سيناء.. حيث ينهض التاريخ مع الحاضر - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

 

ليست سيناء قطعة أرض عابرة في جغرافيا هذا الوطن، بل روح ممتدة بين التاريخ والعبور والبعث من جديد. هذه البقعة التي حملت رسالات السماء، واحتضنت أنبياء الله، ومدّت ذراعيها شرقًا لحماية حدود مصر، تعود اليوم لتُحدّثنا من تحت رمالها عن سرّ المصريين القدماء الذين لم يتركوا شبرًا في أرضهم إلا وعمّروه وحمَوه وخططوا لمستقبله.

الكشف الأخير الذي أعلنته وزارة السياحة والآثار في تل الخروبة شمال سيناء، ليس مجرد حدث أثري عابر، بل رسالة واضحة من الماضي إلى الحاضر. البعثة المصرية اكتشفت قلعة عسكرية ضخمة من عصر الدولة الحديثة على طريق حورس الحربي، تمتد على مساحة تقترب من ثمانية آلاف متر مربع، أي ثلاثة أضعاف مساحة القلعة المكتشفة في ثمانينيات القرن الماضي بالموقع ذاته.

هذه القلعة، التي تقع بالقرب من ساحل البحر المتوسط، تُعيد إلى الذاكرة كيف أن المصريين القدماء لم يكونوا مجرد بناة معابد ومقابر، بل أصحاب رؤية دفاعية متقدمة، خططوا بعقل استراتيجي لحماية حدودهم، وربطوا مصر بفلسطين عبر طرق حربية وتجارية مُحصّنة.

الوزير شريف فتحي أكّد أن هذا الكشف يُجسّد عبقرية العقل المصري القديم في ابتكار منظومة دفاعية متكاملة لحماية الشرق. أما الدكتور محمد إسماعيل خالد الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، فأشار إلى أن كل قلعة تُكتشف تُعيد بناء الصورة الكاملة للشبكة العسكرية الدفاعية التي صُنعت بحرفية لا تقل عن عظمة المعمار المدني والديني.

التفاصيل التي وردت في بيان الوزارة تكشف حجم الدهشة:

سور جنوبي بطول 105 أمتار وعرض 2.5 متر، أحد عشر برجًا دفاعيًا، سور زجزاجي بطول 75 مترًا يقسم القلعة ويحيط بمنطقة سكنية للجنود، مدخل مُعدّل أكثر من مرة عبر العصور، برج شمالي غربي، أسوار متعددة، وكميات من الفخار، وأوانٍ مختومة باسم الملك تحتمس الأول، وأحجار بركانية أُحضرت من جزر اليونان عبر البحر، وفرن كبير لصناعة الخبز وبقايا عجين متحجر.

هكذا كانوا. لا يتركون جنديًا بلا خبز، ولا قلعة بلا ميناء، ولا حدودًا بلا عبور آمن.

الدكتور هشام حسين أوضح أن مساحة القلعة الجديدة تعادل ثلاثة أضعاف القلعة القديمة المكتشفة على بعد 700 متر فقط، وأن الموقع ربما يخفي ميناءً عسكريًا ينتظر الكشف عنه خلال الفترة المقبلة.

نحن إذن أمام جزء أصيل من طريق حورس الحربي، الذي كان شريانًا استراتيجيًا لملوك الدولة الحديثة، وسلسلة من القلاع الممتدة من تل حبوة إلى تل البرج والتل الأبيض وغيرها، وكلها تشهد على أن سيناء كانت ولا تزال خط الدفاع الأول وروح الاتصال بين الديار.

اليوم، ومع إعادة إعمار سيناء وتشييد المدن والطرق والأنفاق واستعادة الأمن والتنمية، تأتي هذه الاكتشافات لتؤكد أن الأرض التي نحفر فيها للمستقبل، ما زالت تمنحنا أسرار الماضي. سيناء لا تُفتح مرتين، بل تُولد من جديد كلما نظر المصري إلى ترابها بوعي القلب لا بحدود الخرائط.

هذا الكشف ليس مجرد أثر.. إنه وثيقة إثبات جديدة تقول إن الذين حموا مصر قديمًا من هذا الشرق، هم أنفسهم الملهمون لمن يعمرونها اليوم. هنا تتعانق الحماية بالبناء، والتاريخ بالتنمية، والحاضر بظل الأجداد المصريين القدماء الذين لا يزالون يحرسوننا من تراب لا يشيخ.

سيناء ليست صفحة في كتاب الجغرافيا، بل كتاب الروح المفتوح على الدوام

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق