بالتزامن مع تخليد اليوم الدولي للفتاة، الذي يوافق 11 أكتوبر من كل عام، تتجدّد الدعوات إلى إيلاء مزيد من الاهتمام بفئة الفتيات في وضعية إعاقة، باعتبارهن الأكثر عرضة للهشاشة والتهميش المزدوج داخل النسيج المجتمعي. فإلى جانب الإقصاء المرتبط بالنوع تواجه هذه الفئة تحديات مضاعفة مرتبطة بالإعاقة، ما يجعل من قضايا التمكين، والتعليم، والولوج إلى الخدمات الأساسية ملفات أكثر استعجالاً، خصوصاً في السياق المغربي الذي مازالت فيه العديد من الأوراش الاجتماعية في طور التفعيل.
وفي حديثهن لهسبريس شددت مهتمات بملف الإعاقة على أن الفتاة في وضعية إعاقة تُواجه تحديات تختلف نوعياً عن باقي فئات ذوي الإعاقة، إذ لا تقتصر معاناتها على العوائق الجسدية أو الحواجز المجالية، بل تتقاطع مع نظرة اجتماعية تُحمّلها عبء “الضعف المضاعف”، باعتبارها أنثى أولاً، وشخصاً في وضعية إعاقة ثانياً.
وتُبرز المتحدثات أن الفتاة ذات الإعاقة غالباً ما تُقصى من فرص التعليم، وتُحرم من الحق في التكوين أو التشغيل، بل وتُدفع أحياناً إلى العزلة القسرية داخل البيوت، تحت مبررات “الحماية”، ما يُفقدها فرص التمكين والاستقلالية؛ كما أن الحديث عن الصحة الإنجابية، والعنف المبني على النوع، يظل من الطابوهات المسكوت عنها حين يتعلق الأمر بهذه الفئة تحديداً، في ظل غياب برامج تراعي حساسيتها وخصوصيتها.
ثقل التمييز
تقول فاطمة عسال، طالبة مجازة في القانون العام، إن الفتاة في وضعية إعاقة لا تكتفي بمواجهة الإكراهات المرتبطة بإعاقتها، بل تُصارع يوميًا ما تصفه بـ”التمييز المزدوج”؛ حيث تتقاطع النظرة التقليدية للمرأة مع الأحكام المسبقة التي تلاحق ذوي الإعاقة.
وتشير عسال إلى أن مسار الفتاة في هذا الوضع كثيرًا ما يُثقله الشعور بعدم الاعتراف، لا من المؤسسات، ولا من المجتمع، إذ غالبًا ما تُقصى من دوائر الفعل والمشاركة، ويُنظر إليها ككائن هشّ لا يُعوّل عليه.
وترى المتحدثة ذاتها أن الأمر لا يتعلق فقط بغياب التكييفات أو التسهيلات، بل بمنظومة ذهنية لا ترى في هذه الفئة سوى متلقٍ للرعاية، في حين أن فتيات كثيرات أثبتن أنهن قادرات على التميّز والإبداع إذا ما أتيحت لهن الفرصة.
وتضيف الطالبة فاطمة، في تصريح لهسبريس، أن هذا الوضع لا يمكن فهمه خارج بنية اجتماعية مازالت تنظر إلى الفتاة في وضعية إعاقة نظرة شفقة أو عبء، لا باعتبارها فاعلاً قادراً على الإسهام في المجتمع، وتؤكد أن الكثير من الفتيات يواجهن عراقيل صامتة داخل الأسرة نفسها، بين من يُثنيهن عن الدراسة، أو يُضعف ثقتهن في ذواتهن، أو يُقصي أحلامهن في الاستقلال.
وتشير عسال إلى أن تمكين الفتاة في وضعية إعاقة يبدأ أولاً من الاعتراف بها كمواطِنة كاملة، لها الحق في التعليم والعمل والكرامة، بعيداً عن صور الإقصاء أو الاستغلال التي مازالت تتكرر بصمت.
وتوضح الطالبة الكفيفة في القانون العام أن نسبة الفتيات المتزوجات في وضعية إعاقة تبقى ضعيفة جدًا في المغرب، وهو واقع يعكس عمق التمييز غير المعلن الذي يطال هذه الفئة، حتى في أكثر الحقوق إنسانيةً وبديهيةً؛ فرغم أن بعضهن يشتغلن ويتمتعن بالكفاءة والاستقلالية إلا أن فكرة الزواج، بالنسبة لغالبية الفتيات في وضعية إعاقة، تظل مؤجلة أو مستبعدة، نتيجة نظرة مجتمعية قاصرة تختزل المرأة في شكلها الخارجي وقدرتها الجسدية.
