يمثّل شحن السيارات الكهربائية التحدي الأبرز الذي يواجه الدول، خاصة في المدن الكبرى ذات الكثافات السكانية المرتفعة، إذ لا يكفي وجود سيارات كهربائية على الطرق ما لم تتوافر لها نقاط شحن ميسّرة وآمنة ومرتبطة بشبكة الكهرباء.
ومع سعي العديد من الحكومات -وعلى رأسها مصر- إلى خفض اعتمادها على النفط والغاز، يمثّل ملف "شحن المركبات الكهربائية" قضية إستراتيجية تتطلب تخطيطًا دقيقًا، يراعي الفوارق الجغرافية والاقتصادية والعدالة المجتمعية في التوزيع.
وفي هذا الإطار، أجرى فريق علمي من 3 دول عربية، دراسة بحثية جديدة -اطّلعت عليها منصة الطاقة المتخصصة (مقرّها واشنطن)- تطرح نموذجًا تخطيطيًا ذكيًا قابلًا للتطبيق يُمكّن المدن من تجاوز عقبة الشحن، ويضع القاهرة على خريطة المدن المستعدة للتحول في قطاع النقل.
وتحمل الدراسة عنوان "تحسين نشر محطات شحن السيارات الكهربائية في المدن الكبرى: دراسة حالة القاهرة باستخدام التحليل العنقودي وتحليل الأحمال"، ونُشرت في مجلة Energy Conversion and Management العلمية المرموقة بمجال الطاقة.
نماذج ذكية للتخطيط
قاد الفريق الذي أجرى الدراسة الباحث بمعهد بحوث الإلكترونيات بالقاهرة الدكتور محمد صابر التهامي، بالشراكة مع فريق علمي متعدد التخصصات من مصر والكويت والسعودية.
ونفّذ الدراسة فريق بحثي متميز، ضمّ: الأساتذة بكلّية تكنولوجيا التعليم بجامعة حلوان الدكتور حسام حجازي والدكتور محمد مصطفي والدكتور أمير صادق والباحث محمود توفيق، والأساتذة بجامعة الشرق الأوسط بالكويت الدكتور علي الرفاعي والدكتور فهمي السيد، والأستاذ المساعد بكلية الهندسة في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في السعودية الدكتور إعجاز أحمد.
ويجمع الفريق العلمي بين الخبرة الأكاديمية والتطبيقية؛ ما يمنح الدراسة بعدًا علميًا رصينًا، وقدرة على الربط بين الواقع المحلي والنماذج العالمية.
وأوضح أحد أفراد الفريق العلمي، الدكتور محمد مصطفى، في تصريحات خاصة إلى منصة الطاقة، أن هذه الدراسة تأتي في وقت يشهد فيه قطاع المركبات الكهربائية في مصر نموًا غير مسبوق، إذ قفز عدد السيارات الكهربائية المسجلة من 159 مركبة فقط في عام 2020 إلى أكثر من 12 ألف مركبة بحلول عام 2025.
وأضاف أن هذا التحول السريع يُلقي بظلاله على البنية التحتية لشحن السيارات الكهربائية، لا سيما في مدينة مثل القاهرة تعاني من ازدحام حضري وتفاوت عمراني واضح؛ ما استدعى عمل دراسة تتجاوز الحلول التقليدية إلى نماذج ذكية وعادلة في التخطيط.
نموذج علمي لشحن السيارات الكهربائية
تعتمد الدراسة على مزيج من تقنيات التحليل العنقودي (K-Means) وتحليل الأحمال الكهربائية لتحديد المواقع المثلى لمحطات شحن السيارات الكهربائية في المدينة، بما يراعي التوزيع العادل بين الأحياء المختلفة، ويقلل من الضغط على شبكة الكهرباء الوطنية.
كما طوّر الفريق البحثي مؤشرين جديدين لقياس عدالة وكفاءة توزيع البنية التحتية، وهما: مؤشر الكفاءة للكل مقياس (SPDI)، ومؤشر عبء السفر مقياس (STBI).
ويمثّل هذان المؤشران أدوات تحليل جديدة تسمح بفهم أعمق لفجوات الخدمة في مناطق محددة داخل القاهرة، مثل عين شمس ودار السلام، التي تعاني من نقص حادّ في محطات الشحن، رغم كثافتها السكانية العالية.
وأشار الدكتور محمد صابر التهامي -في تصريحات خاصة إلى منصة الطاقة المتخصصة- إلى أن الدراسة كشفت إمكان تخفيف الحمل على الشبكة القومية بنحو 25.4 ميغاواط خلال ساعات الذروة، باستعمال تقنيات الشحن العكسي (V2G)، وهي تقنيات تسمح للسيارة بأن تصبح "وحدة طاقة متنقلة"، تزوّد الشبكة بالكهرباء عند الحاجة.
وقال التهامي: "ما يميّز هذا البحث هو وضع العدالة الاجتماعية والتنوع التقني في صميم التخطيط"، مضيفًا أن “النموذج المقترح لا يحتاج إلى بنية تحتية ضخمة، بل يستغل الموارد الحالية بكفاءة عالية".
كما أكد أن النموذج قابل للتطبيق في مدن أخرى من الجنوب العالمي التي تشترك في التحديات نفسها من حيث الكثافة السكانية وتفاوت البنية التحتية.
نموذج قابل للتكرار
أوضح التهامي أن هذه الدراسة ليست مجرد مقترح علمي، بل هي بمثابة خريطة طريق إستراتيجية تُقدَّم لمتخذي القرار في مصر والدول النامية، حول كيفية بناء بنية تحتية مستدامة لشحن المركبات الكهربائية.
ويرى الفريق البحثي أن نجاح مصر في هذا المسار قد يجعلها نقطة ارتكاز إقليمية في مشهد التحول للطاقة النظيفة؛ وهو ما يعزز فرصها في تحقيق أهدافها الوطنية ضمن إطار رؤية مصر 2030، واتفاقية باريس للمناخ.

وتؤكد الدراسة أن التخطيط العلمي للبنية التحتية لشحن السيارات الكهربائية هو الخطوة الأولى نحو نقل حضري أكثر كفاءة ونظافة وعدالة، كما أنها دعوة لصنّاع القرار لتبنّي نموذج مصري خالص قابل للتصدير إلى المدن المشابهة حول العالم.
وأضاف التهامي قائلًا: "إنها ليست مجرد دراسة علمية منشورة في مجلة دولية مرموقة، بل رؤية متكاملة لبناء مستقبل أخضر يقوده العلم من قلب القاهرة".
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..
0 تعليق