كلمات وفــــــــــــاء - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
كان والدي، رحمه الله، يحتفظ بشريط كاسيت قديم يحمل تسجيلاً لندوة شعرية أهداها له الشاعر الكبير نزار قباني، الذي كانت تجمعه به صلة قرابة وصداقة عميقة. أُقيمت الندوة في المنامة مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وفيها يقول نزار بصوته الدافئ:

«يا أحبائي، أتذكر أنني منذ عشر سنوات قلت لكم إن بحرًا واحدًا من العشق يغرقني، فكيف أواجه عشق البحرين... وها أنا ذا أعود مرة أخرى لأنامَ... على ذراع المنامة». ارتبطت البحرين في صباي بهذه الجملة... وتساءلت كيف تكون البحرين.

ومضت الأعوام، فإذا بي ألتقي بالسفير خليل إبراهيم الذوادي، الذي كان يشغل آنذاك منصب سفير مملكة البحرين في القاهرة والخرطوم، ومندوبها الدائم لدى جامعة الدول العربية، وذلك في فبراير عام 2010، في نهاية العقد الأول من هذا القرن. كان اللقاء على متن طائرة تقلّ الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية، الأستاذ عمرو موسى، يرافقه جميع سفراء الدول العربية لدى الجامعة، في مهمة إلى السودان لافتتاح عدد من المشروعات الإنمائية في مدن دارفور التي أنهكتها الحرب.

في تلك الرحلة كنت أعمل مستشارًا في مكتب الأمين العام، وفيها تعرَّفت عن قرب على السفير الذوادي، بعدما كنت أتابع من قبل مداخلاته الهادئة والرصينة في اجتماعات مجلس الجامعة. وقد وجدته كما عرفه الجميع: دمث الخلق، لطيف المعشر، رقيق الكلمة، يجمع بين الكياسة والدبلوماسية في أبهى صورها.

بعد خمس سنوات من تلك الرحلة، في عام 2015 كنت أتولى إدارة التعاون العربي الأفريقي، سمِعت طرقًا خفيفًا على باب مكتبي، فإذا بالسفير خليل الذوادي يقف أمامي، بعد أن تم انتخابه أمينًا عامًا مساعدًا لجامعة الدول العربية. كانت زيارته التي شرفني بها في إطار التحضير لمهمة يترأسها نيابةً عن الدكتور نبيل العربي، رحمه الله، الأمين العام آنذاك، على رأس وفد مشترك من جمهورية السودان والأمانة العامة إلى عدد من الدول العربية لدعم الأوضاع الإنسانية في السودان الشقيق. ولظروف خارجة عن إرادتي، لم أتمكن من الالتحاق بتلك الزيارة، فاكتفيت بلقاء السفير الذوادي في مكتبي. تساءلت في نفسي، وأنا أراه يدخل عليَّ بكل هذا التواضع وهذه البشاشة، كيف يصنع الكبار نجاحهم بخطواتٍ بسيطة، وبحضورٍ إنسانيّ يسبق المناصب والألقاب. كان بإمكانه أن يطلب لقائي بمكتبه، وكنت سأفعل ذلك بكل محبة، لكنه اختار أن يطرق الباب بنفسه، ليقدّم درسًا صامتًا في فن القيادة، قبل أن ينطق بكلمة. جلست أنصت إليه مستمتعًا بأسلوبه الرفيع، العميق في مضمونه، الممزوج بلطفه المعهود وكياسة تعليقاته الذكية على التحضيرات والمطلوب منه.

في عام 2017، تشرفت بالعمل تحت رئاسته وإشرافه المباشر في القطاع الذي تولّى مسؤوليته آنذاك، قطاع الشؤون العربية والأمن القومي العربي، بينما كنت أتولى إدارة القرن الأفريقي والسودان. ومن هناك بدأت مرحلة جديدة من التعاون العملي بيننا، تجسدت أولى محطاتها في مقديشو، حينما توجّه السفير الذوادي ممثّلًا لمعالي السيد أحمد أبو الغيط أمين عام جامعة الدول العربية في زيارة رسمية إلى جمهورية الصومال، حاملًا رسالة إلى فخامة رئيس الصومال السابق بعد انتخابه، لأبدأ معه العمل في ملفات حساسة من قضايا منطقتنا العربية. وقد عاد السفير الذوادي ثانية في مايو 2024 إلى مقديشيو لينقل لفخامة رئيس الصومال الحالي رسالة هامة من السيد الأمين العام.

ولم تتوقف المهام الصعبة والحساسة التي كان لي شرف العمل معه فيها؛ فها هو الأمين العام يكلّفه برئاسة وفد الجامعة العربية إلى السودان في يونيو 2019، للقاء مختلف القيادات السودانية تمهيدًا لزيارة يقوم بها الأمين العام في الشهر ذاته. ثم يُعاد تكليفه لاحقًا بالتوقيع على الاتفاق الإطاري حول السودان في أغسطس 2019، قبل أن يواصل أداءه الدبلوماسي المتميّز برئاسة وفد الجامعة العربية في اجتماعات التعاون بين الجامعة والأمم المتحدة في يوليو من عام 2022 ثم في أغسطس من عام 2024، حيث مثّل الموقف العربي في ذروة العدوان الإسرائيلي على غزة، مستعرضًا قرارات القمة العربية في البحرين قبلها بثلاثة أشهر ومؤكدًا التزام الجامعة بثوابتها تجاه القضية الفلسطينية. وفي المنامة، فتحت أسرته البحرينية الكريمة الأصيلة بيتها لوفد الجامعة العربية بأكمله، فغمرتنا بحفاوةٍ أصيلةٍ وكرمٍ لا يُنسى.

