في قصرٍ من قصور الغابة الدولية، حيث لا تدوم الصداقات إلا ما دامت المصالح، جلس الأسد الأطلسي على عرشه الواثق، يراقب المشهد بابتسامة من خبر التاريخ، بينما كان الفنك الصحراوي يقف هذه المرة دون أن يلتفت كثيرًا إلى الديك الفرنسي الذي كان في السابق همسه لا يُرد.
رفع الفنك ذيله بتوتر، وقال: “لقد قررت أن أعيد رسم الطريق… بطريقتي .. ولقد عقدتُ اتفاقًا مع اللقلق الأبيض .. وسنبني طريق الحرير الصحراوي!”
ضحكت البومة الحكيمة، وقالت في سخريةٍ باردة: “من يعتاد التبعية، يظن التمرد بطولة .. ومن يعتاد الإملاء، ينسى أن لكل صدى مصدرًا.”
أما الأسد الأطلسي، فرفع رأسه وقال بهدوءٍ يشبه حكمة الجبال: ” لا تُرسم الطرق بالأهواء… ومن سار وراء منقار الديك لن ينجو من الخدوش.”
ومنذ ذلك اليوم، انقسمت الغابة ليس بين مسارين فقط، بل بين ماضٍ من التبعية وحلمٍ مضطرب بالاستقلال. فالديك يصرخ كي يستعيد صوته، والفنك يقفز بحثًا عن ذاته، أما الأسد الحكيم فكان يمشي بخطاه المعتادة، غير مستعجل، واثقًا أن الريح لا تصنع الملوك.
الأسد الأطلسي .. دبلوماسية الحزم والاتزان
لم يكن الأسد الأطلسي من الذين يملؤون الغابة ضجيجًا، إنه من أولئك الذين يجعلون من الصمت سلاحًا، ومن الهدوء ضربًا من ضروب الهيبة. فحين وقّع اتفاقه التاريخي مع الدب الروسي، لم يحتفل بالكاميرات ولم يرفع الشعارات، بل قال لجنده بصرامة العارف بقواعد اللعبة: “لا تبنى التحالفات على الصراخ .. ولكن تبنى بالعقل والرزانة، والعالم يصغي إلى من يفعل، لا إلى من يصرخ.”
وجّه الأسد الأطلسي بوصلته شرقًا وغربًا في آنٍ واحد، ومدّ يده إلى القوى الكبرى بلغة المصالح المشتركة، وحافظ على خيطٍ دقيقٍ من التوازن بين المبادئ والمناورة، كما يحافظ على التوازن بين الزئير والسلام. فلم يكن في حاجةٍ إلى مظاهر البطولة، لأن البطولة عنده تقاس بعدد المشاريع المنجزة لا بعدد الخطب الملقاة.
كانت الغابة تراه مدرسةً في الواقعية السياسية .. يتحدث قليلاً ويفعل كثيرًا، ويراقب أكثر مما يتكلم، ويقيس الزمن بموازين استراتيجية لا انفعالية. وحين سأله أحدهم ذات يوم: “ما سرّ نجاحك؟” .. أجاب وهو يرمق الأفق بعينٍ لا تنام: “إني أعرف متى أزأر، ومتى أصمت، ومتى أترك الآخرين يظنون أنني نائم .. لأستيقظ في اللحظة التي تعنيهم ولا يتوقعونها.”
الفنك الصحراوي .. دبلوماسية الغيرة والمكيدة
في الجهة المقابلة من الشرق، كان الفنك الصحراوي يتقلّب على رمال السياسة الحارّة، يقفز من حدثٍ إلى حدث، ومن صورةٍ إلى اتفاقٍ وهمي. فحينما شهد الأسد الأطلسي يوقّع اتفاقًا مهمًّا مع الدب الروسي، أسرع الفنك إلى اللقلق الأبيض، يهمس له: “دعنا نتبادل شيئًا .. في زمن الحرب!”
رفع اللقلق ريشه المرهق وقال بانفعالٍ متأفف: “يا صديقي، أنا مشغول بإصلاح أعشاش على أنقاض الحرب، وحروبي مع الدب الروسي لم تنته بعد… فما الذي سنتبادله؟ الغبار؟”
لكن الفنك لم يصغِ، فقد كان منشغلًا بترتيب الكاميرات قبل توقيع الورقة، مؤمنًا بأن السياسة صورة قبل أن تكون فكرة. فهكذا صار الفنك دبلوماسيًا بالتقاط الصور، ملكًا للانفعال لا للحكمة، ومختصًا في ردود الفعل لا في صناعة القرار. فهو يغضب من الدب الروسي لأنه أحب الأسد الأطلسي وعقد معه اتفاقات، فيهرول إلى اللقلق الأبيض ويقول: “ها أنا أوقع معك! ” .. ويظنّ أنه بذلك يزعج الدب الروسي، في حين أن الغابة كلها تضحك على محاولاته.
