في خضم الاضطرابات الاقتصادية التي تهز النظام المالي العالمي، ومع اقتراب الأونصة من 4 آلاف دولار للمرة الأولى في التاريخ، يتجه التفكير الجماعي للمستثمرين نحو سؤال محوري: من هو الرابح الحقيقي من هذا الارتفاع الجنوني في أسعار الذهب؟
بحسب تحليلات دولية متقاطعة، فإن الرابحون من ارتفاع أسعار الذهب، ليس في خزائن المشترين ولا في محافظ البنوك المركزية التي تكدس السبائك منذ أعوام، بل في أعماق الأرض نفسها، حيث المنقبون وشركات التعدين هم المستفيد الأكبر من موجة الصعود الجديدة، بعدما تحولت عمليات التنقيب إلى كنز غير مسبوق من العوائد والمكاسب.
عمليات التنقيب عن الذهب
تؤكد صحيفة وول ستريت جورنال في تقرير لها، أن الاستثمارات في مجال التنقيب عن الذهب تضاعفت خلال العامين الماضيين، في ظل سباق عالمي محموم نحو اكتشاف مناجم جديدة ورفع الطاقة الإنتاجية.
وأشارت الصحيفة في تقريرها، إلى أن الشركات الكبرى التي كانت تتوخى الحذر في إنفاقها باتت اليوم تتوسع في الحفر، مدفوعة بقناعة راسخة بأن الأسعار الحالية ليست سوى مرحلة انتقالية نحو مستويات تاريخية جديدة، وأن عصر "الذهب الرخيص" قد انتهى فعليا.

وأوضح التقرير أن ما كان ينظر إليه سابقا كمجال عالي المخاطر أصبح اليوم ملاذا استثماريا بحد ذاته، تحكمه معادلة بسيطة الا وهي: كلما زادت الفوضى السياسية والاقتصادية، ازداد بريق الذهب ولمعانه، وهذا ما نعيشه خلال هذه السنوات.
5 عوامل تتسبب في ارتفاع أسعار الذهب عالميا
لا يمكن قراءة مشهد الارتفاع الكبير في أسعار الذهب بمعزل عن منظومة من العوامل المترابطة التي تتفاعل بقوة في خلفية الاقتصاد العالمي، فهناك 5 عوامل رئيسية تعد السبب الرئيسي في ارتفاع أسعار الذهب وهي:
- توجه مجلس الاحتياطي الفيدرالي نحو خفض متتالي للفائدة، ما يضعف الدولار ويجعل الذهب أكثر جذبا كملاذ استثماري.
- اتساع رقعة التضخم في الاقتصاد الأمريكي، الأمر الذي يدفع المستثمرين لحماية أموالهم من التآكل عبر الأصول الثابتة.
- تصاعد التوترات الجيوسياسية في مناطق حساسة من العالم، من الشرق الأوسط إلى شرق أوروبا.
- تراجع الثقة في صناع القرار بالولايات المتحدة، وسط انقسامات سياسية وتضارب في التوجهات المالية.
- الإغلاق الحكومي الأمريكي، وهو عامل نفسي مؤثر يزيد من نزوح المستثمرين نحو الذهب.
هذه المحركات مجتمعة خلقت بيئة أشبه بـ"العاصفة المثالية" التي تدفع الذهب إلى صدارة المشهد العالمي من جديد.

أسعار الذهب تصل إلى 5 آلاف دولار للأونصة في هذه الحالة
لكن خلف هذه العوامل المعقدة، يقف الطلب الاستثماري الفردي كأحد أبرز مفاتيح المشهد الحالي، فالمستثمرون الأفراد ـ وبالأخص عشاق الصناديق المتداولة في البورصات ـ عادوا بقوة إلى الساحة، ليصبحوا الوقود الحقيقي لقفزات أسعار الذهب.
ووفقا لبيانات بلومبرج، فقد أضاف هؤلاء المستثمرون أكثر من 100 طن من الذهب خلال سبتمبر الماضي وحده، وهي أكبر زيادة شهرية منذ ثلاث سنوات، مما يعكس تحول المزاج الاستثماري العالمي من المضاربة قصيرة الأجل إلى التحوط طويل المدى.
وفي قراءة أكثر جرأة، يرى بنك جولدمان ساكس أن مجرد تحويل 1% فقط من السندات الأمريكية إلى ذهب كفيل بدفع الأسعار إلى 5 آلاف دولار للأونصة، فهذه الفرضية التي كانت تعد خيالية قبل أعوام، تبدو اليوم أكثر واقعية مع تضاؤل ثقة المستثمرين في الديون الأمريكية، واتساع القناعة بأن الذهب هو العملة الأخيرة التي لا تصدر بقرار سياسي.

انتهى عصر “الذهب الرخيص” ولا تراجع في الأسعار
ورغم أن كثيرين يراهنون على استمرار الصعود في أسعار الذهب ، فإن قراءة أعمق للمشهد تكشف أن ما يحدث ليس مجرد ارتفاع تقليدي في الأسعار، بل تحول بنيوي في مفهوم القيمة ذاته، فالعالم الذي انهكته الديون، والتضخم، وحروب العملات، يبحث الآن عن أصل واحد لا يفقد معناه بمرور الوقت.
وفي هذا المشهد المليء بالتحولات، يبقى المنقبون عن الذهب هم المستفيد الأكبر، ليس فقط لأنهم يبيعون المعدن بأسعار قياسية، بل لأنهم يمتلكون البنية التحتية للمستقبل في عالم يعيد تقييم كل شيء على أساس من يملك المورد الحقيقي لا رمزه المالي.
0 تعليق