 وخلال زيارة بعضنا إلى متحف البحرين الوطني، التي رافقنا فيها السفير أبو إبراهيم بنفسه، تذكّرت كلمات نزار قباني التي كان والدي يحتفظ بتسجيلها: ((إن بحرًا واحدًا من العشق يغرقني، فكيف أواجه عشق البحرين؟)) فابتسمت وقلت له إنني أدركت الآن تمامًا ما عناه نزار في قصيدته، بعد أن لمست حبّ البحرين ودفء أهلها. عندها ابتسم السفير الذوادي وقال لنا، في مفاجأةٍ سارةٍ أنه هو من أدار تلك الندوة الشعرية الكبرى في مطلع الثمانينيات، حينما ألقى نزار قباني كلمات المحبة تلك. ثم أخذ يسرد لنا ذكرياته عن تلك الأمسية، متحدثًا بشغفٍ عن تسابق جمهور البحرين المثقف يومها لحضور لقاء الشاعر العربي الكبير، متذكرًا أبيات شعر ألقيت في هذه الأمسية كأن الزمن قد عاد به إلى تلك الأيام التي ما زال صداها حيًّا في ذاكرته وذاكرة كثيرٍ من البحرينيين. واسترسل السفير خليل الذوادي في حديثه مستعيدًا محطاتٍ ثقافيةً بالغة الأهمية، عاشها مع نخبةٍ من المثقفين ورجال الفكر في عددٍ من العواصم العربية، بأسلوبٍ يعكس عمق تجربته وثراء ذاكرته.

ولم يلبث أن أشار، إلى هذه القمة العربية الناجحة في مقالٍ من مقالاته الودودة الجميلة، ذات المعان النبيلة التي تفيض بالإنسانية.

في الأسبوع الماضي، وبمناسبة انتهاء ولاية السفير خليل إبراهيم الذوادي، أقام السيد أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، حفلًا مهيبًا لتكريمه، حضره جمعٌ غفير من سفراء الدول العربية، وسفيرة مملكة البحرين السيدة فوزية بنت عبدالله زينل، إلى جانب لفيفٍ من قيادات الجامعة وموظفيها الذين تربط معظمهم بالسفير الذوادي علاقة محبةٍ وتقديرٍ صادقين.

جاء الحفل في أبهى صور الأناقة والرقي، حيث قدّم الأمين العام درع الجامعة العربية تكريمًا للسفير الذوادي؛ تقديرًا لإخلاصه وتفانيه في العمل، وأشاد فيه برقي أخلاقه، وعلوّ هامته، ومهنيّته الرفيعة، وانضباطه، وعشقه الصادق لوطنه وعروبته. كما ألقى قطاع الشؤون العربية والأمن القومي كلمةً موجزة أمام السيد الأمين العام والجمع الغفير، عبَّرت بصدقٍ ودفءٍ عن المحبة والاحترام لهذا الدبلوماسي والمثقف والإنسان الكبير، جاء فيها: «معالي السيد الأمين العام، أصحاب السعادة، الزملاء الكرام، نُعرب في البداية لمعاليكم، معالي الأمين العام، ولكافة المسؤولين عن التهنئة بمناسبة ذكرى انتصارات حرب أكتوبر الباسلة، التي تحل غدًا ذكراها الثانية والخمسين».

نلتقي اليوم لنُكرّم ونُحيّي دبلوماسيًّا كبيرًا ترك بصمةً أصيلة في بيت العرب، السيد السفير خليل إبراهيم الذوادي الأمين العام المساعد للشؤون العربية والأمن القومي.

لقد عملنا، يا معالي الأمين العام، مع سعادة السفير خليل إبراهيم الذوادي على مدى عشر سنوات، فرأيناه كيف يُتقن عمله بصمت وصدق، يُنزل الناسَ منازلهم، ويتعامل مع كل من حوله بتواضعٍ لا حدود له... وصفاءٍ نادرٍ، وتهذيبٍ رفيع، حتى أصبح العمل معه متعةً لا واجبًا.

خُلقٌ رفيع... وروحٌ طيبة... والتزامٌ مهنيٌّ كامل... ورُقيٌّ إنسانيٌّ يُقرّب ولا يُباعد.

كان حضورُه الدائم مصدرَ دعمٍ واطمئنانٍ للجميع.

والأثر الذي يتركه الدبلوماسيون أمثالُه لا يُفارق القلوب بل يطبع الشخصيات ويصقلها.

كما أن السفير خليل إبراهيم الذوادي مثقّفٌ كبير، له علاقةٌ عميقة بالكلمة نثرًا وشعرًا

وقد أحببنا في قطاع الشؤون العربية والأمن القومي أن نُهديه أمامكم معالي الأمين العام تذكارًا متواضعًا، فاتفقنا على أن نُنقِش عليه بيتين من الشعر لشاعرٍ يحبه كثيرًا، هو الشاعر زهير بن أبي سُلمى، يقول فيهما:

تراه إذا ما جئته متهلِّلًا 

كأنك تُعطيه الذي أنتَ سائلُه

ولو لم يكن في كفّه غيرُ نفسِه

لجاد بها، فليتقِ اللهَ سائلُه

وكما كان يُحب أن يختم مقالاته الرائعة التي تحمل نبرات التفاؤل بعبارته الودودة: «على الخير والمحبة نلتقي»، نقول له بدورنا اليوم: سعادة السفير: على الخير والمحبة سنلتقي على الدوام»

 

مدير إدارة القرن الأفريقي والسودان - جامعة الدول العربية

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق