أجيال بين المراتب والفراغات
هل يمكن لجيل من غير اسم أن يُعْلن عن نفسه في زمن الأسماء الجاهزة؟ وهل يكفي أن نُختصر في حرف لاتيني حتى نصبح مرئيين في عيون الآخرين؟ ماذا لو كان سِرّنا الأعمق أننا لم نتحوّل بعدُ إلى معادلة جاهزة، ولا إلى منتج ثقافي أو اجتماعي قابل للتداول، ولا إلى بندٍ في سجلات الشركات؟ ألسنا نحن الذين تعلمنا في أوراق صغيرة ما لم تُعلّمنا إياه الهواتف الذكية، عكس الذين سافروا على أجنحة الشاشة قبل أن يعرفوا جغرافيا العالم؟ وهل غياب التصنيف قيدٌ يكبّلنا، أم فسحة نكتب فيها سَرْدنا خارج القوالب التي فُرضت على سوانا؟
من غير أبجدية، ولا وَسْم
لم ينتم جيْلي قطّ إلى أي أبجدية متداولة في القواميس الإعلامية الحديثة. لسنا من “X” الغامض الذي يهْوَى الانزواء بين أسطر التاريخ، ولسنا من “Y” المتردد بين الألفية وما بعدها، ولسنا من “Z” التي صارت حديقة اصطناعية يمرح فيها خبراء التسويق وعلماء النفس الاجتماعي. نحن ببساطة جيل بلا بطاقة هوية رقمية، بلا شعار تسويقي، ومن غير وسْم جذاب على “تويتر”. نحن جيل مجهول الصفة، لكنه لا يجهل نفسه، جيل عاش بين الغبار والطباشير، ثم انتقل، في لحظة خاطفة، إلى شاشات ساطعة تُشبه المرايا أكثر مما تُشبه الكتب.
لقد تعلمنا في مدارس لم تكن تعرف “Wi Fi”، كتبنا على دفاتر ورقية تتحول أطرافها بمرور الأيام إلى خرائط للزمن، ونسخنا الدروس حتى تعبت أصابعنا، وحفظنا المتون حتى ذابت عقولنا، ولم يصفق لنا أحد. لم نكن رقميين البتة، وإنما كنا ورقيين، طباشيريين، حبريين.
نعم؛ لم يكن لدينا “غوغل” لنطرح عليه الأسئلة الوجودية. كنا نسأل معلماً متعباً، يجيبنا بإجابة ناقصة، فنكملها من خيالنا؛ من هنا ربما جاءت فلسفتنا. لم نكن نحفظ التعريفات كما هي، وإنما كنا نعيد صياغتها كي نتذكرها. لهذا صار بيننا شعراء وروائيون ومفكرون، بدل خبراء “سوشيال ميديا” من دون ذاكرة.
جيلنا لم تكن له هواتف ذكية، كانت له هواتف غبية لا تعرف إلاّ الرنينَ أو الصمت. أما الآن، فالهاتف الذكي أضحى يختزل الهوية، ويوزع الصداقات، ويبيع الأحلام، ويفتح أبواب الذكاء “الاصطناعي” على مصراعيها، حتى صار الطالب يعرف ” Chatgpt ” قبل أن يعرف أفلاطون أو ابن رشد. نعم درسنا بدون “غوغل”، وحفظنا بلا “نسخ-لَصْق”، ومع ذلك اجتزنا الامتحانات، وأقمنا النقاشات، وأحببنا الكتب كما يُحب العاشق قصيدة لم تُكتب بعد. ربما كانت وسائلنا بدائية، لكنها صنعت فينا ذلك الشيء الغامض الذي لا يحمله جيل الهاتف الذكي: القدرة على الانتظار، فنّ التركيز، ولذة الخطأ. نحن الذين كنا نبحث عن معلومة في عشرة مجلدات، بينما اليوم يُفتّش عنها الطالب في شريط بحث يختصر العالم في ثانية واحدة.
