فيلم “The Quiet Girl” مستند إلى رواية “Foster” للكاتبة كلير كيجان التي صدرت عام 2010، والمخرج كولم بيريد (Colm Bairéad) جمع بين بساطة السرد وعمق التأمل. والبطلة تُدعى Cáit (تلعبها الممثلة الصغيرة كاثرين كلينتش)، طفلة تبلغ تسع سنوات تعيش في ريف إيرلندا عام 1981. ويصورها الفيلم على أنها طفلة هادئة حذرة، تُحبّ الخفاء، ولا تتكلم إلاّ إذا اقتضى الأمر، ولا تبحث عمّا يقال عنها بل تراقب العالم من حولها. وتشرع السينما الإيرلندية أمامنا لتسأل: ماذا تبقى من براءةٍ حين يُسكت صوتك؟ ومتى ترى المرآة طفلاً تُعاملُه الحياة كسلعةٍ منسية؟ وكيف تُنتزع الطفولة من صمت الأسرار ومن صرخات الجوع العاطفي لتُعيد صياغة الذات في الفعل البسيط، الكلمة الخجولة، اللمسة الحنونة؟
يحضر فيلم “الفتاة الهادئة” أمام الحسّ النقدي كعمل يُعانق الصورة والظلّ، معنيٌّ بالحركة البطيئة التي تصنع جمالية الصمت، وتدرس هشاشة العائلة، وتفاوت القوة بين الكبر والصغر، بين الكلام المسموع والكلام المقصّي. ويخيّر المخرج أن يعطي المشاهد فرصة أن يرى ما لا يُقال، أن يسمع ما لا يُنطق، وأن يشعر بما يولد في الداخل من رغبة أن تُرى، وأن تُحب، وأن تُسمَع.
تُبرز هذه السينما تعلقها بالجذور: الثقافة الإيرلندية، اللغة الأم، والعادات الموروثة، والصمت المُرعى كطقسٍ اجتماعيٍّ ودينيّ، والتاريخ المنسي الذي يُخيم على البيوت العتيقة. وتُحوّل الكاميرا البيت غير المعتدل إلى مسرحٍ للصوت الداخلي، وللشعر الصامت الذي تقرّبه تفاصيل اليد، الضوء، الماء، والنظرة. ترفض المعادلات السطحية، وتختار أن تكون الطفولة ليست سجينة لتصرّف الكبار بقدر ما تكون مركزًا ذا ثقل وجودي.
النبش تحت جلد الحكاية
متى يتحوّل الصمت إلى صوت أقوى من الكلام؟ ومتى تكشف العتمة الداخلية لطفلةٍ ما عن ضوءٍ أخفى فيها؟ وكيف يُعيد فيلم “الفتاة الهادئة” الحياة إلى حنانٍ كاد يُنسى في ريفٍ إيرلندي مضطرب؟ وكيف تُخلَق الهوية عبر نظراتٍ همست، وأفعالٍ صغيرة، مكانٍ بلا زخرفة؟ وتغري الأسئلة كل مهتمٍّ بالسينما أن يفتّش تحت جلد الحكاية، وخلف الصورة الثابتة، وداخل النفس الباحثة عن لحظةٍ من التألق رغم الخواء.
يملك فيلم “الفتاة الهادئة” (2022/المدة 94 دقيقة/البلد إيرلندا) جرأة أن يُعيد للطفولة امتيازها الإنساني، وأن يُعطي المشاهد فرصة أن يرى ما لا يُقال، وأن يشعر بما لا يُبرَز. وينتمي إلى سينما هادئة، تؤمن بأن الصورة المنقولة بحذر تُحدث انفعالاً أكثر عمقاً من الصراخ الصوتي. وينسج سرداً يرصد الحياة الاجتماعية والنفسية والرمزية والاقتصادية والثقافية كنسيجٍ واحد، لا يُفصّلُه الانفصال بين الأبعاد وإنما بيوت تتداخل فيها الزمان والمكان والمشاعر.
يعاني عالم “The Quiet Girl” من الإهمال العائلي وضغط عاطفي واجتماعي تتركه الطفلة كايت وتتلمّسه في صمت، وفي اليد التي تمد يدها للعناية، وفي السرير النظيف لأول مرة، وفي ضوء الصباح الذي يدخل من النافذة في بيت الضيافة.
وتُمثل الطفلة كايت لا ببطولةٍ خارجةٍ عن المعتاد وإنما ببساطة وجودها، وبصوتٍ داخلي يختنق قبل أن يُفرَج. وتستعمل أدوات الرؤية: الكاميرا المنخفضة، والنظرات الطويلة، والاهتمام بالتفاصيل اليومية التي تُخبر أكثر مما تُعلِن. والأثواب البالية، والأرضية الخشبية، وصوت المطر، ولون الضوء وقت الغسق، وتُشفّر كل هذه الصور رسالة أن الجمال يكمن فيما يُهمش وإلى ما يُنسى.
يعالج هذا الفيلم فكرة الهوية عبر اللغة: اختيـار اللغة الإيرلندية يُعيد الجذور إلى الواجهة، ويُعطي للصمت معنى تاريخيا، ويجعل للصوت الأخضر للصبية حضورا، ويجعل للغة الأم امتدادا وجوديا، وليس زخرفة ثقافية. وتُفضي الخلفيات الدينية والاجتماعية إلى أن الطقوس والعادات تُمارَس كأمر معهود، لكن الحب والرعاية اللذين تقدّمان بعيداً عن الكلام المكرر يُشكلان مقاومة ناعمة ضد النظام العائلي التقليدي، وضد ثقافة الصمت التي تُقلّل من شأن الطفلة.
على هذه الأرض ما يستحق الحياة
تطرح القضايا الاقتصادية بظلالها: الفقر يشقّ هشاشة البيوت، وتأخّر الأب، وتعب الأم، والسفر نحو الضيافة كمفرٍّ نفسي ومادي. وتُبيّن كيف أن قلة الموارد تُثقل النفوس، وتجعل الكلمات تبدو ترفا، وتجعل الرعاية تُختزل في فعلٍ واحد. وتصبح الرعاية ثورةً بطيئة حين تُغتنم اللحظة، وحين يُطهى الطعام الحرّ، وحين تُغسل اليدان، وحين تغفو الطفلة في حضنٍ دافئ لأول مرة.
كما أن الفيلم يتضمن بُعدا رمزيا يُسكن الفيلم: الماء رمز التطهير، والحميمية، والعودة إلى الذات؛ والضوء رمز الأمل، والشفافية، والانكشاف الداخلي. ويُمثّل البيت الضيق الكبت، ويعطي البيت المضياف فرصة للنمو: تنمو كايت بين منزلين ولحظتين من الظل إلى ضوء، ومن الخوف إلى الحضور. ويتحوّل الصمت إلى لغةٍ مقبولة حين يُسلّمها العالم المحيط بالاعتراف، وحين يُشعرها بكونها إنسانة تستحق على هذه الأرض الحياة.
يبدع الفيلم في بناء الحكاية الحكائية بامتدادٍ حساس: فهو لا يقفز بين المشاهد إلا حينما يشعر بأن النفس صغيرةٌ تحتاج أن تلتقط أنفاسها، ويسرّب الزمن لتُفعّل التجربة البصرية، ولتُكثّف لحظة لمس، ونظرة، وضحكة خجولة، ودمعة مختبئة.
وتخرج الحكاية من بيتٍ ثم تنتشر في الحقول، كما في الطبيعة، وفي حرية طفيفة، وفي أن تُقام الطفلة على قدمها بعد أن كانت تلتوي من الألم.
يعكس الفيلم فلسفةً إنسانية: يرى أن الكرامة تُبنى بالأفعال الصغيرة، وأن الإنسانية في نظرةٍ صادقةٍ لا في الكلام المرتفع. ويعود المخرج ثقافيا إلى الريف الإيرلندي في الثمانينات (1981) ليكشف كيف أن التنشئة الاجتماعية تُعلّم الصمت، وتُهمّش، وتُختزل الطفولة في صمت عمل وشقاء. ويُبرز كيف أن اللغة والدين والعادات يمكن أن تكون ملازمة للتقوقع أو للعنف الناعم إذا ما تخلّفت الرعاية.
يستخدم الفيلم الهوية السردية كهوية بصرية: الكادر الطويل ليترك مساحة للفراغ من حول الطفلة كايت حتى تشعر المشاهد بأنها صغيرة في العالم ثم يمدّها بالحجم عندما تراها في حضن شخصية سيان الذي عمد إلى تبنيها أو في بيت نظيف، وحينما يُطوى الليل ويُسمع صوت الرياح، وحين تدخل الشمس من الشرفة. ويحاور الخطاب البصري المشاهد بصمتٍ مزعجٍ، ويحفر داخل الجسد قبل الذهن، ويدعو إلى الانتباه إلى الضوء والظل، وإلى فرش السرير، وإلى الجوارب النظيفة، وإلى التنفس الأول المطلق من الخوف.
