السلم والاستقرار .. نعمة ثمينة - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تقديم:

في عالمنا المعاصر الذي يشهد توترات سياسية وأزمات اجتماعية وأمنية متعددة، كما يعرف مخاضَ إعادة رسم الخرائط تُحدث هزات عنيفة في بلدان كثيرة منها دول قوية ومتقدمة، وحيث ذهب مع الريح أمنُ واستقرارُ وراحة ورغيفُ ملايين المواطنين العالميين، الذين حلموا بأوضاع أفضل فنهضوا دون نور وعي سياسي عميق ورصين ودون تقديرٍ كافٍ لتاج الأمن والاستقرار الذي فوق رؤوسهم، وفي سياقات دولية معقدة ودقيقة نعيشها منذ أكثر من عقد، سيوافق كلُّ عاقِلٍ على اعتبار القيمة العظمى التي يحملها السلم والاستقرار في العالم اليوم، والتي تعتبر من أبرز المميزات التي يتمتع بها بلدنا العزيز وهو المملكة المغربية.

في وقت تعصف فيه أزمات عميقة باستقرار وسلم وسلامة العديد من الدول، بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا وآسيا والقارة الأمريكية، وهي أزمات بالطبع متباينة الحدة والخطورة، يتواجد الشباب في بعض هذه الدول في قلب الاحتجاجات المطلبية وسياقاتها، في هذه الأوقات يبقى المغرب بفضل طيبة شعبه وحكمة قيادته ووعي مواطنيه، واحدًا من الدول القليلة التي استطاعت البقاء صامدة أمام هذه العواصف، منذ كارثة كوفيد 19، التي سجل فيها قدراته العالية في الالتحام وبعد النظر وقوة المبادرة ونجاح التخطيط. لم يكن هذا السلم الداخلي في المملكة ليُدرَك لولا الجذور الحضارية للدولة وللثقافة المغربية المستمرة لقرون، والتي انعكست في تعزيز مستمر ومتبصر للأمن والاستقرار بالمملكة، رغم العواصف التي هبت على البلاد وهي تبني وتعيد البناء في موقع جيوسياسي ليس من الصعب إدراك تشابكاته وتحدياته المُركبة. يتعلق الأمر في بلدنا العزيز بميزاتٍ ونِعمٍ لا تقدر بثمن، تصون الدولة بموجبها حقوق الناس وسلامة عيشهم الآمن، وهو ما يشير إليه الفيلسوف والفقيه السياسي الفرنسي جان جاك روسو، (“العقد الاجتماعي” 1762)، حيث يقول أن: “أمن الدولة هو مبدأ القوة الشرعية التي تضمن حقوق الأفراد.”، وبالتالي فإننا نقول بأن ميزتا الأمن والسلام في المغرب تظل وستبقى واحدة من أهم العوامل، التي عززت مكانته في الساحة الدولية في خضم ما يشهده العالم من قلاقل متزايدة.

فيما تواصل دول مواجهة الحروب الداخلية والأزمات الاقتصادية الخانقة والاحتجاجات الاجتماعية العارمة وردود الأمن العنيفة والصارمة – المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وأمريكا وهولندا … – ينعم المغرب بتوازن سياسي وأمني يستحق الثناء. لكن رغم هذه النعمة لم تخلُ احتجاجات الشباب الأخيرة من التحديات التي تثير الأسئلة حول أسباب التحولات العنيفة التي شهدتها في طيلة أيام دوامها.

أ – عن جيل ز ولفهمه: بداية سلمية وعُنف مُنفلت.

شهدت المملكة في الأيام الأخيرة احتجاجات اجتماعية شبابية، أطلق على الداعين إليها “جيل ز 212 ” وهو جيل بين 15 إلى 30 سنة من العمر، نشأ في خضم انشار التعاطي مع خدمات التقدم التكنولوجي الرقمي، وما حمل معه من تغيير كبير لدرق التفكير والإدراك والنظر إلى الذات وإلى الآخر وإلى العالم، والوعي المدني وتقدير الحق في ارتباطه بالواجب والمسؤولية، كما جعلت هذه السياقات جيل ز ينظر إلى واقع البلاد وتجربة الجيل السابق السياسية والاجتماعية نظرة مختلفة. جيل ز جيل مختلف، فهو منفتح أكثر على العالم في تنوعه، مواكب للثورة الرقمية التي غيرت آليات وأشكال وطرق التواصل والتعبير عن الرأي، وهذه اعتبارات لابد من أخذها يعن الاعتبار في محاولة فهمه والتعامل معه.

