يومٌ عاديٌّ لباقي النّاسِ؛ لكنَّهُ مختلفٌ تمامًا في مستودعِ الأمواتِ. هناك، تتوقَّفُ الحياةُ، لتبدأَ الحكاياتُ. صمتٌ ثقيلٌ يُخفي صراعًا بينَ الغموضِ والحقيقةِ، بينَ الموتِ والكشفِ. هناك، يمضي الأطبَّاءُ الشّرعيُّونَ يومَهُم بينَ جثثٍ تروي أسرارَها بصمتٍ، وأدلّةٍ تنتظرُ أن تُفَكَّ شيفرتُها. هناك، يُصبحُ الزّمنُ شاهدًا، والمكانُ مسرحًا لتحقيقِ العدالةِ الّتي لا تعرفُ راحةً.
التقت هسبريس عبد الإله لكبيري، رئيس مستودع الأموات الرحمة بالدار البيضاء، الذي شرح بعضا من العمل اليومي للطبيب الشرعي؛ بداية من تلقي الجثة، وصولا إلى كتابة تقرير نهائي يكون الفاصل في تحديد هل الوفاة كانت طبيعية أو العكس.
قال لكبيري: “عند حدوث حالات وفاة معينة تُثير الشك أو الغموض، تتدخل النيابة العامة لإجراء تحقيق قضائي بغرض الكشف عن ملابسات الوفاة وتحديد طبيعتها. تشمل هذه الحالات الوفيات الناجمة عن حوادث السير وحوادث الشغل والإصابات الناتجة عن الأمراض المهنية أو حالات الضرب والجرح العمد الذي يؤدي إلى الوفاة. كذلك تتضمن الوفاة المفاجئة التي لا تظهر لها أسباب واضحة، أو الحالات التي تُكتشف فيها جثث متحللة ومتعفنة، وأيضًا الوفيات الناتجة عن التعذيب أو العنف الممارس على المرأة أو الطفل”.
وتابع رئيس مستودع الأموات الرحمة بالدار البيضاء: “في هذه الحالات، تُصدر النيابة العامة قرارًا بتكليف طبيب شرعي لإجراء فحص أو تشريح للجثة، بهدف الكشف عن الحقيقة وتحديد السبب الرئيسي للوفاة. يتضمن دور الطبيب الشرعي أحيانًا فحصًا ظاهريًا للجثة دون الحاجة إلى عملية التشريح الكاملة. وفي حالات أخرى، يُجري الطبيب إجراءات متقدمة؛ مثل أخذ عينات من الدم لفحص وجود مواد كحولية أو مخدرات أو سموم في جسم المتوفى”.
حسب المختص، يُستخدم الطب الشرعي أيضا لأخذ عينات جينية للتعرف على هوية الجثة في حال كانت مجهولة. هذا الإجراء يُعد أساسيًا في تحقيقات النيابة العامة، خاصة عندما يكون هناك اشتباه في وفاة غير طبيعية أو وجود جريمة وراء الحادثة، مشيرا إلى أن الهدف من تكليف الطبيب الشرعي في مثل هذه الحالات ليس فقط تحديد طبيعة الوفاة (طبيعية أم غير طبيعية)؛ بل أيضًا تقديم أدلة تساعد في كشف الجناة المحتملين أو استبعاد الشبهات الجنائية، مما يساهم في تحقيق العدالة وكشف الحقيقة بشكل دقيق.
تشريح الجثث
مجالُ تشريحِ الجثثِ هو أوّلُ مجالاتِ الطّبِّ الشّرعيِّ وأساسُهُ. تبدأُ رحلةُ كشفِ الحقائقِ منَ اللحظاتِ الأولى الّتي تلي الوفاةَ. داخلَ غرفِ التّشريحِ، يُستَكشَفُ كلُّ تفصيلٍ منْ تفاصيلِ الجسدِ، لتسردَ الجثةُ قصّةً ربّما تكونُ قد ظلّت مخفيَّةً.
عاينتْ هسبريس واحدةً منْ عمليّاتِ التّشريحِ العديدةِ الّتي تجري داخلَ مستودعِ الأمواتِ الرّحمةِ بالدارِ البيضاء. هنا، يجري فتحُ الجسدِ الفاني لفحصِ الأعضاءِ والأنسجةِ، عبرَ شقٍّ طوليٍّ في الجسدِ، عادةً من عظمةِ التَّرقوةِ إلى أسفلِ البطنِ.
