شهدت مصر خلال العقد الأخير واحدة من أكبر التحولات الاقتصادية في تاريخها الحديث، وكان قطاع الطاقة في قلب هذا التحول، خاصة منظومة أسعار البنزين والسولار. فمنذ عام 2014، بدأت الدولة المصرية تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي شامل أعاد هيكلة الدعم الحكومي للوقود، وتحويله تدريجيًا إلى نظام تسعير مرن يرتبط بالمتغيرات العالمية. هذه الرحلة لم تكن مجرد تعديل في الأسعار، بل كانت مسارًا استراتيجيًا لإصلاح خلل مزمن في المالية العامة وتحقيق العدالة في توزيع الدعم.
البداية: إصلاح الدعم في ظل إرث ثقيل (2014 – 2015)
حتى عام 2014، كانت أسعار البنزين والسولار في مصر من الأرخص عالميًا، إذ بلغ سعر لتر السولار نحو 1.10 جنيه، والبنزين 80 أقل من جنيه واحد. لكن هذا الدعم الكبير كان يُكلّف الدولة أكثر من 120 مليار جنيه سنويًا، أي ما يعادل تقريبًا ربع الموازنة العامة في ذلك الوقت.
ومع تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم، بدأت الحكومة أولى خطوات الإصلاح في يوليو 2014 برفع أسعار الوقود بنسب تتراوح بين 40% و78%، في خطوة اعتُبرت جريئة لكنها ضرورية لإنقاذ الاقتصاد من عجز مزمن في الموازنة.

الهدف لم يكن فقط تقليل الدعم، بل إعادة توجيهه إلى مجالات التنمية والخدمات العامة مثل الصحة والتعليم والإسكان الاجتماعي، مع إطلاق برامج دعم نقدي مباشرة للفئات الأكثر احتياجًا مثل تكافل وكرامة، لتخفيف أثر الإصلاحات على المواطنين.
مرحلة ما بعد تعويم الجنيه (2016 – 2018)
في نوفمبر 2016، أقدمت مصر على واحدة من أهم الخطوات في تاريخها الاقتصادي بتحرير سعر الصرف، وهو ما أدى إلى انخفاض قيمة الجنيه وارتفاع تكلفة استيراد الوقود الخام والمشتقات البترولية.
تأثرت أسعار البنزين والسولار بشكل مباشر، فارتفع لتر البنزين 92 من 3.5 جنيه إلى 6.75 جنيه في غضون عامين، بينما ارتفع السولار من 2.35 إلى 5.5 جنيه.

ورغم هذه الزيادات، أكدت الحكومة في بياناتها أن أسعار الوقود لا تزال مدعومة جزئيًا، وأن الهدف هو الوصول إلى السعر العادل الذي يعكس التكلفة الحقيقية للإنتاج والنقل والتوزيع دون تحميل الدولة خسائر مالية متكررة.
في هذه المرحلة، كان المواطن المصري يواجه ضغوطًا معيشية، لكن الدولة توسعت في إجراءات الحماية الاجتماعية ودعمت النقل العام والمشروعات كثيفة العمالة لتخفيف الأعباء.
2019: بداية عصر التسعير التلقائي
شكّل عام 2019 نقطة تحول رئيسية في سياسات تسعير الوقود بمصر، إذ أعلنت آلية التسعير التلقائي للبنزين والسولار، والتي تعتمد على مراجعة الأسعار كل ثلاثة أشهر وفقًا لمتوسط أسعار النفط العالمية وسعر صرف الجنيه أمام الدولار، مع وضع حد أقصى للزيادة أو الخفض بنسبة 10% في كل مراجعة.
أتاحت هذه السياسة تحقيق قدر من المرونة، وربطت السوق المحلية بالمتغيرات الدولية، بحيث لا تتحمل الموازنة أعباء دعم غير مستدام، وفي الوقت نفسه تتيح تخفيض الأسعار عند تراجع الأسعار العالمية.