في الإعلام الأصفر، تُعرض هذه التحركات على أنها “انتصارات رمزية”، لا وجود لها إلا في النشرات المصوّرة. وحين يسأله أحد صغار الغابة ببراءة: “ما جدوى هذا الاتفاق؟” .. يرد الفنك بثقةٍ عجيبة: “المهم أن أغيظ الأسد وأستفز الدب الروسي!”
منطق الغابة الدولية… حين يعلو الهدوء على الصراخ
اجتمع مجلس الأمم الغابية.. فحضر الدب الروسي والبومة الحكيمة، إلى جانب وفود من كل قارات الغابة البعيدة، كلٌ يراقب الآخر بعين السياسة قبل العين الطبيعية.
قال الدب الروسي، وهو يقيس الثقة بعيون الخبراء: “الأسد صادق في وعوده، حازم في تحالفاته، لا يكثر الكلام لكنه يعرف ما يفعل” صفّقت الحيوانات إعجابًا ببطولة الفعل والحكمة، أما الفنك الصحراوي فغضب، وصرخ: “وأنا أيضًا عقدت اتفاقًا مع اللقلق الأبيض!” .. ابتسم الدب بتؤدة وقال ساخرًا: “هل وقّعت اتفاقًا .. أم التقطت صورةً للذكرى؟”
سكت الفنك للحظة، ثم أضاف بتردد: “ما زال الاتفاق قيد الدراسة!” .. ضحك الجميع حتى كادت البومة الحكيمة تسقط من غصنها، فقد صار واضحًا أن الغيرة السياسية تستهلك أكثر مما تبني، وأن دبلوماسية الحكمة تسير كالنهر، بينما دبلوماسية الصراخ تتبخر كالماء الساخن في الصحراء.
حين تتحول المكائد إلى سياسة وطنية
في كل صباحٍ صحراوي، كان الفنك يجتمع مع حاشيته الصغيرة ليعلن عن “النصر الجديد”. فمرة يهدّد الريح، ومرة يرسل رسالة إلى اللقلق الأبيض بلا عنوان، كما لو أن التحرك الرمزي أهم من الفعل الواقعي.
أما حين يرى الأسد الأطلسي يفتتح مشروعًا جديدًا أو يوقّع اتفاقًا استراتيجيًا، فكان الفنك الصحراوي يردّ بمؤتمرٍ صحفي عاجل يعلن فيه: “هذا التحرك الانفعالي جاء ردًّا على التحرك الاستراتيجي!”
تعبت الغابة من متابعة هذه المسرحية اليومية الهزلية، حتى قالت البومة الحكيمة، بعين لا تغيب عن الحقيقة: “لقد صار الفنك يظنّ أن السياسة شتائم، والدبلوماسية مكابرة، وأن الغيرة الوطنية برنامج حكومي!” .. وهكذا استمرّ الفنك الصحراوي في مشهدٍ دائمٍ من المكايدة، يكسب فيه التصفيق المحلي ويخسر الاحترام الدولي، بينما كان الأسد الأطلسي يخطّط لمستقبلٍ منير، يرى الجميع أثره بعين الهدوء والفعل، لا بالضجيج والصور المصطنعة.
في نهاية الحكاية .. فاز الأسد بالعقل، وضلّ الفنك في رمال الصحراء
رفعت البومة الحكيمة رأسها إلى السماء ونظرت إلى الاثنين، وقالت بصوتٍ يمزج الحكمة بالسخرية: “أيها الأسد، لقد زأرت بالعقل، فسُمِع صوتك في القارات .. وأنت أيها الفنك، نبحت بالغضب، فلم يسمعك إلا صدى الرمال.”
فهمت الغابة الرسالة بلا لبس: من يزرع الحكمة يحصد الاحترام، ومن يزرع المكايدة يحصد العزلة. فقد فاز الأسد الأطلسي بواقعيته واتزانه، وخسر الفنك الصحراوي بصبيانيته واندفاعه .. ففي دبلوماسية الغابة، لا يخلد في التاريخ من صرخ كثيرًا، بل من فكر بهدوء وفعل بصمت. فالعقل الذي يزرع الاحترام، أقوى من الفم الذي يزرع العار.
0 تعليق