يخلّق الفيلم البصمة النفسية حين تختلط المشاعر: الخوف، الأمل، الحنين، والألم، مروره برسالةٍ من الأم تقول فيها إن المدرسة ستبدأ قريبا، وتشعـر كايت بالأمل والقلق معا، وحين تقول الزوجة إيفلين التي تبنت كاترين: “تكشف الأسقف الخفية التي تسكن البيوت، وتكشف أن الصمت ظلٌّ كبير يركله الزمن بصمتٍ لا يُطاق”.
يشرك الفيلم أبطاله في دفاعٍ صامت عن الحنان، وعن الاعتراف، وعن أن تكونَ الطفولة ذات قيمة إنسانية. ويحرّك شخصية سيان بيده التي تضع كعكة على الطاولة، فهو كبطلٍ لا يتحدث كثيرا لكن يرسم بالأفعال صورة مختلفة من الأبوة والحنان.
وتخرج الفتاة الصغيرة كايت من حالة وجود مشطوب من الذاكرة إلى وجود يُحسب له ألف حساب، وتخرج من الغياب العاطفي إلى أن تأخذ حقها في العمر، وفي الحب، في أن تُشارك…
يحتل فيلم “The Quiet Girl” موقعا مميزا في سينما الإنسانية التي تؤمن بأن الكرامة تُخلق في التفاصيل، وأن الصمت يُمكن أن يكون صوتا إذا ما استمع إليه أحد، حينما تردد الطفلة كايت كلمة “بابا” مرتين التي تحوي كل وجدانها، وكل انتظارها، وكل أملها في أن تُحتضن. وتُعيد هذه اللحظة للفيلم زخمه حول حكاية حيّة تنبض بالحياة وهي اللحظة التي حاول المخرج التقاطها بكل تفاصيلها: طفلةٌ حقيقية تُرى وتُحبّ وتُشعر بأن وجودها مهم.
البحث عن السلام الداخلي
تُظهر الصورة البصرية البديعة لفيلم “الفتاة الهادئة” كيفية تمثيل ذات “Cáit” (تنطق في اللغة الايرلندية كايت وهو تصغير شائع لاسم كاترين) من خلال الصمت والحواس الصغيرة والحركات الخفيفة: نظراتها، سلوكها الجسدي حين ترتعش أو ترتعش يدها، حين تراقب التفاصيل في الطبيعة، وفي الأغراض المنزلية، وفي حركة الضوء والظل حولها؛ وتلك الإشارات المرئية تعمل على بناء ذات تبدو مهملة في بيئتها الأصلية، وتفتقر إلى الحنان، فتتفحّص العالم بخجل وتخوّف. ويشكّل هذا الصمت دفاعا نفسيا، وحماية من الخذلان، ومن الألم الذي عايشته: أب غائب بالكلمة وبالحضور، وأم متعبة، الأسرة محاصرة بالفقر وضغوط الحياة اليومية.
تحكم كايت رؤية تُولّد مع الوقت من التفاعل مع أهل القرب، من الحنان الذي يقدّمه الأقارب إيفلين وسيان برعايتها البطيئة والاعتراف بوجودها. ولا تدافع كايت بصخب، إنما تدافع بهدوء: باستحقاق للاهتمام، بحركات بسيطة، وبتقبلها لنفسها حين تغتسل للمرة الأولى بماء دافئ، وحين يُنظّف عمال المنزل وجها ويدين. وعندما تُمنح قطعة شوكولاتة صغيرة – تلك اللمسات تمنحها إحساسًا بأنها تُرى، بأنها مهمة. وتتحول الرؤية التي تحكمها من الخفاء إلى رؤية ذاتها ككائن يستحق الحب والرعاية.
يبدأ التمثّل لذاتها من موقف مراوغة للصمت ثم إلى أن تطالب بلحظات محبة، وبدفتر ذكريات عبر التفاصيل الحسية: رائحة الخبز في المطبخ، وصوت المطر، ودفء إحساس الأيدي، وطبق الحساء، والمياه التي تُغسل بها، ونظافة الجسد الملطّخ. وتُمثّل تلك التفاصيل استعادة لذاتها التي كانت منسية في بيتها الأصلي. ويبدأ الشعور بالانتماء يتشكل بينما تراه يتجسد على أرض الواقع، تُعانقها اليدان، وتُقاس محبتهما بالأفعال الصغيرة لا بالكلمات العظيمة.
