تأملات في الحياة، وتعليقات على المجتمع والسياسة والفن والإعلام، وحديث عن تقلّبات الزمان وخيانة الوطن والمواطن بالفساد، صدرت عن دار “سليكي أخوين” يوميّات عنوانها “نكاية في الألم”، وقّعتها الإعلامية الإذاعية المغربية البارزة أسمهان عمور، التي عملت بأثير المغرب وإذاعات عربية وألمانية وإنجليزية.
وحول اسم أسمهان المشرقيّ راهنا، الفارسيّ أصلا “الذي اندس وسط أسرة أمازيغية تعذرت على أفرادها سلامة نطقه من فرط غرابته” ذكرت أنه صار اسمها بعدما استهوى والدها “صوت المطربة أسمهان وهي تغني ‘ليالي الأنس’ حين كان يلتقط عبر مذياعه الصغير ذبذبات الإذاعة”.
وفي نصوص حول الإعلام تساءلت أسمهان عمور “أما زالت للمذياع سلطة التنوير؟”، في راهن كثرت فيه المحطات الإذاعية؛ “وكثرت معها الأصوات التي لم نعد نتذكر منها أحدا، اختفت نبرة المذيع الذي ما أن ينطق بالحرف الأول حتى تعلم من هو. كان المذياع هو النواة الأولى التي تلتف حولها القيادات السياسية والجماهير الشعبية، المذياع ذلك الصندوق الذي نقل خبر المقاومة المسلحة وأغاني الحسين السلاوي ومسلسل الأزلية وسهرات السبت”.
وفي تجربة شراكة إعلامية مع ألمانيا، تساءلت بعدما شهدته من إسناد مفاصلها إلى من لا دربة لهما عليها: “هل كانت صفقة راهن فيها المسؤولون في التلفزيون المغربي على إبراز الوجه المشرق للفكر المغربي أم كانت مجرد وهم لختم الجوازات واحتساب نقاط الوفاء لشركات الطيران؟”.
وفي مقال بنبرة لاذعة لا تخطئها العين! كتبت أسمهان عمور “عن أي يوم عربي للإعلام يتحدثون؟ (…) أهذا كل ما جادت به جامعة الدول العربية؟ (…) هل نحتفي بالمحطات التي أججت فتيل الحرب؟ أم نصفق للأقلام التي وقعت عهد الخيانة؟ أم نحتج على الوجوه المأجورة التي باتت حطبا لنار الفتنة؟ (…) ليته كان بحق يوما عربيا للإعلام نكتب فيه مقالات ولا نوقعها بأسماء مستعارة، لنكون قد انتصرنا على الخناق والتضييق والوعيد والتهديد. ليته كان يوما عربيا للإعلام تنفتح فيه قنواتنا على واقع الشعوب العربية، بدل أن تتخمنا بدراما الحب والعشق الممنوع، وتجعل من ذلك مورفينا أزليا لا نصحو منه إلا لتناول جرعات أخرى”.
وباستحضار تجارب إعلامية عربية وأوروبية، تعيد بثّ “البدايات” وتراكمات الأجيال والإنتاج، أو تخصص لها قنوات. ومع جمهور جديد، يستهلك كثيرا مما تغيب عنه القيم الرفيعة جمالا وأخلاقا في الفن الذي صيّرا استهلاكيا، تتساءل المذيعة البارزة: “ألا يحق لجمهور (اعطيني صاكي) و(انتي باغية واحد) أن يطلع على ذاكرة غناؤها مليء بالقيم؟ ألا يحق للجيل الجديد أن يكتشف مسرحيات الدغمي والشعيبة العذراوي؟ ألا يحق للذين بلغوا من العمر عتيا أن ينبهوا ذاكراتهم التي بدأ يتسلل إليها الخرف بسهرات الأبيض والأسود؟ (…) لماذا نتنصّل من ذاكرتنا الإعلامية، وبالتالي من ماضينا ونئد البدايات؟”.
وفي ظلّ “شرعية مزيفة” منحت لوجوه، سعيها الحثيث هو المشاهدات بأي ثمن، وجدت طريقها سالكا من تطبيقات “التواصل الاجتماعي” إلى التلفزيون، ذكرت أن لهذه الآفة وجها آخر: هؤلاء “من المؤكد أنهم حققوا فتوحات انتصروا فيها على أجهزة إعلامية رسمية. أصبحت اليوم في عداد من تقلصت نبضات القلب لديهم منذرة بإسدال ستار أسود”.