المفارقة الكبرى أنّ جيل الهاتف الذكي يملك أدوات المعرفة أكثر منا، لكنه يتعثر في أبسط اختبار للذاكرة، ويملك حرية الوصول أكثر منا، لكنه يضيع في متاهة الاختيارات. نحن الذين لم نُصنّف أبداً كجيل، نحمل في صمتنا هذا التعريف النادر: نحن برهان حي على أن التعلم لا يحتاج إلى لافتة، ولا إلى وسْم، ولا إلى هوية تسويقية. يكفي أن تملك رغبة، دفترًا ممزقًا، وقلمًا ينزف ببطء.
لذلك، إذا أردتم تسميتنا، فلنكنْ “جيل اللاشيء”. إنه أجمل أسماء الأجيال، لأنه لا يوحي بحدود، ولا ينتهي عند تعريف، ولا يذوب في شاشات مضيئة. جيلنا لا أبجدية له، لكنه ممتلئ بما يكفي ليكون أبجدية بحدّ ذاته.
ولعل ما يزيد مفارقة هذا الجيل أنّه عاش الانتقال الأعنف في تاريخ المعرفة دون أن يخطط له. لقد وُلدنا في زمن لم يكن العالم فيه “متصلاً”، ولم نرَ أنفسنا فجأة في كوكب بلا حدود؛ بيد أننا انتقلنا من رفوف مكتبات متواضعة في مدارس الأحياء الشعبية، إلى فضاء إلكتروني تتزاحم فيه العناوين حتى يختفي الكِتَاب بين الإعلانات؛ ومع ذلك لم نفقد القدرة على التمييز، إذ لا يزال في ذاكرتنا حسٌّ نقدي نادر، تشكَّل بين دفاتر الرياضيات الممزقة وحصص الفلسفة التي كانت تُلقى كما لو أنها أسرار محفوظة.
جيل الهاتف الذكي يملك تطبيقات للتأمل، وأخرى لتعلُّم التركيز، وثالثة لإدارة النوم. نحن لم نكن بحاجة إلى ذلك: كان الضجيج في الفصل كافيًا لتعليمنا كيف نستحضر الصمت الداخلي، وكان انتظار الحافلة تحت المطر تمرينًا طبيعيًا على التأمل، وكان النوم يأتي من غير إشعارات ولا أجهزة لقياس “جودة الحلم”. هكذا تربينا على بداهة العيش، بينما يفتش غيرنا اليوم عن هذه البداهة في كتيبات التنمية الذاتية وفيديوهات اليوتيوب.
والأدهى أن جيلنا تعلم من الفشل أكثر مما تعلم من النجاح. سقطنا في امتحانات، نسينا دروسًا، حملنا كتبا أثقل من أكتافنا، لكن كل تلك التعثرات صنعت فينا قدرة على النهوض بمرونة لم تعد متاحة في زمن تُحذف فيه الهزيمة بمجرد لمس شاشة. في عالم اليوم، زرّ صغير يكفي لطمس الخطأ، بينما كنا نعيش معه وجهًا لوجه، نتعلم من تجاعيده الباقية في دفاترنا.
لقد تشكل وعيُنا بين جدران عارية وسبورات سوداء، فتعلمنا أنّ المعرفة ليست استعراضًا، وإنما مقاومة للصمت والفراغ. لهذا، حين نراقب جيل الهاتف الذكي وهو يُفتش عن “أكثر الوضعيات إبداعًا لالتقاط صورة مع كتاب”، ندرك المسافة التي تفصل بين من عاشوا المعرفة بوصفها جوعا حقيقيا، ومن استهلكوها باعتبارها زينة في معرض افتراضي.
