بعد سنوات من التردد والارتباك الإداري، تعود الحكومة المصرية لتضع يدها من جديد على أحد أكثر الملفات تعقيدا في الاقتصاد الوطني الا وهو ملف أصول الدولة غير المستغلة، ذلك المخزون الصامت الذي ظل لعقود يمثل ثروة ضخمة بلا مردود، وعبئا إداريا بلا عائد، وسط جدل دائم بين من يرى البيع ضرورة إصلاحية، ومن يرى ضرورة الحفاظ على ممتلكات الشعب، وأن كل ما تحتاجه فقط إدارة حكيمة.
اليوم، يبدو أن الدولة قررت الخروج من هذا الجدل الدائر، وقررت الانتقال إلى مرحلة الفعل، إذ أعلنت وزارة المالية عن أولى الخطوات العملية من خلال طرح 6 قطع أراضي متميزة في القاهرة خلال الأسابيع المقبلة، في إطار خطة جديدة لفتح الباب أمام القطاع الخاص لاستغلالها في مشروعات استثمارية مبتكرة تدعم النشاط الاقتصادي وتعيد توجيه تلك الأصول نحو الإنتاج بدلا من الجمود.
من القاهرة إلى أسيوط.. خريطة جديدة لاستثمار الأصول
لا يتوقف الحراك الحكومي عند العاصمة، فالمشهد يمتد جنوبا إلى أسيوط، حيث تستعد الحكومة لإطلاق الحزمة الثانية من الفرص الاستثمارية في المدينة، متضمنة موقعا استراتيجيا على ضفاف النيل مباشرة، يراه خبراء الاستثمار فرصة نادرة لإقامة مشروعات سياحية مستدامة تخدم أهداف التنمية في الصعيد وتعيد رسم خريطته الاقتصادية، كما يشمل الطرح موقعا آخر في قلب المدينة يضم مبنى يمكن إعادة توظيفه استثماريا بما يعكس فلسفة الدولة الجديدة في إدارة الأصول.

الحكومة تحسم الجدل: “إدارة الأصول لا بيعها”
في خضم هذه التحركات، كان رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي حاسما في تصريحاته مؤخرا حينما قال : “لا نسعى إلى بيع الأصول، بل إلى إدارتها بشكل أفضل”، لكن خلف هذه العبارة تقبع فلسفة اقتصادية أكثر عمقا، تتعلق بتحقيق التوازن بين الحفاظ على ملكية الدولة وبين تحقيق عوائد مالية حقيقية.
فوفقًا لبرنامج الحكومة المقدم إلى البرلمان عام 2024، جرى وضع خطة لتأسيس لجنة تصفية الأصول تتبع وزارة المالية، تستهدف تحقيق من 20 إلى 25 مليار جنيه سنويا للخزانة العامة من عائدات إعادة التوظيف والتخارج، وهو ما يمثل، في جوهره، محاولة لتأسيس سوق حقيقي للأصول المملوكة للدولة.

هل تمتلك الدولة حصرا لأصولها غير المستغلة؟
لكن قبل أي طروحات أو لجان، يظل السؤال الجوهري قائما: هل تمتلك الدولة حتى الآن حصرا دقيقا لأصولها غير المستغلة؟.. فبحسب وثائق رسمية وتصريحات سابقة – لا تزال أصول الدولة غير المستغلة تمثل ثروة مجهولة.
فبعد تشكيل لجنة الحصر في عام 2015، تم الإعلان عام 2018 عن امتلاك الدولة لنحو 4250 أصلًا غير مستغل، إلا أن هذه البيانات فقدت دقتها تدريجيًا مع انتقال الوزارات والهيئات إلى العاصمة الإدارية الجديدة، وتفريغ عشرات المباني الحكومية في قلب القاهرة، ما غير خريطة الأصول تمامًا، وجعل تحديث الحصر ضرورة ملحة لأي برنامج إصلاحي جاد.
بين مطالب صندوق النقد وتردد داخلي
من منظور آخر، لا يمكن فصل التحرك الحكومي الحالي عن الضغوط الدولية، وخاصة من صندوق النقد الدولي، الذي يرى في برنامج إدارة وطرح الأصول الحكومية خطوة محورية في مسار تخارج الدولة من النشاط الاقتصادي المباشر.