يُقسم عالم كايت بين ما عاشته وبين ما تراه: عالم العائلة الأصلية، حيث الغياب، والخجل، والإهمال، والجوع، والفقر الاقتصادي، والشعور بأنك زائد، ثم عالم الاعتراف بها، وتكوين سلام داخلي جزئي. فتُفتح أمامها إمكانيات أخرى. ولا يقدم الفيلم معالجة درامية عاصفة للصراع الاجتماعي والاقتصادي، لكنه يُسجّلها في تفاصيل: كيف أن الفقر يجعل الأب يعجز، وكيف أن الأم مرّهقة، وكيف أن المجتمعات الريفية في ذلك الزمن ترى الأطفال كمهمّة وليس كمخلوق يحتاج للحب، وكيف أن النظام الاجتماعي والديني التقليدي يخنق الفرد، يخنق الطفولة.
تراكم اللحظات الصغيرة للحب
تنبع الأبعاد السياسية من لغة الفيلم (اللغة الغيلية Irish language رغم أن الرواية الأصلية مكتوبة بالإنجليزية)، مما يجعل الفيلم موقفًا من ثقافة غالبًا ما شهدت إهمالًا واستعمارًا لغويًا. واختيار المخرج أن يُنطق الفيلم باللغة المحلية يعطينا إحساسًا بأن هوية كايت مرتبطة بالكون اللغوي والثقافي الذي تربّت فيه رغم الصمت. وتصير اللغة رمزًا للانتماء وللجذور. حين لا يتحدث الأب الغيلية ويظل بعيدًا، يشعر المشاهد بأن هناك فجوة تمثّل تحييد الهوية أو إهمالها.
تُمثّل الأبعاد النفسية عبر الصمت، والأنسجة العاطفية الممزقة بين الخجل والرغبة في الأمان، بين الإهمال والحنان.
وتعاني كايت من شعور بأن لا مكان لها، من الخوف من الرفض، ومن الانكسار، لكنها تُظهِر مرونة داخلية: تراكم اللحظات الصغيرة للحب والاهتمام يفسح مساحة لتشكّل أنا أقوى مما كنت.
تبدو الأبعاد الاقتصادية بطبيعتها مؤثرة: بيت الأسرة الأصلي ضيق الموارد، والأب مقصر في المسؤوليات، والقدرات محدودة. بيت الانتقال أفضل قليلًا، ليس مترفا لكنه يوفر ما يكفي من الحميمية. ويظهر التفاوت الطبقي في الزراعة، وفي العمل اليومي، وفي الفقر الذي يفرض الصمت، الإهمال، وفي كلفة الأطفال الذين يُعتبرون عبئًا.
تتجلى الرمزية في الماء؛ الماء يكون عامل تطهير، وكلحظة ولادة جديدة: المشاهد التي تغتسل فيها كايت، حين تُغسل الأوساخ، وحين تتبلّل من سقوطها في البئر، وتلك المياه تُعيد جزءًا من الروح؛ الثياب-ثياب صبيان أو ملابس ولد يرجع بها سيان وإيفلين إلى عملهما رمزيًا في فكرة أن كايت يُعاد تشكيلها في مكان بين الحياة والموت، وبين الماضي والحاضر.
ويستخدم الضوء والظل في الفيلم ليبين الحالة النفسية الداخلية؛ كما الطبيعة الخضراء، والغطاء النباتي الذي يحجبها ثم يكشفها تدريجيًا يسمح للمشاهد أن يرى كيف تنتقل من العتمة الداخلية إلى نور الرعاية.
ويعتمد جمال الصورة البصرية على الإضاءة الطبيعية، والموسيقى اللطيفة، الأصوات المحيطة مثل صوت الرياح، وصوت الطبيعة، وصوت الأقدام على الأرضية الخشبية، والقش، والماء. وترافق الكاميرا كايت من قرب وإلى داخلها، ومن ثم تبتعد لتُظهر المساحات التي تحيط بها لتُبيّن مدى عزلة الطفلة، ثم القرب من اللازم لنعرف أن الصمت يعني الكثير.
الصمت والأسرار: مساحات القوة والضعف
يقيّم الفيلم باعتباره “عملًا فنيًا استثنائيًا” لأنه يجمع بين البساطة والعمق، ويقدم تجربة تأملية توغل في النفس بدون استعجال، بدون دراما زائدة. باعتباره قصة مؤثرة عن الهوية، عن الانتماء، عن كيف أن الحب يمكن أن ينقذ دون أن يُنطق.