ذكاء الارتجال: فن البقاء من غير أدوات رقمية
وما يُدهش حقًّا أنّ جيلاً بدون لقب، بدون أبجدية، بدون تصنيف، صار هو الجسر الذي أوصل الإنسانية من زمن الورق إلى زمن الشاشات. نحن لم نخترع الإنترنت، لكننا أول من سافر فيه بارتباك حقيقي؛ لم نصنع الهواتف، لكننا أول من تعثر بها قبل أن تصبح امتدادًا طبيعيًا للجسد. نحن جيل الوسط، الجيل الذي لم يُسمَّ لأن كل التسميات سقطت من بين يديه: لسنا قدامى بما يكفي لنكون ذاكرة، نحن ببساطة حاضر ممتد، تجربة مفتوحة، شاهد حيّ على أن الأجيال ليست أحرفًا، وإنما طبقات من المعاناة والاكتشاف والضحك.
إذا كان جيل الهاتف الذكي، يا سادة، قد تعلم أن يضغط على “زر الحذف” ليعيد صياغة العالم كما يشتهي، فإن جيلنا تعلّم أن يكتب بخطه على دفتر قديم، ويترك للتاريخ مهمة القراءة. وما أجمل أن نُعرِّف أنفسنا بتهكُّم لا يخلو من جدية، بأننا جيل اللاشيء، الجيل الذي أثبت أنّ غياب الهوية أحيانًا هو الهوية الأعمق. قد يُقال إن جيلنا لم يعرف “الذكاء الاصطناعي”، وهذا صحيح، لكنه عرف ما هو أدهى: “الذكاء الارتجالي”. كان علينا أن نخترع حلولًا صغيرة من العدم، أن نُصلح القلم بكسر عود ثقاب، أن نحوّل حقيبة مدرسية ممزقة إلى كائن صامد بقطعة خيط، أن ننجز بحثًا جامعيًا بقراءة ما تيسر من ثلاثة كتب مهترئة. لم يكن أمامنا سوى براعة اليد وخيال الذهن، بينما يملك جيل الهاتف الذكي آلاف التطبيقات لحل أبسط معادلة أو لكتابة مقال بضغطة واحدة. الفارق أن “ذكاءنا الارتجالي” يصمد أمام العطب، فيما “ذكاهم الاصطناعي” يتوقف بانقطاع الشبكة.
لقد عاش جيلي في زمن بطيء، وكان هذا البطء ثروته الحقيقية. كنا نتعلم أن الطريق إلى المكتبة لا يقل قيمة عن الكتاب نفسه، وأن ساعات الانتظار قد تكون أحيانًا أهم من لحظة الوصول. أما جيل الهاتف الذكي فقد دُرّب على السرعة حتى صار يخلط بين المعرفة والتصفح، بين الفهم والتمرير بالإصبع. ومن المفارقة أن السرعة التي يفتخر بها اليوم لم تنتج إلا هشاشة في التذكر، وقلقًا في العيش.
ومع ذلك، لا نتوهم أننا كنا أبطالاً في زمن نقيّ. لقد عرفنا الملل الطويل، عرفنا انكسار الأحلام. لكن كل ذلك صنع فينا حاسة غريبة: القدرة على الضحك من المأساة. وهذه الحاسة بالذات تكاد تنقرض اليوم؛ إذ لم يعد الضحك عند جيل الهاتف الذكي سوى “إيموجي” يرسلُ في المحادثة، بينما كان عندنا “موقفًا فلسفيًا”، طريقة للنجاة، تمرينًا على تحويل ثقل الحياة إلى خفة عابرة.
جيلنا لم يُصنف، وربما هذا سرّه الحقيقي: أننا لسنا مكرَّسين لاقتصاد السوق، ولا موضوعًا مغلقًا لعلم الاجتماع، ولا حتى فئة إحصائية تستهلك الإعلانات. نحن جيل انزلق من الشبكات قبل أن تُحكم خيوطها، جيل ضائع “في نظرهم”، لكنه في الحقيقة حرٌّ، لأنه أفلت من المصيدة الكبرى: مصيدة التسمية.