فالمؤسسات الدولية تعتبر أن تحقيق عائد من بيع أو استثمار الأصول يمثل ضمانة لتحسين الوضع المالي للدولة وتقليل الاعتماد على الاقتراض، بينما يرى خبراء مصريون أن إعادة استغلال تلك الأصول يجب أن تكون ضمن رؤية إنتاجية واستراتيجية وطنية لا مجرد استجابة لشروط أو مراجعات.
ورغم أن الحكومة أعلنت أكثر من مرة نيتها التوسع في هذا الملف، إلا أن تعدد اللجان وتداخل الاختصاصات بين الوزارات المعنية – من المالية إلى التخطيط إلى الاستثمار – أدى إلى بطء واضح في التنفيذ، ما جعل البرنامج حتى الآن معلق بين التنفيذ والدراسة.
طروحات بأبعاد سياسية واقتصادية
توقيت الطرح الجديد لا يمكن قراءته بمعزل عن المشهد الدولي، فمع اقتراب موعد المراجعتين الخامسة والسادسة مع صندوق النقد الدولي، تأتي هذه الخطوات كإشارة ضمنية على جدية الدولة في المضي في مسار الإصلاح المالي والإداري، ومحاولة تعزيز الثقة في التزاماتها أمام المؤسسات الدولية.

وفي الوقت ذاته، تمثل هذه الطروحات اختبارا حقيقيا لمدى قدرة الحكومة على ترجمة الشعارات إلى نتائج ملموسة:
فهل سيتمكن هذا البرنامج من تحويل الأصول الجامدة إلى قوة إنتاجية مستدامة، أم سيظل حبيس الإجراءات واللجان كما كان طوال عقد مضى؟.. هذا ما ستكشف عنه الأيام القليلة المقبلة.
تتجه الحكومة المصرية بقوة خلال الفترة الأخيرة إلى استغلال الأصول غير المستغلة باعتبارها أحد المحاور الرئيسية لتعزيز النمو الاقتصادي، وزيادة موارد الدولة، وتقليل الاعتماد على الاقتراض.
وبعد سنوات طويلة من تجميد مئات الأصول العامة — من أراضٍ ومبانٍ ومصانع ومقار حكومية — بدأت الدولة خطة ممنهجة لتحويل هذه الأصول إلى أدوات إنتاج واستثمار تدر عائدًا مستدامًا على الاقتصاد.
وتعمل الحكومة من خلال صندوق مصر السيادي ووزارة التخطيط على حصر وتصنيف الأصول غير المستغلة في مختلف المحافظات، وتحديد أفضل سبل استثمارها سواء عبر البيع، أو إعادة التطوير، أو الشراكة مع القطاع الخاص.
ويُعد هذا التوجه خطوة أساسية ضمن خطة الإصلاح الهيكلي التي تهدف إلى تحسين كفاءة إدارة المال العام وتحقيق أقصى استفادة من موارد الدولة.
وتركز الخطة على تحويل الأصول غير المستغلة إلى مشروعات إنتاجية وخدمية تخلق فرص عمل، وتدعم النمو الإقليمي المتوازن وتشمل تلك الأصول مساحات ضخمة من الأراضي في مواقع مميزة يمكن استثمارها في مشروعات لوجستية، صناعية، وسكنية، إضافة إلى مبانٍ حكومية يمكن إعادة استخدامها كمناطق تكنولوجية أو مراكز خدمات استثمارية.
ووقعت الحكومة عددًا من اتفاقيات الشراكة مع مستثمرين محليين ودوليين لإعادة تطوير بعض الأصول، خصوصًا في القاهرة الكبرى والإسكندرية والعاصمة الإدارية الجديدة، كما أطلق صندوق مصر السيادي منصة إلكترونية لعرض الفرص الاستثمارية المتاحة في هذه الأصول، بما يعزز الشفافية ويجذب رؤوس الأموال الأجنبية.

وتسعى الدولة أيضًا إلى توظيف العائد من هذه الأصول في دعم الموازنة العامة وتمويل المشروعات القومية دون تحميل الخزانة أعباء إضافية، وتهدف الخطة إلى رفع مساهمة الأصول المستغلة في الناتج المحلي الإجمالي تدريجيًا خلال السنوات القادمة، بما يعزز الاستدامة المالية ويقلل الاعتماد على الديون.
ويرى الخبراء أن هذا التوجه يعكس تحولًا استراتيجيًا في إدارة موارد الدولة من الفكر التقليدي القائم على الحيازة إلى الفكر الاستثماري القائم على العائد. فبدلاً من ترك الأصول مهجورة أو محدودة الاستخدام، تعمل الحكومة على ضخها في الاقتصاد لتوليد قيمة مضافة حقيقية، وبذلك تمثل خطة استغلال الأصول غير المستغلة ركيزة رئيسية في بناء اقتصاد أكثر كفاءة وقدرة على مواجهة التحديات، ودعامة قوية لمسيرة التنمية المستدامة التي تستهدفها الدولة المصرية حتى عام 2030.
0 تعليق