وتؤكد المتحدثة أن أغلب الفتيات اللواتي تزوجن هن من ارتبطن بأشخاص يشاركونهن الوضعية نفسها، وكأن المجتمع مازال يعتقد أن الإعاقة تُقصي الإنسان من التفاعل الطبيعي مع الآخر، وهو ما يعكس، في نظرها، غياباً مؤلماً للوعي، ويستدعي تكثيف الجهود لإعادة الاعتبار لحق الفتيات في وضعية إعاقة في حياة أسرية كريمة، تقوم على الاختيار لا على التنازل.
تمثلات قاصرة
تقول بهيجة الخميسي، إعلامية مغربية كفيفة، ومستفيدة من تجربة تعاون مع إذاعة “أجيال” الفلسطينية، إن حضور الفتاة في وضعية إعاقة داخل الإعلام المغربي مازال محصورًا في زوايا ضيقة، ويغلب عليه الطابع المناسباتي أو الإنساني، بشكل يُكرّس التمثلات القاصرة بدل أن يفككها، وتوضح أن وسائل الإعلام الوطنية نادرًا ما تمنح هذه الفئة مساحة حقيقية للتعبير عن نفسها، أو طرح قضاياها من موقع الفاعل لا المتلقي، معتبرة أن ذلك يُضعف التأثير المطلوب في مسار التمكين.
وترى الخميسي أن التصحيح يبدأ من إدماج فتيات في وضعية إعاقة داخل المؤسسات الإعلامية نفسها، سواء كصحافيات أو معدّات أو مذيعات، لأن التغيير لا يمكن أن يحدث دون أن تكون المعنية جزءًا من صناعة الصورة والخطاب؛ كما تدعو إلى تخصيص برامج دورية تراعي التنوع، وتُبنى بعقلية حقوقية لا إحسانية، موردة أن ذلك وحده الكفيل بإعادة الاعتبار لهذه الفئة داخل الفضاء العمومي.
وتضيف المتحدثة، ضمن تصريحها لهسبريس الإلكترونية، أن بعض القصص التي عاشتها عن قرب، سواء من خلال استقبال فتيات في وضعية إعاقة أو التفاعل مع حالات متداولة، تكشف حجم الصمت المفروض على هذه الفئة، خصوصاً حين يتعلق الأمر بمسائل حساسة مثل التحرش، الاستغلال أو حتى الحلم بالزواج، وتحكي أن بعض الفتيات عبّرن لها عن خوف دائم من البوح، ليس فقط بسبب وصمة المجتمع، بل لأنهن في الغالب لا يملكن أصواتاً تُنصت، ولا منصات تحميهن من الإقصاء أو السخرية.
وترى الإعلامية ذاتها أن دعم الفتيات في وضعية إعاقة لا يكون فقط عبر فتح أبواب المؤسسات، بل أيضاً عبر فتح الأذن والقلب، مؤكدة أن منحهن الحق في التعبير هو أول خطوة نحو العدالة الاجتماعية الحقيقية، وتؤكد أنها وإن كانت تُفضّل عدم الخوض في تفاصيل تجربتها الشخصية مع فقدان السمع والبصر فإنها تحمل وعياً متجذّراً بحجم التحديات التي تواجهها الفتيات في وضعية إعاقة داخل المجتمع المغربي؛ ومن خلال تجربتها الإعلامية تقول إنها استضافت في أكثر من مناسبة فتيات عبّرن، على استحياء، عن أحلام مُجهضة، وأخريات التقت بهن في المغرب خلال لقاءات أو أنشطة شبابية، يحملن قصصاً متشابهة تتقاطع عند نقطة واحدة: الخوف من النبذ، والقلق من المستقبل.
وتستحضر الخميسي حالة فتاة كفيفة أخبرتها خلال تسجيل إحدى الحلقات بأنها لا تستطيع حمل العصا البيضاء في الفضاءات العامة، ليس بسبب عائق جسدي، بل لأن نظرات المجتمع تجعلها تشعر بأنها “عارية من كرامتها”، على حدّ تعبيرها.
وترى الإعلامية أن هذا السلوك، رغم بساطته الظاهرية، يكشف عن عمق التمثلات السلبية التي تحاصر الفتاة في وضعية إعاقة، ولا يمكن تجاوزها إلا عبر تغيير ثقافي شامل، يُعيد الاعتبار للإنسان قبل أن يُصنّفه المجتمع بأيّ شكل من أشكال الاختلاف.
0 تعليق