بين السيادة العلائقية والمعايير الأورومركزية
عندما أصدرت محكمة العدل الدولية رأيها الاستشاري سنة 1975 بشأن الصحراء المغربية، كان المنتظر أن يوجّه هذا الرأي مسار تصفية الاستعمار الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة ورحّب به المغرب. لكن ما حدث هو أن المحكمة وإن كانت قد أسقطت أطروحة إسبانيا التي حاولت الادعاء بأن الصحراء أرض بلا سيادة، فإنها لم تستطع الاعتراف بالسيادة المغربية التاريخية على المنطقة. هذا العجز لم يكن نتيجة غياب الأدلة أو ضعف الحجج، بل بسبب فجوات متراكبة في الزمن والمفاهيم والثقافة والسياسة واللغة، وهي فجوات ما زال القانون الدولي يعاني أمامها إلى اليوم.
الخطأ الجوهري للمحكمة كان اعتمادها مقاييس أوروبية بحتة لفهم تاريخ سياسي مختلف تماماً. فالمغرب، قبل بسط الاحتلال الإسباني سنة 1885، كان يمارس سيادته على الصحراء في إطار نظام سياسي خاص يقوم على البيعة: عقد ولاء يربط القبائل بالسلطان. هذه العلاقة لم تكن رمزية أو دينية فقط، بل كانت نظاماً سياسياً متكاملاً يمنح الشرعية للسلطان ويحدد طبيعة سلطته على امتداد البلاد. غير أن هذا النمط من السيادة لا يتوافق مع النموذج الغربي للدولة المركزية، ما جعل المحكمة عاجزة عن رؤيته أو الاعتراف به.
البيعة، في جوهرها، كانت علاقة متجددة باستمرار: القبائل تعلن ولاءها للسلطان وتمنحه الشرعية، مقابل حماية وضمان للعدل. لم يكن الأمر ولاءً فردياً على الطريقة الإقطاعية الأوروبية، بل عقداً جماعياً يكرّس وحدة البلاد. وبفضله تمكّن المغرب من الحفاظ على ترابط أقاليمه من الشمال إلى الصحراء مروراً بالجبال والمناطق البعيدة، من دون الحاجة إلى إدارة مركزية بالمعنى الحديث. لقد كانت البيعة الإطار الوحيد الممكن للشرعية السياسية، وهي ما يفسّر استمراريتها حتى اليوم في العلاقة بين الملك والشعب.
لكن محكمة العدل الدولية لم تنظر إلى هذا التراث من زاويته التاريخية، بل قاست وضعية القرن التاسع عشر بمقاييس القرن العشرين، أي بمفاهيم الدولة القومية الحديثة، والدستور المكتوب، والجهاز الإداري المركزي. وهكذا انتهى بها الأمر إلى تجاهل حقيقة أن المغرب كان يمارس سيادة فعلية على أقاليمه الصحراوية، حتى لو لم تنطبق عليها القوالب القانونية الغربية.
ثم جاءت الفجوة الثقافية واللغوية لتزيد الطين بلّة. فالمفاهيم العربية مثل البيعة والملك والسلطة حين تُرجمت إلى اللغات الأوروبية، أُفرغت من أبعادها التاريخية والدينية والسياسية. ترجمة البيعة إلى “ولاء” أو “خضوع” تختزلها إلى علاقة فردية بين حاكم ومحكوم، بينما حقيقتها أعمق بكثير: هي فعل إضفاء شرعية متبادلة، وإطار جامع يوحّد القبائل المختلفة تحت سلطة السلطان. إن عجز الترجمة هنا لم يكن لغوياً فقط، بل قانونياً وسياسياً، لأن القانون الدولي الغربي لم يعرف كيف يستوعب هذا الشكل من السيادة.
إلى جانب ذلك، هناك البعد السياسي الذي لا يقل خطورة. فالقانون الدولي يقدم نفسه كأداة عالمية ومحايدة، لكنه في الحقيقة مشبع بالتجربة الأوروبية، إلى درجة أنه يرفض الاعتراف بأشكال السيادة غير الغربية. لذلك جرى تصوير النماذج الأخرى باعتبارها ناقصة أو متجاوزة أو غير شرعية. وهذا بالضبط ما حدث مع الصحراء المغربية: تمت قراءة تاريخها بعدسة أوروبية ضيقة، فجرى تهميش كل ما لا ينسجم مع هذه العدسة. إنها إعادة إنتاج للمنطق الاستعماري، لكن بلبوس قانوني.
رغم كل ذلك، لم يكن المغرب مجرّد متفرج. فقد استوعب أدوات الدولة الحديثة من دستور ومؤسسات ودبلوماسية، لكنه حافظ في الآن نفسه على استمرارية رمزية مع تقاليده السياسية. فالبيعة ما زالت إلى اليوم جزءاً من المشهد السياسي المغربي، وهي التي تمنح علاقة الملك بالشعب عمقها التاريخي والشرعي. وهذا يؤكد أن الدول ما بعد الاستعمارية ليست مجرد مستهلكة للمعايير الغربية، بل قادرة على إعادة صياغتها وتكييفها.
إن قضية الصحراء تكشف عن أزمة أعمق في القانون الدولي برمّته: عجزه عن الاعتراف بتعدد أشكال السيادة. فطالما أن المؤسسات الدولية تحاكم التجارب غير الأوروبية بمعايير أوروبية وُلدت في سياق استعماري، فإنها لن تفعل سوى إعادة إنتاج الهيمنة القديمة بأسماء جديدة. المطلوب إذن ليس فقط ادعاء الحياد أو العالمية، بل القدرة على الاعتراف بشرعيات مختلفة، والاعتراف بقدرة الشعوب على إنتاج أنماطها الخاصة من الحكم والسيادة.
لقد آن الأوان لفتح نقاش نقدي صريح حول علاقة القانون الدولي بالموروثات السياسية في الجنوب العالمي. فالترجمة هنا ليست مجرد عملية لغوية، بل هي فعل سياسي بامتياز: إما أن تكون جسراً لفهم التعددية، أو أن تتحول إلى أداة لمحوها وإعادة إنتاج المركزية الأوروبية بوسائل جديدة.
0 تعليق