بعد دخول فرنسا وبريطانيا إلى الشرق الأوسط غداة هزيمة دول المحور سنة 1918، ومنها الإمبراطورية العثمانية، تحول الشرق الأوسط إلى رقعة شطرنج، نرى فيها القطع تتحرك، لكن الأيادي خفية مجهولة. منذ وعد بلفور إلى انهيار نظام الأسد.
من أغرى صدام حسين بالهجوم على إيران سنة 1980؟ إنها هذه الأيادي الخفية التي لم تستسغ صعود قوتين جديدتين في الشرق الأوسط، وهما العراق وإيران، فتقرر تدميرهما معًا بضرب بعضهما ببعض، وتم تقليم الكثير من الأظافر وتهشيم أنياب العراقيين والإيرانيين.
من خلق الربيع العربي وجعله أداة لتدمير الدول العربية بغطاء ثوري تحرري؟ ومن خلق القاعدة لقلب الربيع إلى جهنم سوداء لا يزال جمرها مشتعلاً إلى اليوم؟
هذه الأيادي الخفية تستعين بعملائها العرب أصحاب المال والسلاح، وتعطيهم الأوامر متى ما كانت الحاجة إلى ذلك. كانت بريطانية في البداية، ثم صارت أمريكية، ثم إيرانية، ثم تركية وروسية، ولم لا إسرائيلية بعد هذا وذاك.
سقوط النظام السوري بدأ بطوفان الأقصى، الذي بدا هزيمة سوريالية لإسرائيل، لكنه في حقيقته نقمة في طيها نعمة: نعمة إضعاف إيران وقضم أذنابها من حماس إلى حزب الله إلى النظام السوري. وليس من المستبعد أن يكون كل ذلك مجرد مسرحية محبوكة تحت إشراف الأيادي الخفية المذكورة.
لماذا استعصت سوريا على تسونامي الربيع العربي منذ 2011، ثم فجأة انهار الجيش وهرب بشار، ودخلت بقايا القاعدة إلى دمشق في 12 يومًا؟ لا يمكن أن يحصل هذا إلا بعد معارك حقيقية ضارية. كيف يمكن لبشار أن يتخلى عن الحكم بهذه السرعة والسهولة؟ لا يمكن للمعارضة السورية المسلحة أن تنتصر فجأة دون إراقة الدماء أحيانًا.
من ضحك علينا حين أقنعنا أن الربيع العربي هو ثورة مباركة تخرج الناس من ظلام الاستبداد إلى نور الحرية والديمقراطية؟ ولم نصدق أننا كنا ضحية نصب سياسي وعسكري واسع حتى رأينا المستبدين يتناسلون أشرارًا أخطر من أشرار. ذهب بورقيبة، وكان أحسن من الذين جاؤوا بعده، وذهب مبارك فجاء الإخوان وبعدهم العسكر، وذهب القذافي وجاء الشتات، وذهب بشار، ويأتي بعده شتات أخطر وأوسع.
خريطة سوريا أكثر تعقيدًا من كل الخرائط: شيعة وأطياف سنة وأكراد ودروز ومسيحيون، وسلاح عند كل الأطياف والأطراف، وتعارض سياسي وديني بين هؤلاء وأولئك: أتباع الأتراك ضد الأكراد، والديمقراطيون المتنورون ضد الإخوان المسلمين وجبهة النصرة وجبهة فتح الشام وهيئة تحرير الشام والقاعدة، وأخلاط أخرى لا نتبين ملامحها الآن.
لنصل إلى الإجابة عن السؤال الذي طرحناه: لماذا استعصى النظام السوري على موجات الربيع العربي؟ السبب أن سوريا توجد في قلب المصالح الأجنبية المتعارضة فيما بينها: أمريكا وأوروبا، إيران التي تحمي الأقلية العلوية، تركيا التي تريد إبادة الأكراد، دول الخليج التي تدعم توجهًا مطابقًا لمصالحها، إسرائيل التي ترغب في فك الارتباط بين إيران وحزب الله، روسيا التي ترغب في البقاء في المنطقة ضدا على الغرب، وأياد خفية أخرى التاريخ كفيل بالكشف عنها.
ما نتمناه لسوريا بعد محنتها مع النظام الدموي لآل الأسد، هو ألا تستبدل نظامًا استبداديًا بنظام آخر أكثر استبدادًا. ولو نجح متطرفو سوريا في استنبات أفغانستان جديدة، فسنكون أمام تناوب شيطاني لا آخر له.