وأحد أجمل الاقتباسات جاء على لسان الزوج؛ زوج إيفلين حيث قال: “كثير من الناس فوتوا الفرصة ليقولوا لا شيء، وخسروا الكثير بسبب ذلك”، وتعبير آخر قالته إيفلين، المرأة التي استقبلت كايت في منزلها: “إذا وُجدت أسرار في بيت، فهناك عار في ذلك البيت”، وتعكس هاتان العبارتان كيف أن الصمت والأسرار يعتبران مساحات القوة والضعف في الوقت نفسه، وكيف أن الاعتراف ضروري للتداوي.
تمثّل الطفلة كايت لقضيتها يتمّ عبر المطالبة بالكرامة؛ ولا تطالب بالأسباب، ولكنها تستحق أن تُرى، أن تُعامل بلطف، وأن تُعطى حقها في الحب والرعاية. فهو دفاعٌ بلا صخب عن طفولة محتملة أفضل، وعن فكرة أن الطفلة لا يُنظر إليها ككمّ زائد وإنما ككائن يستحق أن يعيش.
يطرح الفيلم رؤية أخلاقية وجمالية متدخّلة: يرى أن الكرامة الإنسانية تبدأ من الرعاية، وأن الأفعال البسيطة تُحدث فرقًا كبيرًا، والصمت له مقاييسه، والحياة رقيقة، ويجب الانتباه للتفاصيل. وتقدّم السينما كهجاء للظلم الاجتماعي المختفي، وللغضّ عن الأطفال، وللصمت المجتمعي تجاه الأذى الناعم.
يتأسس الفيلم على جمالية هادئة وقائمة، بتدرّج المشاهد: لا قفزات في الزمن دون تحضير، ولا تغييرات مفاجئة في النبرة من دون مؤشرات بصرية أو صوتية. وكل مشهد يُعدّ، وكل حركة، وكل نظرة، وكل تغيير في الضوء يحمل معنى.
وتلتقط العين الزهور، والألوان الترابية، وتفاصيل الإضاءة المُعتمة التي تُشير إلى الضيق، ومن ثم الضوء الذي يدخل النوافذ، والماء الذي يعكس. وتُركّز الكادرات على مساحة البيت المزري، ثم تتوسع لتري الحقول، لكن مع ترك كايت صغيرة في الإطار أو مخفية أحيانًا، مما يعكس شعورها بالفرط من عدم الظهور.
يظهر الرابط بين العرض البصري وبين العالم الداخلي للطفلة كايت أن العالَم من حولها ليس ثابتًا وإنما يُشكّلها، ويتماهى بين البيئة والمشاعر. وتحوي البيئة الريفية المتقشفة صخب الأمس وقلق الأب، لكنها أيضًا الأرض التي تُعيد لها الجذور، والتي تُهذب الذكريات. وتبرز السياسة الاقتصادية والاجتماعية لخصّة الزمن في تراجع الزراعة، وفي الفقر، وفي أن الأب لا يستطيع تنفيذ مهامه، وفي أن المكان يقدّم صورة لمن عانى من هشاشة.
ويتساءل المشاهد متى يتحوّل الخوف المكتوم إلى وجود ينبض بالضوء داخل طفلة؟ متى يُصبح الصمت خير شاعر ينطق بصراخٍ لا تُزيّفه الكلمات؟
يعلن الفيلم أنه يُمهِّد لمشهد إنساني يُعيد للحس قيمة، وللطفلة اسمها، وللطفولة كحقٍّ لا يُحجب، وللغة التي تُحكى بالنظرة قبل الكلمة، حين قالت تحت ضوء المساء: “كل لطف نناله في الحياة يصبح جزءًا منّا”، فإنها تُعلِن أن زراعة الحب تحصد الحب نفسه.
تجمع كل هذه العناصر في لحظة أخيرة في الفيلم: عندما تجري كايت وراء إيفلين وسيان وتصرخ “بابا” مرتين، ثم تُدفن في حضن سيان بينما والدها يحاول اللحاق بها، تلك اللحظة تحمل كل التوتر العاطفي، كل العوالم التي اختلطت: الخوف، الحب، الحنين، الأمل. خاتمة تُعلن أن الحب الحقيقي والتعاطف يمكن أن يغيّرا مسار الطفل، أن السمع إلى الصمت مهم، أن الاعتراف مهم. ويؤكّد فيلم “الفتاة الهادئة” أن البشر الصغار يحتاجون فقط أن يُعترف بهم، وأن يُعاملوا ببساطة وإنسانية، حينذاك يصير لهم صوت داخلي يحقق الذات: الحنان المكتسب الذي يُصبح شعر القلب، ويُصبح ذاكرةً تُضيء ما تبقى من ظلال وغيوم تحجب رؤية نبض القلب.
0 تعليق