يد الطبيب الشرعي، بخبرتهِ المتراكمة، تتعامل مع هذه العلامات بحذرٍ ودقّة، يبحث في ثنايا الأنسجة عن خيطٍ يقود إلى فهم ما حدث.
في قلبِ الغرفةِ، يسودُ الصّمتُ المهيبُ، لا يكسرهُ سوى صدى صوتِ الأدواتِ الجراحيةِ على الطاولةِ المعدنيةِ. تبدو اليدُ الجراحيةُ للطبيبِ الشرعيِّ كفنانٍ ينسجُ على لوحِ الزجاجِ آخرَ ملامحِ القصّةِ المخبّأةِ في الجسدِ. فحصُ الأوردةِ، قياسُ حجمِ الكبدِ، تحليلُ وجودِ السّمومِ في الدّمِ أو بقايا الكحولِ في الأنسجةِ، كلُّ ذلكَ يُضافُ إلى سجِلٍّ يروي الحقيقةَ بلغتها العلميّةِ الباردةِ؛ ولكن الدقيقةِ.
ليسَ التّشريحُ مجرّدَ عمليةٍ ميكانيكيّةٍ؛ بل هوَ مشهدٌ إنسانيّ يحملُ في طيّاتهِ أسئلةً كبرى عن الحياةِ والموتِ. الجسدُ المسجّى يحملُ ذكرياتٍ وآثاراً، لا تفهمُها إلا عينا الطّبيبِ المدربتان وأدواتُهُ الحذقةُ. هنا، لا توجدُ أحكامٌ مسبقةٌ أو تخميناتٌ، بل حقائقُ تُبنى خطوةً بخطوةٍ على أرضيةِ الدقّةِ العلميّةِ والملاحظةِ المتأنّيةِ.
بينَ الجدرانِ البيضاءِ الباردةِ لهذهِ الغرفةِ، تُكتَبُ فصولٌ جديدةٌ من القضايا الإنسانيّةِ، ويُجابُ عن أسئلةٍ لطالما شغلتِ الأحياءَ. كلُّ تقريرٍ يُصدرُهُ الطبيبُ الشرعيُّ ليسَ مجرّدَ كلماتٍ على الورقِ؛ بل هوَ شهادةٌ أخيرةٌ من الجسدِ المسجّى، تُرسلُ إلى منْ ينتظرُ الحقيقةَ بفارغِ الصّبرِ، سواءً كانَ أهلًا يبحثونَ عن عدالةٍ أو قضاءً ينشدُ الدليلَ أو مجتمعًا يتوقُ إلى الفهمِ.
آلاف الوفيات وعشرات الأطباء
حسبَ المعطياتِ الّتي حصلتْ عليها هسبريس منَ النّيابةِ العامَّةِ، فإنَّهُ في إطارِ تدبيرِها لتقاريرِ الوفياتِ الّتي توصَّلتْ بها سنةَ ألفين واثنين وعشرين، صدرَ أكثرُ من عشرةِ آلافٍ ومائةٍ واثنين وستّينَ أمرًا بإجراءِ تشريحٍ طبّيٍّ على الصّعيدِ الوطنيِّ؛ منها أكثرُ من ألفين وثمانمائةٍ على مستوى المحاكمِ الابتدائيَّةِ، وأكثرُ من سبعةِ آلافٍ وثلاثمائةٍ على مستوى محاكمِ الاستئنافِ. كما أصدرتِ النّيابةُ العامَّةُ اثني عشرَ ألفًا وثمانيةً وثمانينَ أمرًا بإجراءِ فحصٍ طبّيٍّ، أغلبُها على مستوى المحاكمِ الابتدائيَّةِ بما يزيدُ عن ثمانيةِ آلافٍ وسبعمائةِ أمرٍ.
أوامرُ تُقدَّرُ بالآلافِ، بينما لا يتجاوزُ عددُ الأطبَّاءِ المختصّينَ في مجالِ الطّبِّ الشّرعيِّ خمسةً وعشرينَ طبيبًا فقط. رقمٌ هزيلٌ يصعبُ معهُ ترسيخُ قيمِ العدالةِ والإنصافِ.
التقت هسبريس مراد العلمي، رئيس شعبة تتبع تنفيذ السياسة الجنائية برئاسة النيابة العامة، الذي شرح طريقة عمل النيابة والأوامر التي توجهها إلى الأطباء الشرعيين، مشيرا إلى أنها تنقسم إلى نوعين رئيسيين: الأوامر المتعلقة بالفحص الطبي، والأوامر المتعلقة بإجراء التشريح الطبي.
