أزرعُ على سطح منزلي منذ سنوات، وفي نهاية موسم كل نبات، أجمع البذور في أكياس البلاستيك الخاصة بالبقالة الموجودة في المطبخ لإعادة زراعتها مجددًا، خاصة بذور الجرجير، لأنها بمثابة بذرة ذهبية بالنسبة لي، بسبب نموها السريع (لا تستغرق أكثر من 3 أيام)، ما يمكنني من اختبار التربة أو تذكيري بريّ أصص زرعتُها بنباتات تستغرق مدة طويلة.
مع الخريف نبدأ في زراعة كل النباتات الورقية تقريبًا، لذلك ذهبتُ لبذوري المفضلة، لأجد الكيس مفتتًا تمامًا، لدرجة أن حجم كل قطعة لا يزيد على حجم بذرة الجرجير الدقيقة (يزيد قليلًا على حجم نملة)، ما يجعل من المستحيل فصلهما، لذلك اضطررتُ لغرسهما معًا في التربة، مع إحساس شديد بذنب الإسهام في تلويث التربة، حتى إن كانت في أصص.
يواصل التلوث بالبلاستيك التمدد في السنوات الأخيرة، وتتفاقم معه صعوبات المكافحة والعلاج، خاصةً مع تزايد قوة أصحاب المصالح من المنتجين، إذ يمثلّون حائط سد أمام أيّ محاولات لتقليل إنتاج -أو ترشيد استهلاك- البلاستيك، ليستمر العالم في دفع ضريبة ذلك من صحّته وبيئته.
أصحاب المصالح من بعض الدول المنتجة للبتروكيماويات كانوا السبب في فشل إبرام معاهدة البلاستيك العالمية، إذ لم يتمكن 1400 مندوب من 183 دولة من الاتفاق على نص ملزِم قانونًا لمعالجة التلوث البلاستيكي، خلال اجتماعهم بمقر الأمم المتحدة في العاصمة السويسرية (جنيف)، خلال المدة بين 5-14 أغسطس/آب الماضي.
وكانت المفاوضات الأخيرة بشأن معاهدة البلاستيك العالمية الأطول بين المفاوضات الستّ التي أُجريت حتى الآن بهذا الشأن.
تاريخ مفاوضات معاهدة البلاستيك الدولية
انطلقت المفاوضات الحكومية الدولية في 2 مارس/آذار 2022، بعد اعتماد برنامج الأمم المتحدة للبيئة القرار 5/14 بعنوان: "إنهاء التلوث البلاستيكي: نحو صك دولي مُلزم قانونًا"؛ بهدف التوصل إلى إلزام قانوني دولي لمعالجة تلوث البلاستيك والإدارة غير المسؤولة للنفايات البلاستيكية، إضافة إلى تحسين إنتاج البلاستيك وتصميمه.
ورغم تأييد 100 دولة للمعاهدة، ولما أسفرت عنه تلك المناقشات؛ فإن عددًا من الدول النفطية التي لديها استثمارات ضخمة في صناعة البتروكيماويات المنتجة للبلاستيك، تسبّبت في فشل التوقيع.
ومن البنود التي وضعتها المعاهدة الدولية للبلاستيك في اجتماع نهاية العام الماضي: خفض الإنتاج السنوي، والتخلص التدريجي من بعض المواد الكيميائية والبلاستيك أحادي الاستعمال.

وفي الربع الأول من العام الجاري، طلبت وزارة البيئة المصرية من منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو) دعم حملة توعية تستهدف الحدّ من البلاستيك أحادي الاستعمال (أكياس البقالة الخفيفة خصوصًا)، وصممت المنظمة الحملة بعنوان "بدّلها"؛ بهدف استبدال أكياس سميكة قابلة لتكرار الاستعمال بالخفيفة، ويدفع المستهلك تكلفتها، وحددت شهر مارس/آذار موعدًا لانطلاقها.
الحملة المرتقبة آنذاك أثارت غضب مصنّعي البلاستيك؛ عبرّوا عنه في لقاء مع أعضاء اتحاد الصناعات المصرية، في يناير/كانون الثاني 2025.
وقال رئيس شعبة البلاستيك والمطاط في الاتحاد خالد أبو المكارم، إن استثمارات الصناعة في مصر تبلغ 14.5 مليار دولار، نحو 30% منها ترتبط بعمليات السحب لأكياس البلاستيك.
وأضاف أن عدد مصانع البلاستيك الرسمي المُسجل وصل إلى 1680، إضافة إلى مصانع أخرى غير مسجلة، تضمن تشغيل 500 ألف عامل، "وهو ما يفترض ضرورة وضع مصالح هؤلاء المصنّعين في الحسبان"، وفق بيان للاتحاد حينها.