بدأت الاحتجاجات سلمية في البداية إثر نداء على منصات مثل Discord, Tik Tok, Instagram …. أعلن أصحاب النداء للاحتجاجات منذ البداية أن أهدافهم مطالبُ بتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للشباب في مجالات مثل التعليم والعمل والصحة والإسكان أساسا. ومع ذلك وكما حدث في العديد من الحركات الاحتجاجية حول العالم، سرعان ما تحولت بعض هذه الاحتجاجات السلمية في بعض الأماكن إلى أعمال عنف، شملت تكسير الممتلكات العامة وإضرام النيران والنهب. يثير هذا التحول تساؤلات عميقة حول دوافعه وعمن يقف وراءه؟ يعزو إريك هوفر، (“الطاعة الجماعية” 1951) هذا النوع من العنف إلى الظاهرة الجماهيرية، حيث يقول: “يتم استغلال الأفراد المُحبَطين للانخراط في حركات العنف، من خلال الخطاب يثر السخط كوسيلة لتحقيق أهداف غير واضحة.” وبذلك تُظهر بعض احتجاجات “جيل Z” أن التحولات العنيفة قد تكون نتيجة تلاعب من أطراف مجهولة تحاول تأجيج الاحتجاجات لأهداف أخرى غير معلنة.

ب – تعليق الاحتجاجات من طرف حركة “جيل Z”.

بعد سلسلة من الأحداث العنيفة، يظهر في انتظار التأكيد، من خلال منشور على الإنترنت ظهر قبل يوم أمس، نادت حركة “جيل Z” بتعليق الاحتجاجات، مشيرة إلى أنها ليست مسؤولة عن أعمال العنف وبأنها لم تدعو لذلك مطلقا. أعلنت الحركة بشكل واضح عبر منشورها ذاك ومنذ البداية حتى، عن رفضها لكل أشكال العنف والتخريب الذي تم تحت غطاء الاحتجاجات السلمية، وهو قرار يظهر حرصها على العودة إلى ميثاق السلمية الذي أصرت عليه منذ البداية.

يشير الفيلسوف إيمانويل كانت، (“نقد العقل العملي” 1788) إلى أن الواجب الأخلاقي يتطلب من الأفراد الالتزام بمبدأ المسؤولية، فالقيم ثنائية دائما تجمع ما لك وما عليك: حريتك مقابل مسؤولية أفعالك وحقك مقابل واجباتك

يتجسد هذا المبدأ الأخلاقي في مواقف مثل تلك التي اتخذتها حركة “جيل Z”، حين قررت الابتعاد عن العنف والحفاظ على قيم السلمية كأداة رئيسية للتعبير عن الرأي والمطالبة بالحقوق ضمن معايير العقل والقانون وفضاءات وأُسس العيش المشترك.

ج – غياب الإطار القانوني والتنظيمي للحركة.

أحد الأسباب التي قد تفسر تصاعد العنف هو غياب إطار قانوني أو قيادة واضحة تمثل حركة “جيل Z”.، رغم انتشار مطالب هذه الحركة على منصات التواصل الاجتماعي، إلا أنه لم يكن لها مشروع سياسي أو برنامج فكري أو مقترح آليات عملية واضح ينظم مطالبها أو يحدد أهدافها بشكل دقيق. يقول ماكس فيبر، (“الاقتصاد والمجتمع” 1922): “يقوي غياب القيادة الواضحة من مظاهر الفوضى ويزيد من احتمالية انحراف الحركات الاحتجاجية عن أهدافها الأصلية.”

نعتقد أن الفراغ التنظيمي لحركة Gen z 212 جعلها عرضة للاستغلال من أطرافَ، قد تروج لأهداف سياسية أو اقتصادية قد تكون بعيدة عن مطالب شباب جيل ز الحقيقية. ومن هنا تأتي أهمية وجود إطار قانوني تنظيمي يمكن أن يحافظ على سلمية الاحتجاجات ويوجهها بشكل مثمر بعيدًا عن الفوضى وعن العنف، يوضح رؤيتها ويمكنها من التركيز على المراد للبلاد وللعباد كما يعلنون بعفوية بادية.

د – مواكبة السلطات المغربية لاحتجاجات “جيلZ”.

في ظل تحول بعض الاحتجاجات إلى أعمال عنف، كانت السلطات المغربية حريصة على التفاعل مع الحراك بشكل يتسم بمزيج من الصبر والصرامة والحكمة. يظهر التعامل مع الحركات الاحتجاجية في المغرب أن السلطات، تدرك تمامًا أن السلم الاجتماعي هو السبيل الوحيد لتحقيق التنمية المستدامة لكن التظاهر الحاش\ يتطلب يقظة أمنية وتأطيرا يحمي الممتلكات والناس من كل انفلات ممكن ومحتمل.

نعتقد على كل حال بأن هذه الاحتجاجات السلمية تحقق تفريغا لاحتقان كان يتكثف، كما أنه يوفر فرصة للسلطات الحكومية لمراجعة سياساتها التنموية وأبعادها التي تمس الحياة اليومية للناس خارج المعايير الماكرو-اقتصادية والتوازنات المالية والإكراهات الخارجية إلخ، لتحقيق مطالب المواطنين ذات الأولوية، حفاظا على المساس استقرار وأمن عام معروف تفوق المغرب في صناعته والحفاظ عليه.