وحسب توضيح العلمي، فإنه فيما يرتبط بالفحص الطبي، “كما يوحي المصطلح، يتعلق الفحص الطبي بمعاينة الجسد على المستوى الخارجي دون اللجوء إلى تحليل المحتوى الداخلي. هذا الإجراء يُستخدم غالبًا في حالات الوفيات التي تكون درجة الشك فيها محدودة، مثل حالات الوفاة الناتجة عن حوادث السير. الهدف هنا هو الاكتفاء بمعاينة ظاهرية للجثة لتحديد ملابسات الوفاة دون الحاجة إلى إجراء تدخلات جراحية أو فتح الجسم”.
ووفق رئيس شعبة تتبع تنفيذ السياسة الجنائية برئاسة النيابة العامة، فإن الحالات التي يجب إجراء التشريح الطبي فيها تم تحديدها وفقًا للمادة 18 من القانون المنظم لمهنة الطب الشرعي، وتنص على أن “هناك حالات يُلزم فيها القانون النيابة العامة بإصدار أمر بإجراء التشريح الطبي. ومن أبرز هذه الحالات: الوفيات الناتجة عن الانتحار، لفهم الظروف والدوافع التي أدت إلى الحادث، والوفيات الناتجة عن التسمم: لتحديد نوع المادة السامة وسبب الوفاة بدقة، والوفيات في أماكن مغلقة: مثل السجون أو مراكز الشرطة القضائية، لضمان الشفافية والكشف عن أي شبهة جنائية، ثم الوفيات الناتجة عن اعتداء جسدي: مثل حالات استخدام الأسلحة أو أدوات أخرى قد تكون أفضت إلى الوفاة”.
وأكد المسؤول القضائي سالف الذكر أنه عندما تتلقى النيابة العامة تقريرًا من الشرطة القضائية عن وقوع وفاة تنطبق عليها الحالات المحددة قانونيًا، يكون لزامًا عليها إصدار أمر بإجراء تشريح طبي، إذ يتمثل دور الطبيب الشرعي هنا في استخدام خبراته التقنية لإجراء فتح للجثة وفحص الأعضاء الداخلية؛ ما يتيح له تحديد السبب المباشر للوفاة بدقة علمية.
وأوضح المتحدث أن الطبيب الشرعي يُعد، بعد إتمام عملية الفحص الطبي أو التشريح الطبي، تقريرًا مفصلًا يُسلم إلى النيابة العامة. يحتوي هذا التقرير على النتائج النهائية التي توصل إليها، سواء كانت الأسباب المباشرة للوفاة أو العوامل المحيطة بها؛ منبها إلى أن “هذا التقرير يُعتبر أداة محورية في استكمال التحقيقات القضائية، حيث يساهم في توضيح الملابسات وربط الأدلة بالوقائع”.
وتابع العلمي قائلا: “بهذا، يتضح أن عمل النيابة العامة، بالتنسيق مع الأطباء الشرعيين، يعكس التزامًا قانونيًا ومهنيًا بالوصول إلى الحقيقة وضمان تحقيق العدالة في جميع الحالات”.
في عالمٍ تسعى فيهِ المجتمعاتُ إلى ترسيخِ هذهِ القيمِ، يبرزُ الطّبُّ الشّرعيُّ كأداةٍ لا غنى عنها لتحقيقِ العدالةِ الجيّدةِ؛ لكنَّ ضعفَ المواردِ البشريَّةِ يؤدّي إلى تأثيراتٍ سلبيَّةٍ كبيرةٍ على جودةِ العملِ وفعاليّتِهِ.
وفي هذا الصدد، قال رئيس شعبة تتبع تنفيذ السياسة الجنائية برئاسة النيابة العامة إن مهنة الطب الشرعي تواجه العديد من التحديات؛ أبرزها النقص في الموارد البشرية، خاصة الأطباء الشرعيين المتخصصين في المجال على المستوى الوطني، حيث يشير الوضع إلى وجود خصاص ملحوظ في هذا المجال الحيوي.
