلا ومضمونا. وتسهم كذلك في تنمية الوعي الممكن الفردي والجماعي. بالإضافة إلى مساهمتها، تبعا لكل ذلك، في تطوير العملية الانتخابية ذاتها كآلية أساسية من آليات دمقرطة مؤسسات الدولة وخاصة السلطتين التنفيذية والتشريعية، وفي تطوير آليات الرقابة المجتمعية على أداء هاتين السلطتين والتطوير النوعي للترافع المدني المواكب والمكثف والمتواصل.
البناء الديموقراطي بناء تراكمي مشترك:
على هذا الأساس فإن التفكير الاستراتيجي العميق في الوضع الراهن في ضوء مخرجات الخطاب الملكي، بمناسبة افتتاح السنة التشريعية، يدفعنا إلى القول، بأن الوطن ليس في حاجة إلى أجوبة تتجاوز دولة المؤسسات القائمة وتفتح بابا لاستهلاك الجهد والطاقة في إعادة التجربة بنفس المقومات، وفي ظل نفس المحددات، وبنفس الأدوات التقليدية والمتقادمة، بل والمأزومة حتى. إن الوطن في حاجة اليوم إلى طرح الأسئلة الاستراتيجية من خلال نقاش عمومي موسع من أجل تفكيك الواقع والوضعيات والممارسات وإعادة بنائها، عن طريق بناء الأجوبة العملية، وبناء الوسائط التنظيمية من أحزاب ونقابات وجمعيات، من أجل ترسيخ المؤسسات القائمة في نسختها الأكثر تطورا، والأكثر فعالية، والأكثر نضجا، بما يضمن الاستقرار والاستمرارية والازدهار والرفاه المجتمعي. فلا تنمية اجتماعية حقيقية وفعالة ومستدامة خارج تراكم المكتسبات واستبطان الشرعية التاريخية والدستورية للمؤسسات.
إن الديموقراطية تمرين للدولة والمجتمع معا، تمرين متواصل للتطوير في ضوء المستجدات الوطنية والدولية، في ظل التحولات المجتمعية وتطور حركية التفاعل الكمي بين البنى الاجتماعية. كما أن ترسيخ الاختيار الديموقراطي، كثابت من الثوابت الوطنية الجامعة، ليس اختصاصا من اختصاصات الدولة فحسب، وإنما هو اختصاص مشترك بين الدولة والمجتمع. والطريق إلى ذلك هو دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع. بما يعني، من جهة أولى، دمقرطة مؤسسات الدولة عبر آليات الحكامة ومقوماتها ومن بينها الشفافية والنزاهة والمصداقية والإشراك وتكافؤ الفرص وربط المسؤولية بالمحاسبة. كما يعني، من جهة ثانية، دمقرطة مؤسسات المجتمع عبر آليات التنظيم والتأطير الحزبي والنقابي والمدني. إن الدولة لا يمكنها أن تبني الديموقراطية في ظل مجتمع آلياته التنظيمية هشة وضعيفة المردودية. إن المجتمع بقوته التنظيمية الحزبية والنقابية والمدنية، وبقوته الترافعية، وبقوته الرقابية، هو الذي يجعل الدولة تلتزم بحدودها وبصلاحيتها. هو الذي يحمي مؤسسات الدولة، ذاتها، من هيمنة القوى الموازية واللوبيات وتكتلات المال والمصالح المدعومة داخليا وخارجيا من الرأسمالية العالمية والليبرالية الجديدة وأباطرة السوق وتجار الأزمات والاحتجاجات. في مقابل ذلك، فإن معادلة جدل البنى الاجتماعية في المجتمع لا تقوم على الصراع، كما يذهب البعض إلى ذلك، وإنما تقوم على التفاعل تحت لواء الوطن للجميع. ولا يصير التفاعل صراعا يستبطن الاستبعاد الممنهج إلا عندما تغيب أو تضعف المؤسسات وتغيب الديموقراطية كآلية من آليات تدبير الاختلاف والتفاعل والتفاوض والتعاقد والالتزامات الوطنية الاستراتيجية. ومن شروط هذا التفاعل التاريخي أنه يستند إلى ثلاثة عوامل هي: عامل الإمكان التاريخي، وعامل التراكم الكمي والنوعي وسيرورات الفعل العام، ثم عامل الخلفية المشتركة الحاضنة لهدا الفعل العام والتي هي النموذج الديمقراطي المعتمد باعتباره كائنا حيا ناميا ونسقا مركبا من المبادئ والقيم والمعايير والآليات والسلوكيات. وعلى هذا الأساس، فإن الفعل السياسي يجب أن يتم وفق هذه الشروط، وأن يحتكم إلى المرجعية الدستورية للمملكة المغربية. ما يعني أن كل فعل سياسي خارج هذه الضوابط هو فعل جانح اقصائي واستئصالي أو حتى نكوصي لا يؤمن بالديموقراطية كاختيار وكثابت من ثوابت الأمة الجامعة، وإنما قد تكون الديموقراطية في استراتيجياته مجرد أداة تكتيكية للاستحواذ والالتفاف على الديموقراطية ذاتها بأقل تكلفة.