وفي شارع تسمّى بباتريس لومومبا بالرباط، وأسمهان عمور تنظر يوميّ عمال النظافة، وشظف العيش ومخاطر العمل زمن “الوباء” تساءلت: “هذا هو شارع باتريس لومومبا، الرجل الذي ناضل وقاوم من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية. فهل يحس هذا المناضل الإفريقي الذي يحمل الشارع اسمه بأنه لم يخذل؟”.
كما كتبت في مقال آخر: “لم أكن أتوقع أن يسير مجتمعنا المغربي في سكّتين غير متوازيتين؛ مغرب القطار فائق السرعة والطرق السيارة و(المولات) وشركات السيارات الفارهة بعد أن رفع الاحتكار، أن تكون هوامشه هشة لا توازي سرعة تسلقه نحو العالمية”، ومن أوجه ذلك تزويج القاصرات المستمرّ، و”بسبب ضعف الأداء البرلماني لنواب اختارهم هذا الهامش انتحرت أحلام تلك الفتيات الأمهات”.
ثم استرسلت قائلة: “لو أن الذين باعوهم كلاما ووهما لم يهرولوا لنفخ أرصدة البنك، والتنافس في عدد امتلاك الضيعات والبنايات، وحجز أماكن الدرجات الأولى في الطائرات، وقضاء العطل في أبعد نقاط جغرافيات الكون، والسفر لشراء أغلى فرو، لكان للفتيات نصيب من العلم، ولما تعرضت أعمار هؤلاء الفتيات للقطف المبكر، ولكسرت أحلامهم قُفل الظلم”.
وبعد قصة سيدة آلمتها، كتبت: “كم من ضحايا العنف الجنسي غير المعلن هجرن البيوت، ودفن الخبائث، ولم يجرؤن على بسط شكواهن أمام العدالة؟ ألا يعد انتهاك الجسد وقتل خلايا أنوثته جرما ولو تحت غطاء مؤسسة الزواج؟ أم إن المرأة ما زالت في حكم العرف السائد هي ملكٌ للرجل، كساعة اليد أو كسوط يتخمها جراحا. لا تحالف مع الشيطان. غيروا قوانين الجرم (…)”.
وحول الإعاقة والتضامن، كتبت عمور: “لسنين طويلة وضع القدر فردا أو عدة أفراد في مصاف المقعدين والوالدان يجترحان الألم والخوف والجزع وقلة الحيلة. ألسنا نحن أمة تكافل وإيمان وسخاء؟ أليس الأجدر بنا ألا نعبر المشهد وننسى بل أن نتدبر ونبادر؟ قليلة هي المراكز المحتضنة لمثل هذه العاهات (…) وددنا لو أن مساعدة اجتماعية امتدت يدها إلى البيوت المغلقة التي تئن فيها العائلات من الحاجة والفاقة والإعاقة. لو أن جيوبا سخية جادت بما يلزم لهؤلاء الذين نفخ الله فيهم من روحه، وكتب عليهم أن يتحملوا من القدر أقساه. وددنا لو أن لنا خطة تضامن، بعيدا عن فلاشات الكاميرا، ونكون رحماء بأولئك الذين لا يحتاجون منا إلا ما يجعل الجسد، رغم إعاقته، قابلا للحياة”.
وبين زمان وآخر، خطّت المذيعة كلمات حول “عين السلطان” التي انتشلت مياهها من منبعها، وشلت حركة سياحية واقتصادية كانت مصدر دخل ساكنة تعيش التهميش والإقصاء بإيموزار كندر.
كما تحدثت في مقال آخر عن أحولي غير البعيد عن ميدلت، منشطرة الذاكرة “بين مجد المكان: أول سينما، ومصباح نور، وسكة حديد، وقناطر، وطريق معبدة بين الفجاج، وحاضر يشي بحياة هي أقرب إلى الموت: أطلال وصدأ يعلو القناطر، وقاعة سينمائية هي اليوم خراب”.
وفي زمن الاستثناء الوبائي، والحجر الصحي، والإغلاق، تذكّرت “الفنان الأصيل” محمود الإدريسي الذي “شاءت الأقدار أن يرحل في زمن كورونا، حيث لا عزاء”. كما كتبت ألما قصة ابنتها التي تزوجت، زمن “كورونا” بعيدا عن المغرب دون أن تستطع أمها حضور زفافها إلا من بثّ عبر الإنترنيت: “لم أنت قاسية أيتها الحياة؟ لماذا لم تكوني سخية ولو للحظة فيما تبقى من العمر؟ وخذلتني أنا التي قضيت زمنا سخية، واهبة، ومانحة”.