وحسب المتحدث، فإنه “وفقًا للإحصائيات، كان عدد الأطباء الشرعيين المتخصصين حوالي 25 طبيبًا فقط حتى سنة 2013. ومع الجهود المبذولة لتطوير هذا المجال، ارتفع العدد إلى 35 طبيبًا متخصصًا حاصلًا على دبلوم جامعي في الطب الشرعي بحلول العام الماضي. ومع ذلك، لا يزال هذا الرقم غير كافٍ لتغطية الاحتياجات الوطنية المتزايدة”.
وتابع قائلا: “بالإضافة إلى الأطباء المتخصصين، هناك جهود مستمرة للرفع من وتيرة التكوين لباقي الأطباء الذين يمارسون مهام الطب الشرعي. على سبيل المثال، خضعت مجموعة أولى مكونة من 14 طبيبًا لتكوين متقدم في هذا المجال. وعلى مستوى النيابة العامة، تشير التقارير الأخيرة إلى أن هناك حوالي 122 طبيبًا يمارسون مهام الطب الشرعي، موزعين على مختلف مناطق المملكة”.
وأضاف: “ورغم هذه الجهود، يبقى التحدي الأكبر هو توفير عدد كافٍ من الأطباء المتخصصين القادرين على تلبية الطلب المتزايد على خدمات الطب الشرعي؛ مما يستدعي تعزيز برامج التكوين والتأهيل، وتوفير الحوافز لاستقطاب المزيد من الكفاءات إلى هذا المجال الحيوي”.
في مستودعِ الأمواتِ الرّحمةِ، قد يجري طبيبٌ واحدٌ ما بينَ ثمانيةٍ إلى عشرةِ تشريحاتٍ طبيَّةٍ في اليومِ الواحدِ، رقمٌ كبيرٌ يُرهقُ الأطبَّاءَ والعاملينَ بالمكانِ”.
عبد الإله لكبيري، رئيس مستودع الأموات الرحمة بالدار البيضاء، علق قائلا: “هو عدد كبير نسبيًا بالنظر إلى طبيعة العمل وحساسيته. هذا الضغط يزداد عندما تكون هناك وفيات مشكوك فيها، خصوصًا إذا كانت تتعلق بحالات القتل، حيث تتطلب عملية التشريح وقتًا دقيقًا وكافيًا لتجنب أي خطأ في تحديد أسباب الوفاة”.
وأضاف لكبيري قائلا: “مدة التشريح تختلف حسب تعقيد الحالة، إذ قد تستغرق ما بين ساعة إلى ثلاث ساعات للحالة الواحدة. إذا ضربنا هذا المتوسط الزمني في عدد الحالات اليومية، قد نصل إلى ما يعادل 30 ساعة من العمل. في المقابل، القانون يحدد ساعات العمل اليومية للطبيب بـ8 ساعات فقط. هذا الفارق الزمني يخلق ضغطًا نفسيًا وجسديًا على الطبيب؛ ما يؤثر على التركيز ويزيد من احتمالية الإرهاق”.
ونبه رئيس مستودع الأموات الرحمة بالدار البيضاء إلى أن “مسؤولية الطبيب الشرعي ليست بسيطة أو خالية من التحديات؛ بل هي مسؤولية جسيمة تتطلب منه اليقظة الشديدة والتريث في إجراء عملية التشريح. الحذر والاهتمام بالتفاصيل هما مفتاح النجاح في هذا المجال، خاصة لتفادي الخطأ عند التعامل مع وفيات غير طبيعية قد يكون سببها القتل. هذه الدقة تكتسي أهمية قصوى في سياق العمل الطبي الشرعي، حيث يرتبط كل قرار بنتائج قانونية وإنسانية عميقة”.
الطب الشرعي للأحياء
من عالمِ الأمواتِ إلى فحصِ الأحياءِ، لا يقتصرُ دورُ الطّبِّ الشّرعيِّ على التّعاملِ معَ الجثثِ؛ بل يشملُ مهامَّ متعدّدةً لدعمِ الإجراءاتِ القضائيَّةِ، مثلَ توثيقِ الإصاباتِ والاعتداءاتِ. يُطلَبُ منَ الأطبَّاءِ تقديمُ تقاريرَ مفصّلةٍ إلى السّلطاتِ القضائيَّةِ، حيثُ تُعتَبرُ هذهِ التّقاريرُ دليلًا رئيسيًّا في المحاكمِ.