ولعل أجمل ما في الأمر أنّ غيابنا عن الأبجدية لم يمنع حضورنا في التاريخ. فنحن، بلا هواتف ذكية، بلا تصنيفات، بلا شعارات، كنا الجيل الذي اختبر الانتقال الكوني بأكمله: من الكتاب إلى الشاشة، من الخط إلى النقر، من الزمن البطيء إلى الزمن الخاطف. وما دام التاريخ لا يُكتب بوُسوم الشبكات، فإن نصيبنا من الدهشة سيظل محفوظًا: أن نكون الجيل الذي لم يُسمَّ قط، لكنه ترك في صمته كل التسميات الأخرى معلقة في الهواء.
الأثر قبل الاسم: فلسفة جيل التحمّل
كل جيلٍ بعدنا سُمّيَ بحرف أو لقب: جيل X، جيل Y، جيل Z… وكأن الحياة صارت مختصراً أبجدياً لجدول Excel عالمي. لكننا، نحن الذين وُلدنا في فجوة زمنية مربكة، لم نُمنح لا حرفاً ولا رقماً ولا حتى شتيمة. جيل الهاتف الذكي يضغط زرّاً واحداً فيتدفّق عليه العالم؛ أما نحن فقد ضغطنا أعصابنا حتى تنفجر لنحفظ بيت شعرٍ واحد.
لا تفهموني خطأ، نحن لا نزهو بفقرنا التكنولوجي. لكننا نزهو بأننا عرفنا العالم قبل أن يتحوّل إلى شاشة. عرفناه برائحة المطر لا بأيقونة الطقس، بانتظار رسالة بريدية لا بإشعار لحظي، بصوت المذياع لا بطنين “نوتيفيكايشن”. لقد وُلدنا جيلًا بدون حرف، وهذا ربما أفضل ما حصل لنا: لا أحد يستطيع حشرنا في معجمٍ أو دراسةٍ سوقية. نحن الورق في زمن الشاشة، والحبر في زمن الضوء، والصمت في زمن الضجيج. لقد تعلمنا الكتابة في دفاتر تُزيّنها زهور بلاستيكية، وكان حلمنا أن نمتلك قلم ” Parker ” أو “دفتر spirale”. جيل الهاتف الذكي يتباهى بأنه متعدد المهام: يسمع الموسيقى بينما يكتب، بينما يتحدث، بينما يرسل “إيموجي”. نحن كنا متعددِي الطوابير: ننتظر عند الفرّان، ثم في طابور الماء، ثم في طابور الحافلة التي لا تأتي. نحن الذين عرفنا الشوارع بدون ” Google Maps”، واهتدينا بالذاكرة لا بالبوصلة الرقمية. عرفنا الحب برسالة ورقية نخفيها تحت الوسادة، لا بقلب أحمر يُرسل في ثانيتين . لقد اختصرنا أنفسنا في جملة واحدة: جيل التَّحمل؛ تحملنا الملل، والبطء، والغبار، والطباشير، وصوت المعلم النشاز، وأحلامنا التي كانت أكبر من حجم جُيوبنا. قد لا نحتاج إلى لقبٍ يختصرنا ولا إلى خانةٍ تؤرشفنا، فالقيمة ليست في الحرف الذي يُلصق بنا، بل في الأثر الذي نتركه خلفنا.
القيمة في التجربة، لا في الحرف
هل يكون غياب الاسم والحرف حقاً فقدانا، أم هو دعوة لنرسم مصيرنا بألواننا الخاصة، من غير قيود مسبقة تحدد رؤيتنا؟ وإذا كان جيلنا لا يُختزل في حرف أو رمز، فهل يمكن أن ندرك قيمته حقاً، أم أن القيمة تكمن في التجربة نفسها؟ أليس في غياب التصنيف فرصة لنرى أنفسنا بعيوننا وحدها، من غير انعكاسات جاهزة لنكتشف أخيراً من نحْنُ وما الذي نستطيع أن نكونه؟
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.
0 تعليق