لقد شكل التنسيق التنظيمي بين المواطنين والسلطات، كما رأينا، في بعض المدن خلال الاحتجاجات، شكل الصورة الأصلية والرفيعة للمغرب، وهو ما ينبغي صون أسسه وأسباب استمراريته الصحيحة، بتسوية المطالب الشبابية والشعبية ضمن استراتيجيات الدولة الكبرى في التنمية الهيكلية، التي تنهجها منذ أكثر من عقدين بنجاح غير مسبوق في تاريخ المغرب.

ه – السياق الوطني والدولي وتأثيره على الاحتجاجات.

يشهد المغرب في العشاريات الأخيرة تحولات سياسية واقتصادية، في ظل موقعه الاستراتيجي بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي وبين إفريقيا وأوروبا، وهو ما يجعله لاعبًا رئيسيًا في السياسة الإقليمية والدولية. وفي الوقت الذي يمر فيه العالم بتغيرات سياسية معقدة، تتعرض العديد من الدول للاضطرابات بسبب النزاعات والأزمات والحروب.

في هذا السياق يُحذِّر هنري كيسنجر، (“الدبلوماسية” 1994)، من أن “استقرار الدول لا يتحقق إلا من خلال توازن داخلي، مدعوم بتفاهمات بين النخب السياسية والشعب، وهو ما يوفر للأمة القدرة على الصمود في وجه الضغوط الخارجية.” وبالتالي فإن الحفاظ على الاستقرار والأمن الوطني في مغربنا العزيز وكما يتبين الاستراتيجيات السياسية العليا، عنصر أساسي ليس فقط لتحقيق التوازن الداخلي، بل أيضًا في تعزيز مكانة المملكة في الساحة العالمية.

و – المسؤولية المدنية: مبدأ المواطنة والحفاظ على النظام.

من واجب كل مواطن مثقف وناشط مدني أن يؤكد على أهمية الاحتجاجات باعتبارها جزءًا من حرية التعبير التي يضمنها الدستور المغربي. إلا أن هذه الحرية يجب أن تكون مُقترنة – وهذه مسألة مبدئية في كل التشريعات والفلسفات والأديان – بمسؤولية تجاه النظام والأمن العامين. يشير جون لوك، (“رسالة في التسامح” 1689)، إلى أن “الحرية لا تعني الفوضى وإنما مسؤوليةٌ تنطوي على احترام حقوق الآخرين والالتزام بالقانون.”

تفقد حقوق الإنسان حمايتها وبالتالي معناها، بمجرد المساس بحقوق الآخرين أو باستقرار الدولة التي هي الأمة في كليتها. ذلك أن الحفاظ على النظام العام هو واجب كل مواطن، وهو ما يضمن للبلاد التقدم والازدهار لذلك لا يمكن اعتبار الاحتجاجات مشروعا شرعيا، إذا كانت تؤدي إلى تدمير الممتلكات العامة أو الخاصة، أو إذا كانت تسبب إلحاق الأذى بالمواطنين كيفما كانوا.

ز – خاتمة: نحو فهم وتواصل وتوازن أفضل.

إن المشهد الاحتجاجي في المغرب اليوم بحاجة إلى فحص دقيق وموضوعي، ومن الأكيد أن هذا ما تقوم به الدولة كواجب باعتبارها ضامن الاستقرار والأمن والتنمية. صحيح أن الاحتجاجات تعبيرًا عن مطالب مشروعة لشريحة كبيرة من الشباب – ألم نكرر هذا مرارا وتكرارا على كل المنابر المكتوبة والمسموعة والمرئية – إلا أن الحوار البناء والمشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية، هما الطريق الأنسب لتحقيق التغيير المطلوب.

وبينما يجب الحفاظ على الاستقرار العام والأمن فإن المشاركة المسؤولة في الحياة السياسية والاجتماعية تضمن تسوية سلمية للمطالب ووعيا أكثر استراتيجية بها وبالتالي برمجتها مسبقا حسب الإمكانات، مع توظيف تواصل جماهيري مستمر واستراتيجيا واضح وذكي وملائم، لا يترك مجالا ولا ثغرات للمغرضين، في عالم يتميز بنيانه الرقمي بسلطة قوية للخبر وللمعلومة المزيفة.

يبقى أي تناول تحليلي نقدي رصين لهذه الاحتجاجات مبدئي كما نوهنا في بداية هذه المقالة الأولية، حيث أن المعطيات الحقيقية لا تزال غامضة، والنوايا الخفية التي قد تقف وراء هذه الاحتجاجات تستدعي تفكيرًا أعمق وتحليلًا مسؤولًا عند توفر المزيد من المرجعيات الموثوقة.

أخبار ذات صلة

0 تعليق