التقت هسبريس هشام بنيعيش، رئيس قسم الطب الشرعي بالمركز الاستشفائي الجامعي ابن رشد بالدار البيضاء، الذي شرح أن “الطب الشرعي السريري هو أحد فروع الطب الشرعي الموجهة نحو الأحياء، حيث يختص بتقديم الخدمات الطبية الشرعية للأشخاص الأحياء بما يحقق خدمة العدالة. يتركز دوره بشكل رئيسي على الضحايا الأحياء الذين تعرضوا لأشكال مختلفة من العنف، سواء كان جسديًا أو جنسيًا”.
وفيما يرتبط بدور الطبيب الشرعي في حالات العنف، قال بنيعيش إن الطبيب الشرعي يتدخل لفحص الضحايا وتوثيق الإصابات الجسدية التي تعرضوا لها، مع التحقق من مدى توافق هذه الإصابات مع أقوال الضحية. كما يتم تقييم خطورة الإصابات وتحديد فترة العجز عن القيام بالأعمال الشخصية. بناءً على مدة العجز أو وجود عاهة مستديمة من عدمه، يتم تصنيف الجريمة وتكييفها القانوني.
وفي حالات الاعتداء الجنسي، “يقوم الطبيب الشرعي بدور أساسي في التحقق من وقوع الاعتداء الجنسي. يتم ذلك بفحص الضحية لتحديد وجود أية علامات على حدوث اتصال جنسي قسري، إضافة إلى أخذ عينات بيولوجية من المناطق التي يُحتمل أن تحتوي على آثار للمعتدي، خاصة إذا كان الاعتداء حديثًا. الهدف هنا ليس فقط إثبات الاعتداء؛ بل المساهمة أيضًا في التعرف على الفاعل”، حسب بنيعيش.
ومن مهام الطبيب الشرعي أيضا التحقق من الشواهد الطبية والحوادث المرورية، وقال رئيس قسم الطب الشرعي بالمركز الاستشفائي الجامعي ابن رشد بالدار البيضاء: “تُحال إلى الطب الشرعي الشهادات الطبية التي يُشكك في مصداقيتها بناءً على طلب من السلطات القضائية. كما يضطلع الطبيب الشرعي بدور في تقييم الشهادات الطبية المتعلقة بحوادث السير، لا سيما إذا تجاوزت فترة العجز الكلي المؤقت 30 يومًا، حيث يُطلب إجراء خبرة مضادة لتلك الشهادات”.
ومن المهام الموكولة للطبيب الشرعي أيضا التحقق من مزاعم التعذيب. وحسب المختص، فإنه “عندما يكون شخص ما قد وُضع تحت الحراسة النظرية، وتظهر عليه آثار عنف، يتم إحالة الحالة إلى الطبيب الشرعي لتحديد طبيعة الإصابات ووقت حدوثها. الهدف هو التأكد مما إذا كانت هذه الآثار قد وقعت قبل وضع الشخص قيد الحراسة النظرية أو أثناءها، ومدى توافقها مع أقواله”.
وتحدث بنيعيش كذلك عن مهمة تحديد السن في الطب الشرعي، موضحا أنه “في الحالات التي يكون فيها عمر الشخص غير محدد بدقة، يقوم الطبيب الشرعي بإجراء فحوصات تهدف إلى تحديد العمر بدقة. هذا الإجراء ضروري في العديد من الحالات القضائية، مثل التحقق من بلوغ الشخص السن القانوني في قضايا معينة”.
وبالتالي، فالطب الشرعي السريري يجسد حلقة الوصل بين الطب والقانون، حيث يساهم في إظهار الحقيقة، وحماية حقوق الأفراد، ودعم العدالة بكل موضوعية ومصداقية.
مجال غير جذاب
رغمَ أهمّيَّةِ الدّورِ الّذي يلعبُهُ الطّبُّ الشّرعيُّ، فإنَّهُ لا يجذبُ ممارسينَ جُددًا. تعاني المهنةُ من عزوفٍ كبيرٍ، فرغمَ فتحِ مبارياتٍ للتّخصّصِ، فإنَّها لا تلقى اهتمامًا كبيرًا بسببِ ظروفِ العملِ والتّحدّياتِ الّتي تواجهُها.
وقال بنيعيش إنه “على الرغم من وجود مناصب مالية مفتوحة وفرص ولوج لهذا التخصص ضمن مباريات الإقامة، فإن الطب الشرعي يفتقر إلى الجاذبية للأطباء؛ مما يؤدي إلى عزوف العديد منهم عن اختياره. يعود ذلك إلى أسباب عديدة؛ أبرزها أن المهام الطبية الشرعية تُنجز في كثير من الأحيان من قِبل أطباء من تخصصات أخرى، أو حتى من الطب العام، دون الحاجة إلى تكوين متخصص”.
