في شوارع القاهرة والإسكندرية والمدن الكبرى، يقف "البيه البواب" شاهدًا حيًا على نوع خاص من الاقتصاد الشعبي غير المرئي، لكنه متجذر وعميق .. هذا الاقتصاد، وإن بدا في ظاهره فرديًا أو محدودًا، فإنه يعكس شبكة اجتماعية واقتصادية متكاملة، قائمة على الثقة والتبادل والخدمات اليومية.
اقتصاد "البواب" لا يقتصر على راتب شهري يتقاضاه من سكان العمارة التي يقف على بوابتها، بل يمتد إلى ما يمكن تسميته "اقتصاد الظل".
فالبواب هو الوسيط الذي ينظم دخول وخروج العمال، ويتولى مهام الصيانة البسيطة، ويشرف أحيانًا على إيجار الشقق المفروشة أو بيع السيارات المستعملة.
وفي بعض الأحياء الشعبية، يتحول البواب إلى مرجع أو دليل للسكان في تسهيل الخدمات أو ترتيب المعاملات، مما يضعه في قلب دورة اقتصادية كاملة تتجاوز دوره التقليدي.
وعلى سبيل المثال، في عمارات وسط البلد، كثيرًا ما يتولى البواب إدارة مواقف السيارات، وهو نشاط يدر عوائد يومية قد تفوق راتبه الأساسي، وفي مناطق أخرى، مثل مصر الجديدة أو المهندسين، نجد أن للبواب دورًا في تسويق الشقق أو حتى التوسط في عقود الإيجار، مقابل نسبة أو عمولة، وكل هذه الأنشطة تمثل "اقتصادًا غير رسميًا" يسهم بشكل غير مباشر في دورة الدخل والاستهلاك داخل المجتمع.
اقتصاد "البيه البواب" يكشف جانبًا مهمًا من الاقتصاد المصري: كيف يمكن للقطاعات غير الرسمية أن تتحول إلى مصادر رزق بديلة، وكيف يعاد تدوير المال والخدمات بعيدًا عن القنوات الرسمية ولكنه في الوقت نفسه يطرح سؤالًا جوهريًا: كيف يمكن دمج هذه الأنشطة في الاقتصاد الكلي بطريقة تضمن الحقوق والواجبات وتمنع الهدر أو الاستغلال؟
ولم يكن "اقتصاد البواب" مجرد واقع اجتماعي، بل انعكاسًا فنيًا في السينما المصرية، حيث جسّد الفنان الراحل أحمد زكي في فيلمه الشهير البيه البواب (1987) ملامح هذه الظاهرة بكل تفاصيلها وفي أدائه، لم يكن البواب مجرد حارس للعقار، بل رجل اقتصاد شعبي يمارس دوره كحلقة وصل بين عالم السكان الراقي والطبقات الشعبية وبهذا المعنى، قدّم أحمد زكي صورة مكثفة عن الاقتصاد غير الرسمي، حيث يتحول الهامش إلى مركز قادر على فرض قواعده الخاصة.
وأبرز ما ميّز تجسيد أحمد زكي هو إظهاره كيف أن الطموح الاقتصادي – حتى من موقع اجتماعي بسيط – قادر على إعادة رسم خريطة العلاقات داخل المدينة، فالبواب في الفيلم لم يكتفِ بدوره التقليدي، بل صعد اجتماعيًا واقتصاديًا حتى نافس أصحاب العقارات أنفسهم وهذا التصوير السينمائي لا يعكس مجرد حكاية درامية، بل يقدم قراءة فنية دقيقة لواقع اقتصادي ظل قائمًا حتى اليوم.
وإن فهم "اقتصاد البواب" ليس مجرد رصد لحالة اجتماعية، بل هو مدخل لتحليل أوسع عن الاقتصاد الموازي في مصر، الذي يعيش ويتنفس خارج دفاتر البنوك والحسابات الرسمية، لكنه حاضر بقوة في حياة ملايين المصريين.
0 تعليق