ففي مطلع تطبيق الآلية، شهد السوق المصري أول خفض فعلي في الأسعار بعد سنوات من الارتفاع، ما عكس التزام الحكومة بالمعايير الفنية وليس بالقرارات السياسية فقط.
2020: جائحة كورونا وانعكاسات غير متوقعة
مع تفشي جائحة كورونا وانخفاض الطلب العالمي على النفط إلى مستويات تاريخية، تراجعت أسعار الخام إلى ما دون 40 دولارًا للبرميل. في تلك الفترة، قامت لجنة التسعير التلقائي في مصر بخفض أسعار البنزين والسولار مرتين خلال العام، ليصل لتر البنزين 92 إلى 7 جنيهات، والسولار إلى 6.75 جنيه.
كانت تلك المرة الأولى التي يشعر فيها المواطن بانخفاض حقيقي في الأسعار بفضل ارتباط التسعير بالأسواق العالمية، في خطوة عززت الثقة في آلية الإصلاح الجديدة.
2022 – 2023: الأزمات الجيوسياسية تعيد الارتفاع
لكن ما إن بدأ الاقتصاد العالمي يتعافى حتى اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، فارتفعت أسعار النفط مجددًا متجاوزة 120 دولارًا للبرميل في بعض الأشهر. ومع تراجع قيمة الجنيه المصري أمام الدولار، ارتفعت تكلفة استيراد المنتجات البترولية بصورة غير مسبوقة.

استجابت لجنة التسعير برفع الأسعار تدريجيًا، فوصل لتر البنزين 92 إلى نحو 10 جنيهات، والبنزين 95 إلى 11.5 جنيه، والسولار إلى 9.25 جنيه في نهاية 2023.
ورغم ذلك، بقيت الأسعار في مصر أقل من مثيلاتها في العديد من دول المنطقة، إذ تجاوز السعر في المغرب وتونس ما يعادل 20 جنيهًا مصريًا للتر الواحد.
2024 – 2025: التوازن بين الأسعار والاستقرار الاجتماعي
في عامي 2024 و2025، سعت الحكومة إلى تحقيق توازن دقيق بين الضغوط العالمية وقدرة المواطنين الشرائية.
تم تثبيت الأسعار لعدة دورات متتالية رغم استمرار ارتفاع أسعار النفط عالميًا، ما عكس رغبة الدولة في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي وعدم زيادة الأعباء المعيشية، خاصة في ظل استمرار موجات التضخم العالمي وتداعيات الصراعات في الشرق الأوسط.

في المقابل، تم التوسع في مشروعات التحول للطاقة النظيفة واستخدام الغاز الطبيعي كوقود بديل في السيارات. وبلغ عدد السيارات المحوّلة للعمل بالغاز الطبيعي أكثر من 600 ألف سيارة بحلول منتصف 2025، ضمن مبادرة وطنية تهدف إلى خفض استهلاك البنزين والسولار وتقليل الانبعاثات.
كما أطلقت الدولة برامج لدعم السيارات الكهربائية وتشجيع التصنيع المحلي للمركبات الصديقة للبيئة.
الوقود كمرآة للإصلاح الاقتصادي
تُظهر رحلة أسعار الوقود في مصر من 2014 إلى 2025 كيف تحولت السياسات من منطق “الدعم الواسع” إلى “الاستدامة الاقتصادية”.
فقد تراجع دعم المواد البترولية من نحو 126 مليار جنيه في 2014 إلى أقل من 30 مليارًا في موازنة 2024/2025، أي بنسبة انخفاض تتجاوز 75%.

ورغم الصعوبات التي واجهها المواطن في البداية، إلا أن هذه الإصلاحات أسهمت في تقليل العجز المالي، وتوجيه الموارد إلى مجالات أكثر إنتاجية مثل البنية التحتية، وتحسين كفاءة استخدام الطاقة.
إصلاح مستمر رغم التحديات
بين عامي 2014 و2025، لم تكن قصة أسعار البنزين والسولار مجرد تقلبات رقمية، بل فصلًا من فصول إعادة بناء الاقتصاد المصري. فالدولة سعت إلى تحقيق التوازن بين متطلبات الإصلاح المالي والعدالة الاجتماعية، في وقت يواجه فيه العالم كله اضطرابات غير مسبوقة في أسواق الطاقة.
ومع استمرار تطبيق آلية التسعير التلقائي، والتوسع في الطاقة النظيفة، تبدو مصر ماضية في طريقها نحو سوق وقود أكثر كفاءة واستدامة، حيث يعكس السعر الحقيقي التكلفة الفعلية ويضمن الاستخدام الرشيد للموارد.
0 تعليق