وعادت حروف عمّور “نكاية في الألم” إلى تكريم لها بـ”بيت الصحافة بطنجة” مسّها بعمق، ومما تذكّرته كلمات: “انهمرت دموعي وأنا أنصت إلى الرجل الذي قضى عمرا في سجن تازمامارت السيد أحمد المرزوقي، الذي بعث بفيديو بالمناسبة ليعبر فيه عن حرصه، وحرص بعض السجناء في المعتقل على التقاط ذبذبات الإذاعة يوم السبت، ليتابعوا برنامج (حقيبة الأسبوع) ولينصتوا إلى الصوت الذي اخترق جذران زنازينهم، مانحا إياهم جرعة الأمل في الحياة”.
ومع كلمات أغنية “عيشي يا بلادي”، كتبت أسمهان عمور “(…) أحزاب عتيدة عهدناها منذ تشكل الحياة السياسية، تتزعمها وجوه راهنت على تحديات كبرى، وأحزاب تصدعت فانشقت ثم تحالفت وتآلفت، ثم اختلفت واستكانت (…) ألم يع بعد أولئك الذين تناوبوا على منصات الخطابات والتجمعات بأن المواطن لم يعد حمالا للوعود المتبخرة، وأن ظهره لم يعد رخوا بل أصبح صلبا من فرط السياط والجلد؟ عيشي يا بلادي، في منأى عن نوائب الدهر، ودهاليز السياسة، لتظل أرضك سطحا وجوفا… وسماؤك ضياء وسقفا. هذه الأرض الطيبة التي وإن تكالب عليها الجاهلون هي الوطن الحاضن ولمواطنيه الخلّص شعار يرددونه: عيشي يا بلادي عيشي، يا بلادي الغالية يا حبي الكبير… يا أم كريمة فايضة بالجود والخير”.
في هذا الكتاب أيضا تأمل في العمر وتوالي الأيام، من بين أوجهه فقرة تقول: “يا الله، كم ألهتنا الحياة في طي المسافات وختم الجوازات، وانسلّ أجمل ما في العمر، فصار البيت يستجدي لحظات من القفز والنطّ، والضحكات والدموع لذلك الطفل الذي أصبح في غفلة مني رجلا”.
وبعد إتمامها رواية، لم تجد أسمهان عمور بدّا من إسقاط أحداثها على “مجتمعنا المغربي، وتبين لي أن الكل يعيش كسادا عاطفيا سببه الجري وراء تأمين الحياة وفك شفرة أسرة آمنة من كل ضياع، وتسديد الفواتير القاصمة للرواتب، والسعي إلى امتلاك رصيد في البنك يقي من الشدائد، في دوامة عجلتها على لا تحتكم إلى فرامل… تتلاشى العواطف، وتنسلّ خيوط الحب، لتشكل رقعة لا يمكن رتقها”.
وبين المقالات عبرٌ، منها نصائح للمتقاعدات من النساء بعد عمل وتدبير بيت، أو بعدما كبر الأبناء: “انغمسي في عوالم الضياء والطهر، وارتقي بنفسك التي هي حق عليك، واعلمي أنه آن لك أن تبدئي يومك بماء فاتر، وترشي عطرا، وتضعي كحلا وتتجملي، فالحياة لم تنته عند سن التقاعد”.
ومن التأملات المخطوطة نصّ حول “عيد الحب (…) سان فالانتان؛ عيد دخيل على مجتمعنا، تلقفته فئة من جيل جديد، ليس إيمانا منها بقوة الحب، بل لفرط التقليد والتشبه بعالم آخر”.
كما يجد القارئ تأملات في المفارقة، التي من أوجهها “انفصام” الألوان؛ فالأحمر المسمّى لون الحب هو مرادف العنف والجريمة، والأبيض “عريس الفرح وتاج الحب” عنوانٌ “للحزن والفقد”، والرمادي “حليف الكآبة والضجر، رغم أن سحابه المثقل بالغيث يحيي الأرض بعد موتها”، و”لم الأخضر رداء الميت في نعشه رغم كونه عنوان الحياة بعد اليباس؟”.
لتعلق المتأمّلة بعد ذلك: “إنها لعبة الألوان… فهي الأخرى لم تسلم من الاضطراب والارتباك. كأنها شخوص التهمتها السكيزوفرينيا فلم تعد تقوى على تحديد هويتها. لا تُخندقوا الحزن والفرح… اتركوا أحاسيسنا تشع من العيون بريقا وأسى. اتركوا الألوان للفرشاة. ولْيكْف الجسد أنه صريع عشق وألم”.