رفعت الحكومة إيقاع التحصيل الضريبي قبل أيام من نهاية السنة الجارية، وذلك تسريعا لخطوات جريئة كانت اتخذتها سابقا من أجل تعزيز الوضع المالي للمملكة، وتحسين موارد الميزانية العمومية، إذ جعلت تعبئة المداخيل الجبائية أولوية إستراتيجية، فيما سهلت الإصلاحات الضريبية الطموحة واختيارات الميزانية الاستعجالية هذه المهمة، وسمح تقليص دعم غاز البوتان، إلى جانب زيادة غير مسبوقة في العائدات الضريبية، بإنعاش خزينة الدولة وتوفير فائض مالي كبير.
وتركزت الإصلاحات الضريبية التي أقدمت عليها الحكومة في تحديث النظام الجبائي وزيادة نجاعة التحصيل؛ وذلك من خلال مجموعة من الإجراءات التي سمحت بتحقيق قفزة كبيرة في المداخيل الضريبية، إذ تمت تعبئة 27 مليار درهم إضافية مقارنة بالسنة الماضية، وهي الزيادة المدفوعة بمحركات رئيسية، همت الرفع من الضريبة على الشركات، التي شهدت نموا بلغ 12,3 مليار درهم، وكذلك الضريبة على الدخل، التي ارتفعت بمقدار 5,9 مليارات درهم. كما سجلت الضريبة على القيمة المضافة ارتفاعًا بمقدار 8,1 مليارات درهم، بفضل تحسن الاستهلاك المحلي والواردات.
واعتبر تقليص دعم “غاز البوتان” أحد القرارات الأكثر إثارة للجدل التي اتخذتها الحكومة، إذ مكن من توفير 3,3 مليارات درهم إضافية لخزينة الدولة. ورغم الإشادة التي لاقاها هذا الإجراء من بعض الأوساط، بسبب قدرته على تحرير الموارد المالية الحيوية، إلا أنه لم يخل من الجدل، إذ شكل التقليص الجزئي للدعم نقطة تحول في سياسة الدعم العمومية، التي طالما اعتبرت غير فعالة، خصوصا أن دراسة أظهرت وصول 14 في المائة فقط من الدعم إلى الأسر الأكثر فقرا، بينما استأثرت الطبقات المتوسطة والعليا بالحصة الأكبر منه.
فائض لتمويل الدولة الاجتماعية
يعد الفائض المالي الذي بلغ 30,3 مليار درهم نتيجة الإصلاحات الضريبية وتقليص دعم “غاز البوتان” أداة مالية هامة لتمويل المشاريع الاجتماعية الواردة في قانون المالية لسنة 2025، إذ ستتيح هذه الموارد الإضافية للحكومة الاستجابة لأولوياتها الاجتماعية، ومن بينها زيادات الأجور، التي تم منحها للأساتذة والعاملين في القطاع الصحي. وتعد هذه الإجراءات خطوة أولى نحو تحقيق التزامات الحكومة في تعزيز الدولة الاجتماعية، علما أنها تخطط لتخصيص ما يقارب 10 في المائة من الناتج الداخلي الخام لدخل الفئات الاجتماعية الهشة والطبقة الوسطى، بهدف تعزيز إعادة توزيع الثروات ودعم الفئات الأكثر تعرضا للمخاطر الاجتماعية والاقتصادية.
وأوضح محسن زريف، مستشار لدى مكتب للدراسات، خبير في القوانين الضريبية، في تصريح لهسبريس، أن “الفائض المالي الذي تم تحقيقه من قبل الخزينة يعد بمثابة مؤشر إيجابي على فعالية الإصلاحات الضريبية التي تم تطبيقها في المملكة، بالإضافة إلى الإجراءات المتعلقة بتقليص دعم غاز البوتان”، مؤكدا أن “هذا الفائض يعتبر من الأدوات المالية الحيوية التي ستمكن الحكومة من تمويل المشاريع والأوراش الاجتماعية الكبرى السنة المقبلة”، ومشيرا إلى أن “تخصيص هذه الموارد الإضافية لدعم الأجور في القطاعات الاجتماعية، مثل التعليم والصحة، ينسجم مع تعزيز مفهوم الدولة الاجتماعية”.
