لا شك أن كلمة “المشور” ذات جذر اشتقاقي عربي من شاور يشاور مشاورة، ومنه الآية القرآنية الحكيمة “وشاورهم في الأمر” واصطلاحا فهو مجال ارتبط بالمخزن كجهاز حاكم بالمغرب الأقصى منذ عهد السعديين على الأقل وبوجه خاص فقد ارتبط بالسلطان، والحاشية والمقربين من دوائر القرار كالحاجب السلطاني والصدر الأعظم وصاحب التشريفات وصاحب الصلاة وصاحب المظلة علاوة على العديد من الخدام أو الخدم الذين ارتبطوا بالمشور.
يوجد هذا الفضاء في المدن السلطانية كفاس والرباط ومكناس ومراكش وتلمسان فهل مدينة تازة قد أخذت الصفة نفسها (السلطانية) ما دام يوجد بها حي يسمى المشور؟ سؤال يكتسي أهمية بالغة بالنسبة لخصوبة وغنى وتشعب تاريخ هذه المدينة التي طالما احتضنت بيعات السلاطين (خاصة خلال العهد المريني كبيعة السلطان أبي سعيد عثمان والبيعة الصغرى للسلطان أبي الحسن) وقد ارتبط الفضاء أيضا بالمولى الرشيد المؤسس الفعلي لدولة الأشراف العلويين، حيث مكث بتازة حوالي ثلاث سنوات إلى حدود 1666م، وهناك أمن من تحرشات أخيه مولاي امحمد (فتحا) وحظي بدعم زاوية عبد الله اللواتي وذلك إلى حين بسط سيطرته على فاس.
إلى جنوب المدرسة الحسنية المرينية على اليمين نحو دار المخزن وزنقة الأندلس يمكن مشاهدة ثلاث مصطبات يرجح أنها تعود إلى عصر المولى الرشيد، غير أن هذا الفضاء اكتسى أيضا صبغة مشور كامل في عهد فتنة الجيلالي الزرهوني الملقب بالروغي “بوحمارة” التي استمرت بين خريف 1902 وصيف 1909 منتحلا اسم وصفات الأمير مولاي امحمد الابن الأكبر للمولى الحسن (الأول) مدعيا أن أخاه المولى عبد العزيز وقع تحت سيطرة الأجانب بل تم تسفيره إلى إنجلترا، واستغل حادث الحرم الإدريسي حيث أعدم السلطان أحد المغاربة يقال له الشريف العلمي الذي اغتال مبشرا إنجليزيا بعد أعمال الاستفزاز التي أقدم عليها.
يضاف إلى ذلك أن الروغي أخذ على السلطان مولاي عبد العزيز تسليم مناطق توات وتدكيلت وكورارة لفرنسا وفقا لاتفاق باريس سنة 1901 والذي وقعه عن الجانب المغربي وزير البحر / الخارجية عبد الكريم بن سليمان، وكان داعي رفض الروغي لهذا الاتفاق تخلي السلطان عن الجهاد لطرد الأجانب والمسيحيين، والتصدي لتوسعهم في التراب الوطني ونفوذهم المتزايد، مشروع الروغي هذا يمكن وصفه بالمحافظ عموما لا سيما مع ما تواتر عن احترامه للمناسبات الإسلامية كرمضان وعيد الفطر وعيد الأضحى، مما عزز صيته بين قبائل الشرق والشمال الشرقي، يرفد كل هذا بعض مظاهر الشعوذة التي أضفت على الرجل هالة من الكرامات المزيفة يخلب بها العقول الساذجة البسيطة.
لا يستبعد أن ترتبط كلمة المشور المخزنية بهذه المرحلة أيضا نقصد ثورة الجيلالي الزرهوني، خاصة مع ادعائه بأنه المولى امحمد الابن البكر للحسن الأول متهما الحاجب باحماد باغتصاب العرش لصالح المولى عبد العزيز الأخ الأصغر لولي العهد الأصلي، ومن جهة أخرى فقد استغل الروغي جيدا نسبه الإدريسي (مع ما في الأمر من تخبط بحسبان ادعائه النسب العلوي الشريف أيضا باسم مولاي امحمد) ومن هنا يمكن تفسير بعض الدوافع التي جعلت غياثة خاصة يلتفون حوله باعتباره شريف المحتد، وقد شهد هذا المشور الكثير من محطات “حكم” الروغي هذا كالفصل في النزاعات وضبط الأمن، خاصة وأن ساكنة تازة عانت كثيرا قبل ذلك من التعديات والمداهمات المختلفة وانعدام الأمان، ومما يدل على حيوية هذا المكان الصورة التي تعود إلى بداية عصر الحماية بتازة لجنود فرنسيين يحيطون بمدفع من نوع كروب بالمشور كان في ملكية جيش الروغي وذلك في موضع السقاية المائية بالضبط.