وتابع قائلا إن “هذا الوضع يجعل الطبيب الذي يفكر في التخصص في الطب الشرعي يشعر بأنه لا يحصل على تميز واضح مقارنة بزملائه الذين يمارسون هذه المهام دون الحاجة إلى التكوين المتخصص؛ الأمر الذي يُسهم في تراجع الإقبال على هذا المجال”.
ومن بين أسباب العزوف التي ذكرها بنيعيش هناك غياب التعويض المناسب للأعمال الطبية الشرعية، وقال إنه “فيما يتعلق بالأتعاب المخصصة للخدمات الطبية الشرعية. على الرغم من أن هذه الخدمات تُنجز لصالح القضاء، فإن الجهة المستفيدة (القضاء) لا تُؤدي التعويض بشكل كافٍ للطبيب الشرعي. فعلى سبيل المثال، تُحدد أتعاب فحص ضحية بناءً على انتداب قضائي بمبلغ 30 درهمًا فقط، مع تضمين إنجاز التقرير وتقديمه للمحكمة”.
وأوضح بنيعيش أن العملية اللازمة للحصول على هذا التعويض تشمل توقيع التقرير من قبل النيابة العامة ورئيس المحكمة، ثم تسجيله لدى الخزينة العامة، قبل العودة استخلاص المبلغ. معقبا: “هذه الإجراءات تستغرق وقتًا وجهدًا يفوق بكثير التعويض المحدد؛ ما يدفع الكثير من الأطباء إلى الامتناع عن ملء هذه الاستمارات المطولة”.
وتحدث بنيعيش عن سبب آخر للعزوف ويتمثل في إشكالية التسجيل في جدول الخبراء، وقال: “يتطلب القانون تسجيل الأطباء الشرعيين في جدول الخبراء لممارسة مهامهم رسميًا؛ لكنه يضع شروطًا صارمة، مثل اشتراط عشر سنوات من الأقدمية للتسجيل. هذا الشرط يبدو معقولًا للتخصصات الطبية الأخرى ذات الطابع العلاجي؛ لكنه غير ملائم للطب الشرعي، الذي يُعدّ تكوينه موجهًا بشكل مباشر لخدمة العدالة”.
وشدد المختص على أنه من غير المنطقي أن يُطلب من الطبيب الشرعي، بعد حصوله على دبلوم متخصص، انتظار عشر سنوات قبل الانضمام إلى جدول الخبراء؛ وهو ما يُفقد النظام مرونته ويُقلل من الاستفادة المباشرة من الكفاءات المؤهلة.
يدعو الأطبَّاءُ الشّرعيُّونَ، اليومَ، إلى تعزيزِ التّكويناتِ ورفعِ كفاءةِ العاملينَ بالمجالِ، في أفق تعزيز الطاقم الطبي لذوي الخبرة. مؤخَّرًا، تمَّ توقيعُ اتّفاقيَّةِ شراكةٍ بينَ قطاعاتِ الدّاخليةِ والصحّةِ والعدلِ والتّعليمِ العالي وكلِّ منْ جامعةِ محمّدٍ السادسِ لعلومِ الصحةِ بالدارِ البيضاءِ والجامعةِ الدوليةِ للرباطِ، بهدفِ تكوينِ أطبّاءَ في مجالِ الطّبِّ الشّرعيِّ لسدِّ الخصاصِ الكبيرِ، كما ينصُّ القانونُ المنظّمُ للمهنةِ على إمكانيَّةِ استفادةِ الأطبَّاءِ العاملينَ بالمكاتبِ الجماعيَّةِ لحفظِ الصحّةِ والمرافقِ الصحيَّةِ التّابعةِ لقطاعِ الصحّةِ من تكويناتٍ خاصّةٍ لتأهيلِهم لممارسةِ مهامِّ الطّبِّ الشّرعيِّ.
الطّبيبُ الشّرعيُّ ليسَ مجرّدَ عالمٍ يتقصَّى الحقائقَ وسطَ غموضِ الجرائمِ؛ بل هو إنسانٌ يحملُ رسالةً ساميةً. دورُهُ يتجاوزُ البُعدَ العلميَّ ليُصبحَ شاهدًا على الألمِ، حاميًا للحقِّ، وحارسا للعدالة.