الخلاصات المفيدة:
إن الأمة المغربية أقامت ثوابتها الجامعة استنادا إلى الشرعية التاريخية والمشروعية المجتمعية ثم أسندتها بالشرعية الدستورية. وفي إطار هذه الشرعية أقامت مؤسساتها الضامنة لاستمراريتها، والراعية لتطورها ورقيها ونضجها. جاحد من ينكر ما حققته بلادنا من مكتسبات على هذا المستوى، وفي نفس الوقت لا يمكن إخفاء الشمس بالغربال، لأن ترسيخ هذه المؤسسات كلف المجتمع وخاصة طبقاته الاجتماعية الوسطى والدنيا ثمنا باهظا دفعت فاتورته من كرامتها، مما أحدث ارتباكا قويا في الشرعية الاجتماعية. بل أدى التأخر في بناء هذه الشرعية الاجتماعية ومأسستها وترسيخها إلى اختلال كبير داخل المجتمع على مستوى توازن البنى الاجتماعية والطبقات، كان من نتائجه التوسع الصارخ في الفوارق، بسبب استحواذ نخب على مصادر الثروة وبسبب سوء توزيعها، وبسبب ضعف مؤشرات النمو والتنمية البشرية. مما اضطرت معه الدولة إلى السماح للحكومات المتعاقبة باعتماد إجراءات تدبيرية واجتماعية قاسية، كانت لها انعكاسات سلبية على القدرة الشرائية وعلى مستوى العيش الكريم. كما سمحت لهذه الحكومات بخصخصة القطاع العام وخاصة المؤسسات الاستثمارية ذات البعد الاستراتيجي وانتهت كذلك بالسماح لها حتى ببيع الأصول في القطاعات الحيوية في إطار ما سمي بالاستثمارات المبتكرة في قطاعات اجتماعية مهيكلة من أجل الحفاظ على التوازنات الماكرو اقتصادية.
بناء على ما سبق نجمل الخلاصة في اثنتين:
الأولى: مفادها أن الاحتجاجات الشبابية، في ظل الوضعية الراهنة، طرحت ثلاثة أسئلة عميقة واستراتيجية: سؤال أول يخص الشرعية الاجتماعية للمؤسسات لاستكمال بناء دولة المؤسسات إلى جانب ما تم تحقيقه على مستوى الشرعية التاريخية والدستورية لهذه المؤسسات، وخاصة على مستوى مؤسسة الحكومة وعلى مستوى مؤسسات الحكامة، وذاك هو موضوع التحول المنتظر في الوظيفة والفعالية والأثر. ثم سؤال ثان يخص الانتقال النوعي من منظومة السلطة في بعدها التقليدي إلى منظور جديد لتدبير السلطة يقوم على الشراكة والتشاركية في ظل سلطة المؤسسات والفصل الحقيقي للسلط، بما يحقق الارتقاء في سلم المساواة والعدالة بمفهومها الواسع، وذاك هو مضمون التحول في مضمون المواطنة وحقوق المواطن. ثم سؤال ثالث يخص الشرعية التنظيمية والتأطيرية والتمثيلية للتنظيمات المجتمعية الوسيطة وعلى رأسها التنظيمات الحزبية والنقابية والمدنية عموما، وهذا هو موضوع التحول في آليات التنظيم وتأطير المجتمع.
الثانية: مفادها أن الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح هذه السنة التشريعية، في ظل سياقه الراهن ومرجعيته الدستورية والمؤسساتية طرح في المقابل خمسة مسارات متكاملة تتضمن أسئلة تشخيصية صريحة وضمنية كما تضمنت أجوبة استراتيجية مرفقة بمداخل ومفاتيح تفعيلها، وجميعها تستلزم الفعل الإجرائي والأداء المسؤول والصادق. وعلى الجميع أن يتحمل مسؤوليته.
وهكذا يكون الاحتجاج الشبابي عبر عن حيوية المجتمع المغربي ودرجة وعيه بقضاياه المصيرية وأعاد الحياة للنقاش العمومي استعدادا للمرحلة المقبلة وفي صلبها الاستحقاقات الانتخابية، في حين جاء الخطاب الملكي ليعبر عن تجاوبه الصريح والضمني في إطار الصلاحيات الدستورية للمؤسسة الملكية ووظيفتها الرعائية والتحكيمية بما اقتضته طبيعة الأجوبة عن الأسئلة الاستراتيجية المطروحة بحكمة ورزانة مؤسساتية وعمق استراتيجي وكثافة خطابية. فخير الكلام ما قل ودل. لذلك أحكم جلالة الملك خطابه السامي والتاريخي بقوله تعالى: “من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”. وصيغة الفعل في ” يعمل” تستبطن الامتداد في الزمن في الاتجاهين المتقابلين، فهي مفتوحة على الماضي والحاضر والمستقبل. وتتضمن في حالتنا الراهنة تذكيرا، وتنبيها، وإشارة، وقيمة، وإعلانا، وقرارا، لمن غفل أو نسي أو تجاهل أو تهاون أو تحايل. مما يجعل الأمل في مغرب صاعد يستجيب لتطلعات الأمة دولة ومجتمعا أمرا ممكنا، وقابلا للتحقق إن تظافرت الجهود وتكثفت حول حلم وطني مشترك ينبثق، مؤسساتيا وتراكميا وتعاقديا، عبر مسارين متكاملين ومتفاعلين: مسار دمقرطة الدولة ومسار دمقرطة المجتمع.
0 تعليق