واقترح معظم المشاركين تعديل شعار حملة التوعية إلى "جمعّها واكسب منها"، في إشارة إلى عمليات إعادة التدوير.
وكما حدث في المعاهدة الدولية للبلاستيك، رضخت اليونيدو لضغوط المصنّعين، وأجلّت توقيت إطلاق حملة التوعية لمدة تزيد على شهرين، لحين تعديل الشعار، الذي أصبح بعد ذلك "قلّلها"، للإشارة إلى أن الهدف ليس القضاء على صناعة البلاستيك، بل تخفيض الاستهلاك فقط، وفق تصريحات المسؤولين عن الحملة حينها.
ليست شرًا كاملًا
محاولات العلاج ومقاومة أصحاب المصالح موجودة في كل دول العالم، مع البلاستيك أو غيره من المنتجات التي يمكن أن تضرّ بالبيئة، حتى إن كانت محاولات العلاج لا تستهدف القضاء على تلك الصناعات، كما كان يردّد المسؤولون عن حملة التوعية المصرية.
ولا يمكن عدّ كل منتجات البلاستيك شرًا، بل كثير من المنتجات لا يمكن الاستغناء عنها، خاصة التي تدخل في صناعات مثل الأجهزة المنزلية.
ومخاطر البلاستيك على البيئة غالبًا ما تكون نتيجة لمنتجات التعبئة والتغليف؛ وعلى رأسها كيس التسوق البلاستيك الخفيف أحادي الاستعمال الذي يوزَّع مجانًا، وهو يُصنّع من بلاستيك لا يتحلل بمرور الوقت، ويتسبب في تلوث البيئة لصعوبة جمعة وإعادة تدويره، وفق تصريح سابق لمستشار المواد البلاستيكية والبوليمرات، والمدير السابق لمركز تكنولوجيا البلاستيك في مصر، الدكتور أحمد عبدالقادر.
وأضاف أنه في إطار محاولات علاج مشكلة التلوث البلاستيكي تَقرَّرت إضافة بعض المواد التي تعمل على تفتيته (كما حدث في كيس بذور الجرجير)، لكن الدراسات أثبتت أن التفتيت زاد من خطورة التلوث البلاستيكي؛ "لذلك أُوصي بعدم استعمال هذه المواد في الصناعة محليًا وفي كثير من دول العالم".
مخاطر البلاستيك على البيئة تتجاوز ما قالته وزيرة البيئة المصرية السابقة ياسمين فؤاد، عند إطلاق حملة التوعية في مصر، عن الأغنام النافقة في صحراء القلعان دون سبب واضح، حتى أثبت التحليل أن معدتها تحتوي على قطع من البلاستيك.
فخطورة البلاستيك أنه لا يتحلل بالكامل قبل مرور 500 عام، وأكد العديد من العلماء أن ذلك قد يؤدي إلى مشكلات صحية تتعلق بالخصوبة والأعصاب، كما يقتل ملايين الحيوانات سنويًا.
وربط مقال سابق للكاتب في مجال الاستدامة والطاقة الخضراء فيكتور تاتشيف مخاطر البلاستيك بحجم الإنتاج، قائلًا، إن العالم أنتج حتى الآن 8 مليارات طن من البلاستيك، نصفها من النوع أحادي الاستعمال، الأكثر خطرًا على البيئة، ولا يُعاد تدوير أكثر من 9% من الأطنان المليارية تلك.
كما استعرض أرقامًا صادمة بشأن البلاستيك أحادي الاستعمال، مثل: زجاجات البولي إيثيلين تيريفثالات، إذ يبلغ إنتاجها السنوي 500 مليار عبوة، إضافة إلى 5 تريليونات كيس أحادي الاستعمال، وينجم عنهما 400 مليون طن من النفايات البلاستيكية سنويًا، وفق تقديرات الأمم المتحدة.
بدورها، قالت منظمة "ذا أوشن كلين أب" إن 38 كيلوغرامًا من النفايات البلاستيكية تدخل المحيطات كل ثانية.
وتوقعت المنظمة زيادة النفايات البلاستيكية في المياه بمقدار 3 أضعاف بحلول 2040، إذا لم تُتخذ إجراءات تحدّ من إنتاج البلاستيك واستهلاكه، ومع ذلك لا أمل قريبًا في علاج التلوث البلاستيكي، باستثناء محاولات فردية في بعض الدول، مثل اليابان.
حياة حسين- صحفية مصرية متخصصة في قضايا الاقتصاد والبيئة والمناخ.
هذا المقال يمثّل رأي الكاتبة، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..
0 تعليق