دراسة علمية مغربية تقيس منسوب "الثقة الشبابية" في المجالس الترابية - بلس 48

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

أظهرت دراسة علمية محكمة، نشرت حديثا، أن الثقة السياسية لدى الشباب المغربي تعرف تراجعا مقلقا، خصوصا تجاه المؤسسات المركزية، مثل الحكومة والبرلمان والأحزاب السياسية، مقابل مستويات ثقة أعلى نسبيا في المجالس الترابية الإقليمية والجهوية.

الدراسة التي نُشرت في مجلة “SocioEconomic Challenges” الألمانية في أكتوبر الجاري أنجزها كل من الدكتور محمد شريمي والدكتور محمد بن عيسى، ضمن مشروع بحثي سوسيولوجي يروم تحليل علاقة الشباب بالمؤسسات السياسية في ظل التحولات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة التي يعرفها المغرب.

وانطلقت الدراسة من إشكالية رئيسية تمثلت في التساؤل حول مدى تأثير الأداء المؤسسي والقرب الجغرافي والإداري على بناء أو تآكل الثقة السياسية لدى فئة الشباب؛ فمع تصاعد معدلات البطالة، واتساع الفوارق الاجتماعية والمجالية بين المدن والقرى، وتدهور جودة الخدمات العمومية، برز سؤال ما إذا كانت هذه التحديات تدفع الشباب إلى فقدان الثقة في الدولة ومؤسساتها المنتخبة، أم إنها تفتح المجال لبناء ثقة بديلة في الفاعلين المحليين الأكثر قربا وملامسة لحاجيات المواطنين..

وللإجابة عن هذه الإشكالية صاغ الباحثان فرضيتين أساسيتين: الأولى تفترض أن الثقة السياسية تتراجع كلما تفاقمت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية؛ والثانية تفترض أن الثقة تقلّ كلما ابتعدت المؤسسة عن المواطن، أي إن المؤسسات المركزية تحظى بثقة أدنى مقارنة بالمجالس المحلية والجهوية.

واستندت الدراسة إلى منهج وصفي تحليلي في إطار مقاربة كمية وكيفية، عبر بحث ميداني أُنجز سنة 2023 شمل 400 استمارة موجّهة إلى شباب تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة من مختلف أقاليم الجهة، إلى جانب 20 مقابلة معمقة و5 مجموعات بؤرية، لتقديم فهم شامل لأنماط الثقة والتصورات السائدة حول المؤسسات والخدمات العمومية.

وأظهرت النتائج المتوصل إليها أن مستوى الثقة في الحكومة لا يتجاوز 16 في المائة، بينما لا تتعدى الثقة في البرلمان 21 في المائة، وتنخفض إلى 15 في المائة فقط بالنسبة للأحزاب السياسية. وفي المقابل تسجّل المجالس الجهوية والجماعات المحلية نسبا أعلى (41 في المائة و40 في المائة)، ما يدعم الفرضية الثانية القائلة بأثر القرب المؤسساتي في تعزيز الثقة. أما الفرضية الأولى فجاءت النتائج الجزئية لتحدّ منها، إذ لم تُظهر التحليلات الإحصائية أي علاقة ذات دلالة بين الدخل الأسري ومستوى الثقة السياسية، ما يوحي بأن أزمة الثقة أصبحت ظاهرة بنيوية وعامة تتجاوز الفوارق الاجتماعية والاقتصادية.

كما أبرزت المعطيات الكيفية المستخلصة من المقابلات والمجموعات البؤرية أن فقدان الثقة ناتج بالأساس عن ضعف الكفاءة المؤسسية وغياب الشفافية، ونقض الوعود الانتخابية، وتدهور جودة الخدمات في الصحة والتعليم والتشغيل؛ فقد عبّر معظم المشاركين عن إحباطهم من “غياب العدالة في توزيع الموارد” و”ضعف التواصل الرسمي مع المواطنين”، إضافة إلى انطباع عام بأن العمل السياسي أصبح بعيدا عن هموم الشباب اليومية.

وخلصت الدراسة إلى أن إعادة بناء الثقة السياسية تتطلب إصلاحا عميقا في أساليب الحكامة، يقوم على إشراك الشباب في صنع القرار وتفعيل آليات المساءلة والشفافية في التدبير العمومي، كما ترى أن استعادة ثقة الأجيال الصاعدة ليست مسألة سياسية فحسب، بالقدر الذي تشكل ركيزة أساسية لتعزيز صمود الدولة في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تهدد استقرارها ومستقبلها التنموي.

وفي هذا الصدد يرى الدكتور محمد بن عيسى، باحث في علم الاجتماع بجامعة عبد المالك السعدي، أن نتائج هذه الدراسة تعكس بوضوح ما تعيشه الساحة المغربية من أزمة ثقة عميقة لدى الجيل الجديد، المعروف بجيل Z، الذي يعبّر اليوم عن غضبه وإحباطه من خلال أشكال متعددة من الاحتجاج الرقمي والميداني.

وأورد بن عيسى لهسبريس أن هذه الفئة، التي وُلدت في زمن التحول الرقمي والانفتاح الإعلامي، أصبحت أكثر وعيا بغياب العدالة الاجتماعية وضعف الفرص، وأقل استعدادا لتصديق الخطاب الرسمي أو الانخراط في قنوات المشاركة التقليدية التي فقدت مصداقيتها، مشددا على أن تراجع الثقة في المؤسسات يتجاوز كونه مؤشرا سياسيا إلى دق ناقوس خطر اجتماعي ينذر بتزايد الفجوة بين الشباب والدولة، خصوصا في ظل استمرار التفاوتات المجالية وضعف الحكامة في القطاعات الحيوية كالتعليم والصحة والتشغيل.

وأضاف الباحث ذاته أن الاحتجاجات الشبابية التي يشهدها المغرب مؤخرا ليست معزولة عن هذا السياق، إذ تمثل امتدادا طبيعيا لتراكمات طويلة من الإقصاء السياسي والاجتماعي؛ فـ”جيل زد” لا يطالب فقط بالشغل أو تحسين الخدمات الاجتماعية، وإنما يسائل مشروعية الفعل السياسي وجدوى المؤسسات في تلبية حاجاته وتحقيق الكرامة والعدالة.

وأبرز المتحدث نفسه أن هذا الجيل أصبح أكثر قدرة على التنظيم الذاتي عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وأكثر جرأة في مساءلة السلطة ومواجهة الروايات الرسمية، وهو ما يفسّر الطابع الأفقي والعفوي للحركات الاحتجاجية الراهنة التي تفتقد قيادة واضحة لكنها تعبّر عن وعي جماعي جديد يبحث عن معنى المشاركة والانتماء.

كما أكد الدكتور بن عيسى أن استعادة الثقة السياسية تمرّ عبر إصلاح جذري في أسلوب تدبير الشأن العام، يقوم على الشفافية والمساءلة وإشراك الشباب في صياغة السياسات العمومية بدل الاكتفاء بخطاب المشاركة الشكلية، داعيا إلى إعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس جديد من التعاقد والثقة المتبادلة، لأن غياب هذا الأساس هو ما يغذّي اليوم أشكال الرفض والعزوف وحتى الهجرة غير النظامية.

واختتم الباحث تصريحه بالتأكيد على أن ما نلاحظه في الشارع المغربي اليوم ليس تمردا بلا معنى، بل صرخة جيل يشعر بأن مستقبله يُصادر، فيما استرجاع الثقة هو الخطوة الأولى نحو استقرار اجتماعي وسياسي حقيقي، وفق تعبيره.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق