تتصاعد من جديد المواجهة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بعدما بدت العلاقات التجارية بين الجانبين في طريقها إلى الاستقرار النسبي خلال الأشهر الماضية، غير أن الخطوات الأخيرة التي اتخذتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والمتمثلة في طرح حزمة جديدة من المطالب وفتح ملفات تنظيمية شائكة، أعادت التوتر إلى الساحة وأيقظت هواجس حربٍ تجارية جديدة قد تضع التحالف الاقتصادي الأطلسي أمام اختبار قاسٍ.
ويبدو أن محاولات واشنطن لإعادة صياغة قواعد التجارة عبر الأطلسي تحت شعار “العدالة والتوازن” تصطدم مجددا بجدار الرفض الأوروبي، إذ تعتبر بروكسل أن الإدارة الأميركية تسعى لتجاوز حدود النقاش الجمركي نحو السيطرة على السياسات الرقمية والبيئية داخل الاتحاد، بما يمس جوهر السيادة التنظيمية الأوروبية، ويعيد العلاقات الاقتصادية إلى نقطة الصفر.
تفاصيل أزمة ترامب مع الاتحاد الأوروبي
بعد أشهر من الهدوء النسبي الذي أعقب توقيع “اتفاق التجارة المتبادلة والعادلة والمتوازنة” في يوليو 2025، عاد التوتر ليخيم على الأجواء، فقد قدمت واشنطن في مطلع أكتوبر مقترحا جديدا تطالب فيه أوروبا بتنازلات إضافية تتعلق بالتشريعات التقنية والبيئية، إضافة إلى إعادة النظر في سياسات التحول الأخضر.

وبحسب تقرير نشرته سكاي نيوز، وصفت مصادر مطلعة المطالب الأميركية بأنها “مبالغ فيها” وتشكل خرقا للتفاهمات السابقة بين واشنطن والاتحاد لأوروبي، والتي جنبت العالم حربا تجارية كبرى العام الماضي.
ومن جانبه، تعامل الاتحاد الأوروبي مع المقترح الأميركي الجديد بقدر كبير من الحذر، معتبرًا أن أي تنازل جديد قد يُفسَّر على أنه رضوخ لضغوط الإدارة الأميركية في وقت تواجه فيه أوروبا تحديات داخلية ضخمة، من الحرب في أوكرانيا إلى أزمات الطاقة والتباطؤ الصناعي.
طريق مسدود للمفاوضات بين واشنطن وبروكسل
يرى باحثون في العلاقات الدولية أن التطورات الأخيرة تشير إلى أن المفاوضات بين واشنطن وبروكسل تقترب من طريق مسدود، فبينما تصر إدارة ترامب على إعادة صياغة الاتفاق السابق ليشمل ملفات المناخ والحوكمة الرقمية، تتمسك أوروبا بضرورة احترام استقلالها التنظيمي وعدم إخضاع سياساتها الداخلية لمعايير أميركية.
ويشير الخبير في تحليل السياسات العامة، أبو بكر الديب، إلى أن الاتفاق المؤقت الذي وقع في صيف 2025 كان بمثابة “هدنة اقتصادية”، لكنه لم يعالج جذور الخلافات الحقيقية، مضيفا أن “الولايات المتحدة عادت لتطرح حزمة مطالب إضافية وصفتها بروكسل بأنها غير واقعية، من بينها تعديل تشريعات البيئة والرقمنة، وإعادة النظر في سياسات التحول الأخضر، وهو ما ترفضه أوروبا باعتباره يمس استقلال قرارها الاقتصادي”.

وأكد الديب، في تصريحات لسكاي نيوز، أن الأوروبيون يجدون أنفسهم أمام معضلة معقدة، فمن جهة، يعتمدون جزئيا على الدعم الأميركي في مواجهة الحرب بأوكرانيا، ومن جهة أخرى يواجهون ضغوطا داخلية من قطاعات صناعية كبرى تخشى خسارة السوق الأميركية، مما يجعل أي خطوة تفاوضية محفوفة بالمخاطر السياسية والاقتصادية.
واشنطن: قواعد بروكسل التجارية “عبئا تنظيميا غير مبرر”
وفق تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية، طالبت الإدارة الأميركية الاتحاد الأوروبي بإعادة النظر في بعض بنود تشريعاته البيئية، خصوصًا تلك التي تلزم الشركات الأجنبية بتقديم “خطط التحول المناخي” ضمن سياسات العناية الواجبة في سلاسل التوريد، كما دعت واشنطن إلى استثناء الشركات الأميركية من القواعد التي تعتبرها “عبئا تنظيميا غير مبرر”.
ومن جانبها، وصفت إدارة ترامب هذه القوانين بأنها “تجاوز تنظيمي خطير” يفرض أعباء اقتصادية على الشركات الأميركية، مطالبة بإلغائها أو تعديلها، في المقابل، ترى المفوضية الأوروبية أن تلك القواعد تمثل جوهر التزام القارة بالتحول الأخضر، وأن التراجع عنها يعني تقويض أحد أهم إنجازات الاتحاد في العقد الأخير.

“التكنولوجيا” جبهة صراع جديدة بين أمريكا والاتحاد الأوروبي
لم تتوقف المطالب الأميركية عند القضايا البيئية، بل امتدت إلى ملف التكنولوجيا، إذ تضغط واشنطن على بروكسل لتخفيف القيود المفروضة على عمالقة التكنولوجيا الأميركيين، في ظل قوانين أوروبية صارمة تهدف إلى حماية المنافسة ومنع الاحتكار.
وهذه الخطوة، وفق محللين، قد تفجر مواجهة جديدة بين الجانبين حول مستقبل الاقتصاد الرقمي العالمي، خاصة مع اختلاف الرؤى حول حماية البيانات والذكاء الاصطناعي والتجارة الإلكترونية.
ويرى خبير الشؤون الأوروبية محمد رجائي بركات، أن من الصعب على الاتحاد الأوروبي القبول الكامل بالمطالب الأميركية، خصوصًا في ظل التحديات الراهنة التي تواجهها القارة، مشيرا إلى إن “المباحثات المقبلة ستكون معقدة للغاية، وقد تدفع الرئيس ترامب إلى التراجع عن بعض الشروط لتفادي القطيعة مع أوروبا، لما لذلك من تداعيات سلبية على الاقتصاد الأميركي أيضًا.
وأضاف، في تصريحات نقلتها سكاي نيوز، أن الولايات المتحدة وأوروبا تعلمان أن استمرار الخلافات سيضر بمصالح الطرفين، لكن في الوقت نفسه فإن التنازل المفرط لأي منهما قد يقرأ داخليا كضعف سياسي، ما يجعل الوصول إلى تسوية عادلة أمرا بالغ الصعوبة.

هل يعود شبح الحرب التجارية؟
في ضوء هذا التصعيد المتبادل، تبدو العلاقات التجارية بين واشنطن وبروكسل مقبلة على مرحلة دقيقة، تتأرجح بين التفاوض الحذر والانفجار الكامل، فبينما تحاول أوروبا حماية نموذجها الاقتصادي والسيادي، تواصل واشنطن الضغط لتحقيق مكاسب استراتيجية أوسع.
ومع تعقد الملفات وتشابك المصالح، يبقى السؤال المطروح: هل نشهد جولة جديدة من الحرب التجارية عبر الأطلسي، أم أن العقلانية الاقتصادية ستنتصر في النهاية وتعيد الطرفين إلى طاولة التفاهم؟، هذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة.
0 تعليق