وأضاف زريف أن “هذا التوجه يعكس تحولا مهما في السياسة المالية للمغرب، إذ تعطي الحكومة الأولوية لزيادة المداخيل العمومية من خلال تعبئة العائدات الضريبية، وهي خطوة جريئة نحو تحقيق استدامة مالية تساهم في تمويل أولويات الحكومة الاجتماعية، مثل دعم الطبقات الهشة وتحقيق العدالة الاجتماعية”، مشددا على أن “هذه الإجراءات تساهم في تعزيز قدرة الحكومة على تنفيذ مشاريع اجتماعية تسعى إلى الحد من الفوارق الاقتصادية والاجتماعية، ما يعزز الاستقرار الاجتماعي ويعطي إشارات إيجابية حول قوة الاقتصاد الوطني وقدرته على مواجهة التحديات الاقتصادية”، ومحذرا في المقابل من “مخاطر زيادة العبء الضريبي وتأثيره السلبي على المداخيل المبرمجة ورواج مجموعة من الأنشطة الاقتصادية”.
“كثرة الضرائب تقتل الضرائب”
في ظل التوجه الحالي الذي تتبعه الحكومة المغربية لتعزيز التحصيل الضريبي، وزيادة مداخيلها من أجل تمويل الالتزامات المالية المتعلقة بالبرامج الاجتماعية وتطوير البنيات التحتية استعداداً لمونديال 2030، يبرز خطر الوقوع في فخ “كثرة الضرائب تقتل الضرائب” Trop d’impôts tue l’impôt، وهو المبدأ الاقتصادي الذي يحذر من تبعات رفع الضرائب بشكل مفرط، ذلك أنه عند زيادة العبء الضريبي بشكل كبير قد تواجه الحكومة تحديات تؤثر سلبا على الاقتصاد الوطني، فرغم كون زيادة المداخيل الضريبية تتيح تمويل مشاريع تنموية هامة، مثل تحسين الخدمات الاجتماعية أو بناء البنية التحتية للمونديال، إلا أن الضغط الضريبي قد يؤدي إلى نتائج غير مرغوب فيها على المديين المتوسط والطويل.
وأكد عبد الإله شناني، خبير محاسب، متخصص في تدبير المنازعات الجبائية، أن “الرفع الكبير للضرائب يهدد القدرة الشرائية للمواطنين، وهو ما يؤدي إلى تراجع الاستهلاك الداخلي، وبالتالي يؤثر على النشاط الاقتصادي”، موضحا أنه “عندما يواجه الأفراد عبئا ضريبيا مرتفعا تصبح لديهم قدرة أقل على الإنفاق، ما يقلص الطلب على السلع والخدمات، وهو ما يؤثر سلبا على عجلة الاقتصاد”، وزاد: “كما أن زيادة الضرائب قد تعيق الاستثمارات الأجنبية والمحلية، إذ يميل المستثمرون إلى البحث عن بيئات اقتصادية ذات تكاليف تشغيل منخفضة وفرص ربح أعلى”.
ودعا شناني الحكومة إلى “ضرورة التركيز على ضمان توزيع عادل للعبء الضريبي، باعتبار أن فرض ضرائب عالية على الأفراد والشركات دون مراعاة ظروفهم الاقتصادية قد يؤدي إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية، خصوصا بالنسبة إلى الفئات الأكثر هشاشة”، موردا في تصريح لهسبريس أنه “يتعين على الحكومة الحالية اتخاذ تدابير محكمة لضمان أن يكون النظام الضريبي تصاعديا، ويتماشى مع القدرة المالية للمواطنين والمقاولات، بحيث لا يتم تحميل الطبقات المتوسطة والفقيرة أعباء إضافية”، ومشددا على “أهمية تحسين نجاعة الإنفاق الحكومي، بما يخفف من الاعتماد على زيادة العبء الضريبي”.
وأشار المتحدث ذاته إلى “استعجال تحسين تدبير المال العام ومكافحة الفساد وترشيد النفقات”، معتبرا أن “الإصلاحات في هذا المجال يمكن أن تساعد في زيادة فعالية التحصيل الضريبي دون الحاجة إلى رفع معدلات الضرائب بشكل مفرط”.