بعد أول ظهور له بأحد أسواق قبائل الحياينة اتجه الروغي نحو تازة التي دخلها بعد مفاوضات وأخذ ورد وفرار عاملها عبد السلام ولد الشكرة وأعلن من هناك سلطانا للبلاد واتخذ دار الحجوي (عائلة وزير المعارف محمد بلحسن الحجوي) المقابلة للمسجد الأعظم مقرا مؤقتا له، في نهاية سنة 1902 ثم دار المخزن بمجاورة مع المشور، وناصرته قبيلة غياثة ثم البرانس والتسول وجزناية وصنهاجة وبدرجة أقل قبيلة مكناسة التي اتضح في ما بعد أنها موالية للمخزن الشرعي وعبر أراضيها استطاع وزير الحربية أو العلاف الكبير المهدي المنبهي الدخول إليها في07 يوليوز 1903 على رأس قوات مخزنية بعد معارك استمرت شهرين، حين كان الروغي في وجدة عاصمته الأخرى فعاث الجيش المخزني فسادا وإجراما في حق ساكنة تازة التي لا علاقة لها بهذه الأحداث المؤلمة، نُهب المشور والملاح كما هو الشأن بالنسبة إلى باقي أحياء المدينة وأزهقت أرواح عدد من المسلمين واليهود وعلق عبد الوهاب بن منصور على الواقعة قائلا: “حدثني بعض من حضر هذه الوقائع أن أهل تازة كانوا يرمون بناتهم في الآبار خوفا عليهن من شراسة العسكر” وفي ما بدا أنه دفاع عن شرف العائلات المعنية.
سرعان ما أعاد جيش الروغي السيطرة على تازة بعد حصار خانق محكم فرضه على القوات المخزنية بها، فرتب “مخزنه” مجددا كما شهد المشور نوعا من التجديد لمرافقه، ويذكر أن حاشية الروغي اعتمدت على أشخاص معظمهم من تلمسان أو الجزائر مع المهندس الفرنسي دولبريل، ويشير عدد من ساكنة تازة إلى أن المدرسة المرينية كانت هي دار الروغي، الشيء الذي يعد مجافيا للأحداث التاريخية، باعتبار أن هذه الدار (أطلق عليها دار المخزن ومازالت نفس التسمية موجودة لحد الآن رغم تحويرها إلى دوار المخزن) توجد في الحقيقة جنوب المشور وتدل على ذلك الصور المأخوذة لدخول الجيش الفرنسي وعثوره على العديد من مقتنيات الروغي كالدربوز ومدفع كروب السابق الذكر وكرسي يشبه العرش المخزني، وكان المشور ككل فضاء هذه الكشوفات الفرنسية.
ظل مشور تازة يحضن مرافق “السلطان” مولاي امحمد أي الجيلالي الزرهوني الروغي طيلة فترة تشغيبه وصراعه مع السلطان م عبد العزيز ثم م عبد الحفيظ أي ما بين 1902 و1909، مع تسجيل فترات ممتدة ترك فيها دار ملكه لأهداف سياسية واستراتيجية كمرحلة إقامته بوجدة باعتبارها مقرا آخر للملك ثم تواجده أخيرا بقصبة سلوان وفي تلك المنطقة تم القبض عليه صحبة مئات من أنصاره واقتياده إلى العاصمة فاس، حيث وقع التنكيل بالقوم في مشاهد فظيعة اهتزت لها الصحافة الأجنبية المتمركزة بطنجة العاصمة الديبلوماسية، والمهم هنا أن فترات إقامة الروغي بالمشور ومن ثمة بتازة كانت متقطعة ولم تسترسل تماما في أي وقت من الأوقات.
من المرافق الأساسية لمشور تازة المدرسة الحسنية المرينية التي تأسست سنة 724 هــ/ 1323م من طرف أبي الحسن المريني، يوم أن كان ولي عهد أبيه السلطان أبي سعيد عثمان، ضمن سلسلة المدارس التي أسسها المرينيون بكل من فاس وسلا ومكناس وتازة، كما أن هناك بوابة أثرية تتوسط المكان يرجح أنها تعود إلى العصر نفسه، وفي جهة اليسار توجد بناية فسيحة يذكر الأهالي أنها تمثل مارستان تازة خلال العصر المريني ثم تحولت إلى سجن احتضن زعماء الحركة الوطنية سنة 1930 ومنهم علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني إثر احتجاجات الظهير البربري، كما تحول جزء من نفس المدرسة المرينية إلى مؤسسة للبنات أواخر عهد الحماية، ويذكر من جهة أخرى أن الجهة الشرقية من المشور وبالضبط فوق دار الكولالي بني صهريج كبير منذ عهد المولى اسماعيل سمي بـ”بيت الجبوب”، وقد اختفى أثره في الوقت الحالي ولم تكن تخفى أهمية هذا الصهريج في أوقات الأزمات وأثناء فترات قطع المياه من طرف أحد فروع غياثة إلى الجنوب، حيث الأطلس المتوسط ومنبع واد تازة أو واد الهدار، فتتأذى المدينة كثيرا، إذ يضطر السكان إلى شراء الماء من غياثة أوقد يصل الطرفان إلى اتفاق يضمن حقوقهما ويحل السلام ومن ثمة يعاد الماء إلى المدينة، وهذا موضوع هام ومتشعب يتداخل فيه المجالي بالسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ولنا عودة إليه في مستقبل الأيام بحول الله.
عرف حي المشور أو زنقة سيدي علي الدرَّار (هكذا كتبت في تشوير الحي على عهد الحامية) أو العرَّار كما تم إثباتها في الاُسطرلاب المنسوب إليه، وهو فقيه وعالم من أصل أندلسي عاش بتازة خلال فترة المرينيين، قلت عرف هذا الحي تحولات سكانية وعمرانية هامة، حيث تم تعويض أغلب الدور العتيقة بأخرى من النمط التقليدي المتجدد “Néotraditionnel” خاصة منذ الأربعينات وحتى نهاية عقد الحماية، وقطنته أسر تازية ذات أصول تلمسانية أو فاسية أو فجيجية أو أندلسية أو متحدرة من قبائل المنطقة كعائلات أبي عبد الله وبلكاسم وبوحجار والجقي وشيبوب وبلغازي والكولالي والحلواط وحدو ولحازمي ومهدي وديدي وبلحسين وغيرهم.